شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-06-04 |
الحُولة ورحلة «العودة» إلى الدولة آمال مثقلة بذكريات قديمة |
تبرز تجربة سنوات الحرب في منطقة الحولة، أقصى الشمال الغربي لريف حمص، بعد عودتها إلى سيطرة الدولة السورية، تجسيداً لذكريات مريرة يتناساها الجميع. بين نفوذ «إخواني» سابق، وتواصل اقتصادي مهم ضمن محيط اجتماعي متنوّع، رزحت المنطقة تحت ضغوط كبيرة خلال الحرب. في حين عاد 3 آلاف لاجئ من دول الجوار إليها، خلال الشهرين الماضيين كثيرة هي الدوافع لزيارة منطقة الحولة؛ ليس فقط بداعي مرور الذكرى السنوية الأولى على عودتها إلى سلطة الدولة السورية في أيار 2018، ولا بمناسبة الذكرى السنوية السابعة على مجزرةٍ كانت أراضي الحولة مسرحاً لها، بالتزامن مع زيارة وفد المراقبين العرب. ملفّ الحولة يفتح الشهية على الغوص فيه، فالمنطقة اعتبرت طوال عقود مركزاً اقتصادياً لتجمّع بشري هائل من القرى والبلدات الممتدة بين الريفين الحمصي والحموي، بما يشكّل خليطاً مدهشاً من الطوائف والقوميات، منذ حقبة الاحتلال العثماني. ولا بد من تفصيل أكبر لتوضيح موقع المنطقة وتقسيم بلداتها، فالحولة سهل يقع إلى الغرب من نهر العاصي، ضمن ريف حمص، وبمحاذاة الحدود الإدارية لمحافظة حماة. ويمتد إلى الشرق من جبل الحلو، الذي يضم مجموعة من القرى المختلفة طائفياً، ما أثار إشكاليات لا حصر لها خلال سنوات الحرب الأولى، فيما تتكون الحولة من كفرلاها، أكبر البلدات التي تتوسط السهل، وتلدو جنوباً، وتلدهب شمالاً، وإلى الغرب، الطيبة الغربية أقرب هذه البلدات إلى جبل الحلو. تحيط بتلدو قرى «تركمانية» صغيرة تتبع لها، منها برج قاعي غرباً، وسمعليل إلى الجنوب الشرقي. وتتداخل مع بلدات الحولة شرقاً وشمالاً قرى وبلدات تتبع حماه إدارياً، منها حربنفسه، قرب سد الرستن، فيما تتناثر على الطريق بين المنطقتين قرى «تركمانية» أُخرى مثل: طلف شرقاً وعقرب شمالاً. أدلّة «الحياة»! نيّة المضيّ من حمص إلى الحولة في الشمال الغربي قد تصطدم بتحذيرات الحمصيين، الذين لم يختبروا بعد عمق «المصالحة» الحديثة العهد التي جرت في المنطقة، قبل عام. يتطلب الأمر العبور عبر بعض القرى التي مرت الحرب منها، والمتموضعة على طريق حمص ـــ مصياف، الذي انقطع مع خروج المنطقة عن سيطرة الدولة. تصدمك أراض جرداء شاسعة، يقال إنها كانت معشبة في نيسان الفائت، غير أن الطقس الواعد بموسم صيفي ساخن، قضى على اللون الأخضر وخلّف اليباس. خيالاتٌ لسكان سابقين تتراءى داخل بيوت مهجورة متباعدة على الطريق، بلا نوافذ، وقد شرّعت أبوابها للخواء. أول دليل على «الحياة»، كان عجوزاً يجرّ بقرته بعناية، لتعقبه أدلة كثيرة مشابهة مع مواصلة الطريق. وضمن أراض بمحاذاة تارين والحميمة، يلوح رعاة الغنم بوداعة، ماضين بأغنامهم. قبل الوصول إلى الغور الغربية، تؤذن الشاخصات المرورية ببلوغ النقطة الفاصلة، إذ تلوح قرية القبو. هناك يتمركز عناصر حاجز عسكري يفصل «المنطقتين» بحذر. على كتف السد... ذكرى ناظم ابراهيم! على أطراف أراضي الحولة، تبدأ بيوت متفرقة بالظهور. أمام كل بيت شجيرات ورد وبقرة وحياةٌ تنتظره، بما يكفل تناسي قسوة ما كان. وعلى كتف السد، يلوح مستشفى العناية الصحية الخاص. المستشفى يقود إلى الحديث عن ناظم إبراهيم. يقول الخبر «اليتيم» المنشور في وكالة الأنباء الرسمية عن ناظم، ابن قرية القبو، أنه قضى رمياً بالرصاص في الحولة، عقب اندلاع الأحداث الأمنية في المنطقة. للرجل أياد بيضاء في تأسيس مدرسة، وإقامة المستشفى بالاختصاصات كافة، ضمن أراضي الحولة، في موقع بهيّ يطلّ على السد مباشرة. وكان العاملون في المؤسّستين بمعظمهم من أبناء المنطقة. كما قام بتدريس الكثير من أبنائها ومن مختلف الطوائف. كان يعرفه الأهالي ويُجمعون على احترام جهوده. مشهد سد الحولة الغامر بالحياة، والذي اختاره المدرّس الطيب جاراً لمشاريعه، يفتح الأمل بطي ذكريات الحرب والموت. ومع التوقف عند الحاجز العسكري على مدخل تلدو، يمكن تأمل الدمار. شجيرات الدالية المتفرعة حديثاً تمتد على مداخل البيوت المتضررة، في مشهد يجعل من اللون الأخضر ستاراً عاجزاً عن إخفاء الخراب المتفشّي والكثير من الأنقاض. لا أياديَ تقطف ورق العنب في هذا الموسم، كي تلفه من أجل الوليمة الموسمية الشهية، التي تشتهر بها السوريات أوائل الصيف، قبل أن تُدخل الأوراق الخضراء في «المونة» لحفظها وتخزينها، بهدف استهلاكها طيلة العام. *جرى تأهيل 163 مدرسة في مناطق الريف الشمالي لحمص* «البعث» vs «الإخوان» لطالما كانت الحولة مركزاً تجارياً للريف المحيط، متفوقةً بذلك على مصياف الحموية في تأمين الحاجات الرئيسية للريف الممتد من القبو في حمص، حتى الشيخ بدر في طرطوس. انطلاقاً من الحولة، شكل الشيخ محمد علي مشعل، ابن المنطقة، زعامة «إخوانية» تاريخية، في خمسينيات القرن الماضي حتى أواخر السبعينيات. لعب مشعل دوراً مهماً في المنطقة كلها، إثر تأسيس مدرسة خاصة تحت اسم «مدرسة الإمام علي»، في محاولة لاستقطاب الوسط المجاور المختلف طائفياً. ولا خلاف على أنه الزعيم الأول لجماعة «الإخوان المسلمين» في حمص وريفها، والمناهض الأبرز لسلطة «البعث» في ذلك الوقت. خرج مشعل إلى السعودية عام 1979، وصودر بيته ومدرسته الخاصة. وليس خافياً أنه ساعد الأهالي في تأمين السفر إلى الخليج للعمل، إذ تشتهر المنطقة بأعداد كبيرة من المغتربين في الخليج. توفي قبل سنوات في السعودية بعدما ناهز التسعين. زار ابنه أسامة البلاد مرات عدة، بعد العام 2000، وأسّس استثمارات تجارية وطبية. يتناقل أهالي المنطقة معلومات عن مساهمة الدعوي المقيم في السعودية في إنشاء مركز أشعة في الحولة، بملكية أقاربه، إضافة إلى أعمال أُخرى في مجال المواد الغذائية. وإذ سادت السمعة «الإخوانية» للحولة قديماً، فقد جرى تعويم نموذج «بعثي» مقابل في الرستن القريبة. برز دور الدولة السورية بتزكية مسؤولين حزبيين من الحولة، بما يضمن وصولهم إلى مراكز مهمة، ومثال ذلك عبد المعطي المشلب الذي وصل إلى «القيادة القطرية» للحزب، إضافة إلى نقابيين مثل عبد القادر الحسن، النقيب الحالي لأطباء سوريا. ولكن ذلك لم يكن مؤثراً لدرء وقوع الخطر، باعتبار القوى الفاعلة على الأرض تتجاوز تأثير هؤلاء، إضافة إلى عدم الاعتماد الاقتصادي الكلي في الحولة على الدولة. جبل الحلو... و«توزيع البيض» تمتد قرى جبل الحلو غرباً، باعتبارها النموذج «المقابل» طائفياً. وتتألف من القبو والشنية ومريمين والغور الغربية وفاحل وقصرايا وعكاكير وكفر كمرة، إضافة إلى الوجود المسيحي في رباح وكفرام. ويقال إن بعض القرى كانت في أساسها مسيحية، لكن جرى تهجير أهلها من قبل العثمانيين في نهايات القرن التاسع عشر، حتى إن القبور القديمة في قرية سمعليل «التركمانية» تحمل صلباناً. واللافت في نموذج قرى جبل الحلو أن قرى مثل مريمين وعكاكير تخلصت من الإقطاع، في بدايات القرن العشرين، عبر ثورات محلية، قبل جهود «الإصلاح الزراعي» بعقود. ويمكن ملاحظة نفوذ متباين لحزب «البعث» في هذه القرى، إذ إن للقبو حظوة حزبية خاصة، غير أن تقويتها اقتصادياً لم تصل إلى قوة الحولة التجارية، بالنسبة إلى قرى جبل الحلو. أما بين القرى المسيحية الأكثر حظوة، فتبرز رباح التي خرج من بين أبنائها مسؤولون أمنيون وعسكريون، سابقون وحاليون، برتب عالية ومحورية. شق طريق جديد يربط حمص بمصياف والساحل السوري، مروراً بأراضي بعض هذه القرى، هو مشروع يجري العمل على إنجازه حالياً، ما يمهّد لدور اقتصادي جديد في المنطقة، لصالح قرى جبل الحلو. كما يبرز مشروع سد مريمين نموذجاً حيوياً مقابلاً لسد الحولة، على مبدأ عدم تكرار خطأ «وضع البيض كلّه في سلة واحدة». البرازي... واستقطاب «المغادرين» تلوح مناشر الخشب مع دخول بلدة تلدو، حاملة آمال أصحابها بعودة الاقتصاد إلى سابق عهده، فيما أُعيد افتتاح محكمة الصلح في البلدة، ضمن بناء صغير تزينه عبارة: «يداً بيد نبني سوريا الغد». يبلغ عدد سكان البلدة أكثر من 18 ألف نسمة، بحسب رئيس البلدية محمد القيس، الذي يحدد عدد مدارسها بعشرة، 4 منها خارج الخدمة، فيما يجري العمل على تفعيل معهد لتحفيظ القرآن. وسط أحد الشوارع لافتة وضعتها محافظة حمص تشير إلى مركز مديرية المالية في تلدو. أكثر الخراب يتركز في هذا الشارع، ما يشي بتمركز المسلحين السابق فيه. المحال التجارية هُنا بلا أبواب وقد فرغت من كل شيء، فيما تركزت أكوام الأنقاض خارجاً على أرصفتها. وبين إحدى الأكوام يمكن العثور على منصة صدئة للصواريخ أو معدات حربية غير صالحة للاستخدام، إضافة إلى آليات معطوبة. مبان متهالكة الجدران، لا يقف منها إلا الأعمدة، فيما البيوت مخرّبة. على أحد الجدران كُتب حديث شريف موقّع باسم «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح»، مع تأكيد الإشارة إلى أن الحديث «متّفق عليه». ذلك لم يمنع المنطقة من أن تكون مسرحاً لنزاع مسلح حول النفوذ، طيلة فترة سيطرة المسلحين، بين كتيبتين من الحولة إحداهما تتبع آل كرو، والأُخرى لآل جعمور. لعب محافظ حمص طلال البرازي دوراً مهماً في إعادة توزيع مراكز القوى والنفوذ الشعبي في القرى والمناطق التي مضت نحو «المصالحة»، في محاولة من الدولة لاحتواء العائدين واستيعابهم. كفلت الدولة حماية طلاب الشهادات الإعدادية والثانوية في كل من الرستن وتلبيسة والحولة، ممن استمروا بتقديم امتحاناتهم المركزية في مدينة حمص. لم ينقطع التواصل الحكومي في مركز المدينة مع الجمعيات والفعاليات الاجتماعية ووجهاء المنطقة لحل المسائل الخدمية. فكان تثبيت واقع قائم على هدن مؤقتة، من غير السماح بالقطيعة الكاملة، منطلقاً لتحقيق تفاهمات أولية تم استثمارها في «المصالحة» لاحقاً، رغم اختراقات متكررة لها من قبل المتشددين. وهكذا سرعان ما انخرط الناس في ملف «تسوية الأوضاع»، وعادت العلاقات الاجتماعية مع الجوار من غير انتظار رعاية رسمية. ومنذ اليوم الأول لإقرار التسوية، دخل عناصر الشرطة إلى البلدات الأربع. من بقي في المنطقة والتزم التسوية، شملته مظلة الدولة. وبتعداد المسلحين الخارجين من ريف حمص الشمالي، والذي يصل إلى 13 ألفاً، بما يتضمن عائلاتهم، من المرجّح أن عدد المغادرين من الحولة إلى إدلب والشرق السوري يبلغ 6 آلاف؛ بعضهم خرج جراء التخويف والشائعات. واللافت عودة بعضهم على دفعات عدة، بينها 13 حافلة ضمن دفعة واحدة. 3 آلاف عائد! أول القطاعات التي جرى تأهيل مؤسساتها في الريف الشمالي، المحاكم القضائية، بناءً على نشاط المجتمع الأهلي الذي قام بإصلاحها وتقديمها إلى رعاية الدولة. من أمثلة ذلك محكمة الصلح في تلبيسة والمجمع القضائي المكوّن من 5 محاكم في الرستن، إضافة إلى محكمة الصلح في الحولة، فيما جرى تأهيل 163 مدرسة في مناطق الريف الشمالي، وفق خطة إسعافية رصد لها 300 مليون ليرة. لم يكن عدد نازحي الحولة كبيراً، بحسب تعبير رئيس بلدية كفرلاها جهاد يونس، إذ بدأت حركة لعودة أبناء المنطقة من الأردن ولبنان وتركيا، وصلت إلى 3 آلاف شخص، خلال الشهرين الماضيين. يؤكد يونس أن حركة العودة يومية وطوعية، بما فيها عودة الشبان أيضاً، إذ يمكن إحصاء أعداد يومية تصل إلى 30 ورقة مصادقة لدى المختار، بينها بطاقات تعريف وطلبات سند إقامة. ويتابع قوله: «من كانت لديه مهنة عاد لتفعيلها، ومن التحق بالجيش أجّل مشاريعه». معامل الرخام و«البلوك» كانت أولى الورش العائدة إلى العمل، بفعل الحاجة إليها في أعمال الترميم التي تتنامى يومياً، مع عودة اللاجئين من دول الجوار، بحسب قوله. ويجد يونس العلاقة الاقتصادية مع القرى المحيطة جيدة ومفاجئة، إذ إن سيارات «المفروشات العربية» عادت لتبيع بضاعتها من الحُصر والسجاد في المنطقة وفي مدينة حمص، فيما يتواصل افتتاح المحال التجارية على امتداد أراضي الحولة. نسبة الدمار في كفرلاها تختلف عن تلدو، إذ لا تتجاوز 1%، ومعظم الدمار جزئي. وبحسب رئيس البلدية، فإن كفرلاها التي يبلغ عدد سكانها 22 ألف تضم 11 مدرسة، منها 3 مدارس خارج الخدمة، إضافة إلى افتتاح مركزين امتحانيين فيها لهذا العام. وعن سؤال حول عدد المساجد يجيب أن العدد يصل إلى 10 بين جوامع ومصليات صغيرة في كفرلاها وحدها، بينما يوجد معهد شرعي في تلدهب. |
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |