شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-12-23
 

على طريق أبجدية فلسفة سعادة

حنا الياس الشيتي

قرأت مرة في كتيب اسمه "سعادة طبعاً" للرفيق هيثم (1) أنه يكتب المعلم عن النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن ونتكلم نحن عن هذه النظرة، لكننا قليلاً ما ننظر فيها ونظل نردد الألف ولا تعرف منا الياء أي وصول"(2) . وقد صدق الرفيق القول. فرغم مرور أكثر من ثلاثين عاما على صدور ذاك الكتيب، فالأرجح أنه مازالت تمر هذه الكلمات من أمامك مراراً وتكرارأً، مصفوفةً واحدةً تلو أخرى، ثم تتركك محتاراً فيما تنطوي عليه من معاني. ولعلك تسأل نفسك أيضاً، لماذا هذا الفصل بين الحياة والكون؟ فإذا كنا نصنف النظرة المدرحية على أنها نظرة وجودية، فلماذا لا نقول مثلاً، بأنها نظرةٌ شاملةٌ إلى الوجود ونكتفي، دون أن ندخل في تفاصيل ماهو من الحياة وما من الجماد؟ ثم، ما العبرة من حشر كلمة "الفن" هنا؟ أوليس الفن إلا بعضاً من هذا الوجود؟ أم أن سعادة قد زاده على العبارة كتنميقٍ أدبيٍّ يضفي عليها برنين لفظه رونقاً آخّاذاً؟ ثم ماذا نعني بشمول هذه النظرة وماذا تشمل تحديداً؟

حتى نخرج من هذه المتاهات، هات يدك يا رفيقي نسير معاً خطوة خطوة نحو الياء على طريق أبجدية فلسفة سعادة.

نظرتنا الشاملة إلى الحياة والكون والفن

يقول سعادة أنه حين يفكر في الفلسفة فإنه يفكر في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكّر فيها الفلاسفة (3). بدهي إذن أن تكون النظرة الفلسفية التي قال بها، بهذا الشمول أيضاً. فها هي تتأسس على الحقيقة الأساسية الكبرى - حقيقة الفرد والمجتمع (4)، لكنها قادرة أيضاً على الإنفلات من حدود الزمان والمكان لتخطيط حياة أمة بأسرها، فتنطلق لتتناول مثلها العليا وتسمو بها في سبيل خير حياتها وعزها ومجدها (5). يقول سعادة أنها "نظرة ... جديدة تجسم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصور لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى المادية - الروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية (6)" . لكن تحقيق المثل العليا والأماني لا يتم في الغيب ولا في عالم الخيال بل في هذا الوجود عن طريق تكييفه على النحو الذي نريد، لذا لا بد لنا من فهم الممكنات التي يقدمها هذا الوجود (7)، أي كما يقول سعادة نفهم الوضع ونفهم ماذا نريد من الوضع . هي إذن نظرة لاتقتصرعلى فهم الوجود كما هو واقع، بل تتخطاه لتفهم أيضاً ما هو موجود بالقوة. اوليست القضية الأساس التي يحملها الحزب السوري القومي الإجتماعي، هي كما يقول سعادة "قضيةُ أمة موجودة بالقوة على أساس النواميس الاجتماعية، أخرجها الحزب السوري القومي الاجتماعي من حيز القوة إلى حيز الفعل (8)" . فلو لم تكن نظرة سعادة الفلسفية من الأساس شاملة ما هو موجود بالقوة، لما تمكن من أكتشاف النواميس الإجتماعية إياها، ولا توصل إلى إخراج الأمة من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الفعل. إنها نظرة كما يقول سعادة تشمل كلا "الكون وإمكانياته"(9) .

ما لا تشمله نظرتنا الفلسفية هو الحقائق الدينية، وذلك لأنه يُستغنى في هذا النوع من الحقائق، عن المعرفة الإنسانية لتقريرها ويُستبدل بها الإيمان بالله وافتراض معرفة سبحانه بوجودها. والحقائق المقررة بهذه الطريقة هي الحد الذي تقف دونه الفلسفة المدرحية، وأيضاً العقيدة القومية الإجتماعية المؤسسة عليها. يقول سعادة "فالقضية لا تتدخل في مسائل الايمان الديني ولا تريد ان تفرض حقائق دينية معينة على أعضائها. فليؤمن من شاء بما شاء وليجهر كل ذي رأي برأيه وليوافقه من شاء وليخالفه من شاء ولكن سلامة العقيدة القومية الاجتماعية ووحدة العقيدة القومية الاجتماعية وحركة النهضة يجب ان تبقى فوق جميع النظريات والمذاهب الجدلية المتعلقة بما وراء المادة وبما لا دخل للعقيدة القومية الاجتماعية فيها" (10).. يقول سعادة أن اعتماد مثل هذه الحقائق "لايعني شيئاً أقل من جلب نزاع النظريات والمذاهب الفلسفية الدينية والمسيحية والمحمدية، واللادينية من علمية دروينية وغير دروينية واسبنسرية وغيرها الى صفوف الحزب وتمزيق العقيدة القومية الاجتماعية ووحدة صفوفها (11)" .

وقد يسأل سائل فيما إذا كان من الجائز أن يفرض سعادة على أتباعه هذه الفلسفة الشاملة لمجرد أنه فكر هو بهذه الشمولية. والسؤال حتماً مقبول إذ أن سعادة نفسه، قد وضع القاعدة التالية:

"كلُّ دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عاماً شاملاً لجميع النوع الإنساني، فإن نظرتها إلى الحياة والكون يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي، فلا يمكنُها أن تشذّ عن استعدادِ بيئتها إلاّ إذا خرجت منها أو وجهت إلى غيرها المخالف لها (12)" .

أما ردنا على مثل هذه التساؤلات فمن وجهتين. الأولى، أن النظرة الجديدة التي يـأتي بها سعادة، ليست نظرةً مستوردةً، أو غريبة، بل هي بنت بيئتها ونابعة من صميم النفسية السورية. ولهذا نجده يقول عن الحركة السورية القومية الإجتماعية أنها نشأت بسبب النظرة الجديدة (13)، ولكنه يقول أيضاً أن الحركة السورية القومية الإجتماعية تميز وتعبر عن النفسية السورية (14) . وهذا الكلام لا يستوي إلا إذا كانت النظرة الجديدة نفسها هي ما يميز ويعبر عن النفسية السورية. بل إن سعادة يذهب إلى أبعد من هذا ليقول أن ما وصل إليه فهمه، بدرسه وتفكيره، هو مديون به كله لأمته وحقيقتها النفسية (15).

أما الوجهة الثانية، فنجده في حقيقة النفسية السورية التي يمتدحها سعادة بأنها غنية بخصائصها، وأن فيها "كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم (16)" . ثم يشرح قصده من هذا القول "أن النفسية السورية قد برهنت وتبرهن اليوم بالبرهان التشريحي والعملي على أنها عظيمة المقدرة مستكملة شروط الوعي الصحيح والإدراك الصحيح وأن لها مقدرة على إدراك واستيعاب كل ما يمكن النفس أن تستوعبه وتدركه في هذا الوجود (17)" . والحقيقة أن سعادة لم يترك مناسبة إلا واستخدمها للإضاءة بالأمثلة والبراهين على التفوق والنبوغ السوري عبر التاريخ، كما في قوله مثلاً أن " نفسية الأمة السورية، الحقيقية، الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي، وفي مآثرها الثقافية، كاختراع الأحرف الهجائية، التي هي أعظم ثورة فكرية ثقافية حدثت في العالم، وإنشاء الشرائع التمدنية الأولى، ناهيك بآثار الاستعمار والثقافة السورية المادية ــ الروحية والطابع العمراني، الذي نشرته سورية في البحر السوري المعروف في الجغرافية بالمتوسط، وبما خلده سوريون عظام كزينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وافرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وطائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديماً وحديثاً (18)" .

أما عبارة الحياة والكون والفن، فهي في الحقيقة طريقتنا في الإشارة إلى هذا الوجود. لذا فرغم أنها تطوي بالضرورة نظرتنا الفلسفية المادية-الروحية إليه، إلأ إنا نستخدمها حتى عند الحديث عن النظرات الفلسفية الأخرى للوجود. وهكذا فإنا نقرأ قولاً لسعادة مثلاً يذكر فيه أن "شعور (الموسيقي المبدع) واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن (19)" . وبدهي أن هذا لا يعني مطلقا أن نظرة النهضة الألمانية هي نظرة مادية-روحية. قد يكتفي صاحب النظرة المادية للإشارة إلى الوجود، بكلمة الكون مثلاً، إذ يعتقد أن كل مافيه، بما في ذلك الإنسان، خاضعٌ لقوانينه ومُسيَّرٌ بها. كذلك صاحب النظرة الروحية، الذي يدمج الوجود بما وراء الوجود، وروح الأموات مع الأحياء، قد يشير إلى ذاك العالم الذي يراه، بالعقل المثالي مثلاً، الذي يسيِّر كل شيءٍ بمشيئته المطلقة. أما نحن فنرى "الوجود حركة (20)" ، وهذا بالضرورة يشمل حركة الكون وحركة الحياة، لكننا نرى أن حركة هذه مستقلة عن ذاك. فللحياة نواميسها وخصائصها التي لا نجدها في قواعد الجماد، كقول سعادة مثلاً أن الحياة تفعل ذاتيا من الداخل، وأنها "تنمو وتنتعش وتمتد وتتسع أما الجماد فباق كما هو من الخارج يتراكم" . إستقلالية حركة الحياة هذه، هي بحد ذاتها سبب كافٍ لنا للفصل بينها وبين الكون عند التعبير عن الوجود.

الحقيقة أن هناك سببٌ أقوى يدفعنا حتى إلى تقديم الحياة على الكون، ألا وهو أن الحياة لا الكون هي ما يحدد وجهة ومسار العلاقة بينهما. يقول سعادة أن "التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ(21)" . فالأرض، كما يقول "تقدّم الممكنات لا الاضطراريّات أو الحتميّات وهذا يعني أنّ الأرض هي الجهة الإيجابيّة من التّاريخ لا الجهة السّلبيّة(22)" . يقول سعادة "نحن نكون الناحية السلبية، والأرض، وهذا الكون الذي أمامها هو الناحية الإيجابية لنا(23)" . كذلك قوله أن "العوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة، الّتي، مع أنّها تتأثّر كثيراً بعامل البيئة، إمّا أن تستفيد من القاعدة الطّبيعيّة، شأن الجماعات الرّاقية، وإمّا تهملها على حسب استعدادها وإراداتها(24)" .

قد يلاحظ القارى أننا نشير إلى العلاقة بين الحياة والكون، بالتبادل مع العلاقة بين الإنسان والأرض، فمرة نذكر هذه ومرة تلك، وكانهما شيئٌ واحدٌ. والحقيقة أنهما كذلك، إذ يمكننا اختزال التعبير الأول، وهو الأشمل، إلى الثاني. فنحن "لانعرف الحياة إلا على الأرض (25)" ، وهذا يختزل العلاقة بين الحياة والكون إلى علاقة بين الحياة والأرض. كذلك، فإن "الإنسان هو الوحيد من بين جميع الكائنات الحية الذي أمكنه إيجاد علاقة تفاعلية مع الطبيعة (26)" وهذا يختزل العلاقة ما بين الحياة والأرض، إلى علاقة بين الإنسان والأرض.

يقول سعادة "نحن الفنان الذي يستخدم ما تقدمه الطبيعة من إمكانيات ليبدع وينتج ويبني (27)" . فالفن إذن، وهو عمل هذا الفنان، ليس إلا حاصل الحركة التفاعلية بين الإنسان والأرض، أو الحياة والكون، والمنتجة "لهذا الصرح الفخم من الحياة المدنية، التي تحرز بعد كل فترة نصراً جديداً للإنسان على أسرار الطبيعة، المزين بكل فن جميل من رسم ونحت ونقش وبناء ودهن وموسيقى الخ (28)" . لولا الحياة لما كان هذا "الصرح الفخم"، ولكانت الأرض مجرد كوكب جماد كباقي الكواكب. ومع هذا، فليس الفن جزءاً من الحياة وحدها ولا هو ناتجٌ بالكلية عنها، إذ لا بد للحياة من مسرح تمارس فيه إبداعها، وهو دائماً وفاقٌ لما يقدمه هذا المسرح – مسرح الطبيعة، من ممكنات. فنحن لا نعرف تقدم الحياة "إلا بتقدم الأرض في الصلاح للحياة (29)" . الفن إذا ليس جزءاً من الحياة وحدها ولا هو جزءٌ من الكون وحده، بل هو وليد "التفاعل الموحد الجامع" بينهما.

لكن الجدير بالإعتبار هنا هو أن هذا الوليد ليس وليداً ميتاً، بل له دوره الفعال في العلاقة بين الحياة والكون. فرغم أن الفن هو مسَبَب، أي نتيجة للعلاقة بين الحياة والفن، إلا أنه سرعان ما يصبح سببا هاماً لرفدها بالزخم والإرتقاء بها. إنه أشبه مايكون بالرأسمال الذي تستخدمه الحياة في عملها المداور لتفعيل الإمكانات التي يقدمها الكون. وكلما ارتقى الفن سواء بازدياد المعرفة أم في تقدم العمران، ارتقى التفاعل وتقدمت الحياة. لهذا، وإقراراً بدور الفن الدينامي، في العلاقة بين الحياة والكون، نرى أنه لا بد لنا من إضافته كعاملٍ فاعلٍ فيها أيضاً.

---

1 أعتقد أن هيثم هو أسم مستعارٌ للرفيق الدكتور هيثم عبد القادر.

2 هيثم، سعادة طبعاً، طبعة أولى، 1988، مؤسسة بيسان، صفحة 13.

3 1938 سعادة، إلى الدكتور شارل مالك.

4 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري: طريق الأدب السوري، ص 77.

5 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري: تجديد الأدب وتجديد الحياة 1، ص 38.

6 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، ص 55.

7 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة التاسعة.

8 سعادة، الإسلام في رسالتيه، العُروبة كقوّة إذاعيَّة للمطامع السّيَاسية الفردية

9 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري: طريق الأدب السوري، ص 78.

10 سعادة، إلى غسان تويني، الرسالة الأولى.

11 سعادة، إلى غسان تويني، الرسالة الأولى

12 سعادة، الإسلام في رسالتيه، الدين والفلسفة الاجتماعية، ص 114.

13 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري: طريق الأدب السوري، ص 76.

14 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة السادسة.

15 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري: طريق الأدب السوري، ص 78.

16 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة السادسة.

17 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة السادسة.

18 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة السادسة.

19 سعادة، الصراع الفكري في الأدب السوري: تجديد الأدب وتجديد الحياة 2، ص 49.

20 سعادة، مقالة الحق والحرية، 1947.

21 سعادة، نشوء الأمم، الفصل الثالث.

22 سعادة، نشوء الأمم، الفصل السادس.

23 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة السادسة.

24 سعادة، نشوء الأمم، الفصل الثالث.

25 سعادة، نشوء الأمم، الفصل الثالث.

26 سعادة، نشوء الأمم، الفصل الخامس.

27 سعادة، المحاضرات العشر: المحاضرة الخامسة.

28 سعادة، نشوء الأمم، الفصل الخامس.

29 سعادة، نشوء الأمم، الفصل الثالث.




 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه