شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2022-10-03 |
لـنـقـتــــــدي... مختارات من مسيرة النضال القومي الاجتماعي |
وصلنا سجن الرمل وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر وأول شيء وقعت عيناي عليه، المنظر الذي لا أنساه: رفيقنا عبد الحفيظ علامة مقيد بالسلاسل ومطروح على الأرض ومعه رفيق آخر لا أعرفه والجنود يضربونهما بأعقاب البنادق بوحشية وشراسة ويشتمون الحزب ومؤسس الحزب . الأمين يوسف الدبس (في موكب النهضة) * عندما أعلنت الثورة القومية الاجتماعية الأولى أسرع الرفيق محمد ملاعب وبعض رفقائه من بيصور يبيعون كل ما تمكنوا من بيعه من مقتنياتهم واشتروا بعض الأسلحة الحربية وانضموا إلى المقاتلين فكان من نصيبه بعد المعركة أن اعتقلته السلطات وسيق إلى مركز قيادة الدرك السيار قرب مستشفى أوتيل ديو، حيث أخضع لأشكال من التعذيب الجسدي الوحشي ثم ربط الشهيد ملاعب وجُره بحصان الضابط عبد المجيد الزين في باحة مبنى الدرك السيار حتى شارف على الموت من شدة الجراح والرضوض التي أصيب بها، فما كان من الرفيق الشهيد محمد ملاعب إلا أن رفع رأسه وهوى به بقوة على الأرض الصلبة فقضى لتوه شهيداً. (سيرة شهداء الحزب، الجزء الأول) *
الرفيق خالد قطمة اعتقلت في الحادي عشر من كانون الثاني 1962 وبتهمة سياسية والحمد لله في بيروت. ولكن هذه التهمة كانت تكفي لقطع الرقبة وفي أحسن الحالات إلى اعوجاج الظهر، وبقيت في المعتقل أياماً دون أن يسألني أحد شيئاً. حتى اسمي لم يكن بين الأسئلة لأن الأجوبة كانت وحدها سيدة الموقف، ولا ضرورة لذكر الاسم كاملاً عند توجيه الشتائم أو الركلات، وجاءت ساعة التحقيق فأنزلوني من الطابق الثالث في ثكنة الأمير بشير الشهابي إلى الطابق الأرضي حيث التحقيق والتعذيب والموت. وقبل أن أقف أمام المحقق العسكري كنت عرفت تجربتين للرعب لن أنساهما، الأولى: استدعي أحد رفاقي في القاووش الممثل الكوميدي المعروف رضا كبريت. كانت الساعة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل عندما أنزلوا رضا إلى التحقيق وله لون واحد. وبعد ساعة عاد رضا كبريت وظهره قوس قزح ولكنه لم يبك لذلك ضربوه أكثر من غيره. وحين حملوه إلينا ووضعوه على حصير القاووش فتح عينيه ووجدنا حوله فانفجر في حشرجة باكية وأغمي عليه. أما الحادثة الثانية فكانت الأقسى، استدعيت والزميل الصديق الياس الديري للتعرف إلى أحد المعتقلين، وقبل أن يدخلوا بنا إلى غرفة التعذيب سألني الرقيب المرافق: هل تعرف علي البزال؟ وأجبته بالإيجاب فقد كان علي البزال يحرسني من شر الرصاص عند مدخل الجريدة (البناء) ويجعلني أشعر وأنا في مكتبي بالأمان لأن رشاشه كان يده الثالثة . وانتظرنا عند باب جهنم حتى نرى علي البزال ونقول أنه هو، ويخرج ضابط من رجال المكتب الثاني اللبناني ليقول: ما في لزوم، رجعوهم على القاووش. نعم لم يعد هناك لزوم لتعرفنا على الشاب الحنطي الذي كانت حياتي أمانة في عنقه، فقد قتل علي البزال أثناء التعذيب، وظل اسمه في قلبي يملأ عيني بالحزن وذكره بالشهادة. الرفيق محمد خالد قطمة (من كتابه الأسبوع 7 أيام). * بعد جلوسي مدة ساعتين تقريباً في المحكمة العسكرية اقتادوني إلى وزارة الدفاع. وصعدت الدرج في الوزارة إلى الطابق الأول حيث كان بعض الضباط الصغار والرتباء يقفون على جانبي الدرج في قسمه الأعلى، وما إن وصلت إليهم حتى انهالوا علي بالضرب الشديد وحملوني ورموني من منفرج إلى الطابق الأرضي فسقطت واقفاً على قدميّ اللتين لم تحملاني، ووقعت على الأرض، ثم أمروني بالصعود ثانية، فصعدت بصعوبة نسبية وما إن وصلت إلى آخر الدرج حتى انهالوا علي ثانية بالضرب الشديد . وبعدها اقتادوني إلى ثكنة "الأمير بشير" وهناك انتزعوا مني ما كنت أحمل، وأمر المسؤول بفك قيدي وإدخالي إلى زنزانة الانفراد، لكن أحدهم لفته إلى ما كتبه أنطون سعد (رئيس جهاز المكتب الثاني) على الورقة فقرأها وقال: "ابقوا القيد في يديه" ودخلت مكبلاً إلى الزنزانة وهي غرفة مظلمة باردة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر وربع المتر فيها مصطبة من الباطون، ولم أعط أية بطانية أو حصيرة، وأوصدوا الباب الحديدي وتركوني أعاني البرد الشديد وآلام ظهري . كان قيدي يفك في الصباح لأغسل وجهي وأزور المرحاض وكانت منشفتي منديلي الوحيد الذي بقي في جيبي. أما الأكل فكان في أكثر الأوقات رغيفاً من الخبز السميك فيه بعض الطبخ يرمى إلينا كما يرمى العلف للماشية، بعد أسبوعين تقريباً جاء الجنود واقتادوني مكبلاً عبر الباحة الكبيرة لثكنة الأمير بشير إلى الحمامات، فـور وصولـي انهالـوا علي بالضرب القاسي دون أي سؤال حتى وقعت على الأرض منهك القوى وفي شبه غيبوبة، تقدم جندي وأمسك بركبتي ضاغطاً بكل قوته وكأنه يريد فسخي لكني تخلصت منه بصعوبة كلية غير أنه تابع ضربي ورفسي بشكل بربري إلى أن انطرحت على جانبي ووجهي على الأرض. فتقدم الملازم مني وقرب حذاءه من فمي قائلاً بصوته العالي: "بوس صباطي ولاه" فرفعت باتجاهه عيني معبراً عن نقمة صامتة، فأرجع قدمه. بعد دقائق استعدت بعضاً من قوتي فأمرني الضابط بالجلوس فجلست على الأرض، ثم أمرني بالوقوف فاستجمعت كل عزيمتي ووقفت، فتقدم مني وصفعني فما تمالكت إلا أن صفعته بكل قوتي وبصقت في وجهه، فانهال بالضرب علي، ولم أعد أعي ماذا يجري إلى أن أفقت من غيبوبتي بعد مدة مبللاً بالماء. ولأول مرة في زنزانتي، أحسست بالدفء بدل البرد الشديد بسبب الضرب الذي لم يترك بقعة سليمة من جسدي. هزل جسمي كثيراً خلال شهري كانون الثاني وشباط، دخلت السجن ووزني أكثر من 95 كليو غراماً فأصبح أقل من سبعين، حتى اضطررت أن أربط حلقات سروالي لكي لا ينزلق عني، وفي زيارة للمحقق كفوري، سبقتها حفلة تعذيب خاصة إذ استدعيت من زنزانتي إلى الطابق الثالث في بناية المهاجع، وكانت غرفها خالية فشاهدت في غرفة كبيرة الرفيق خليل دياب مكوماً ككتلة من لحم غير قادر على الحراك، وأخذت إلى مهجع مجاور له وهناك بدأ تعذيبي وضربي حتى أصبحت بدوري كتلة من لحم عاجزة عن الحركة .
من اليمين: الأمناء الرفقاء غسان عزالدين، صبحي ابو عبيد، عبدالله سعادة، منير خوري، بشير عبيد علي الحاج حسن- (سجن القلعة)
في إحدى الليالي اقتادوني إلى التحقيق فمررت بغرفة فيها ما يزيد عن ثمانية رفقاء مكومين على الأرض من الضرب والإنهاك، وكان القصد أن أشاهد بعيني حالتهم، وما إن شاهدوني حتى وقفوا جميعاً وقفة عسكرية وأدوا لي التحية الحزبية الرسمية، فأخذت من الغرفة وبدأ الضرب فيها مجدداً، في تلك الليلة كان همّ المحققين الصغار أن ينتزعوا مني اعترافاً بأن الرئيس كميل شمعون مطلع على الانقلاب ومشارك فيه، فأصريت على نفي هذا الموضوع كلياً، وكلما أكدت النفي عاودوا ضربي مجدداً والقيود في يديّ وساقيّ، وهم يرددون: "سنكمل معك هذا الأسلوب حتى تعترف أو تموت". وبعد ثلاث ساعات تقريباً، وكان الفجر قد أوشك ان يطل لم أعد أحتمل مزيداً من التعذيب، فقلت نعم أعترف، فارتاحوا لقراري وقالوا: تفضل ونحن نكتب، قلت فكوا لي قيود ساقي ويدي كي استريح وأقول الحقيقة، ففعلوا مستبشرين، قلت: اكتبوا ما يروق لكم وأنا أصادق عليه ولكن قدموا لي سيجارة لأرتاح، فتسابقوا لإعطائي السيجارة، وكتبوا أني في زيارتي إلى السعديات قبل سفر شمعون إلى "الفولتا العليا" أطلعته على الانقلاب فوافق على الدعم والاشتراك فيه، وقدموا لي الورقة لأوقع، فكتبت في ذيلها: "انتزع مني هذا الاعتراف الكاذب بعد ضرب استمر ثلاث ساعات وهو اعتراف غير صحيح". فشتموني ورفسوني وأعادوا القيود واستأنفوا الضرب.. ولكنهم تعبوا ويئسوا فأعادوني إلى الزنزانة. الأمين الدكتور عبدالله سعاده (من كتابه "أوراق قومية") * سأختصر وصف التحقيق شفقة على صيف لبنان والإشعاع والشعب والأبناء والأحفاد. ولست أعرف ماذا أقول وماذا أختصر وماذا أختزل وماذا أموّه، بل أقول أن جميع ما كتبه اليهود عن سجون النازيين – ما عدا أفران الغاز، إذا كانت فعلاً قد حصلت بهذا الحجم – وجميع ما قاله خروتشوف وكوستلر من قبله وما تفنن به الأدباء والسينما عن المعتقلات، يبهت إزاء ما حصل طوال سنتين من التحقيق وما بعد التحقيق وأثناء التحقيق وأثناء المحاكمات حتى ليلة 22 تشرين الثاني 1963 ليلة مقتل جون كندي رئيس الولايات المتحدة، التي ضبّينا فيها أمتعنا لكي ينقلونا في اليوم التالي إلى سجون أخرى، وما حدث في سجن الرمل وفي سجن طرابلس أسوأ بتراحيل من المير بشير. ولولا أن نفسي تشمئز حتى اليوم من ذكر مشاهد التعذيب والهمجية لوصفت ما حصل معي وما حصل مع غيري سواء شاهدته عياناً أم خيرت به على التوالي من المعذبين أنفسهم وما هم بكاذبين، أم من قبل الذين شاهدوا تعذيبهم، ومهما وصفت ومهما اختصرت ومهما تقيأت نفسي ومعدتي عند تذكر الأوباش الوحوش الهمج الحشاشين المسعورين فلن يفي القلم بوصف تعذيب خمسة آلاف رجل وإمرأة وأطفال أحياناً، وكهول وضباط سابقين وراهنين ورتباء وسياسيين وأطباء ومهندسين ومحامين. وكيف أصف مستنطقاً يجلد بيده ويدوس بقدمه ويقف بثقله على صدر متهم شبه مغمى عليه؟ وكيف أحصي المئات والألوف الذين كانوا يجلدون ويداسون ويحطمون بدون حساب ولا تحسب ؟
من اليمين الامينين: بشير عبيد شوقي خيرالله
بعد تعذيب وتعذيب وتكسير وفكوش غبت عن الوعي أياماً أو نمت لا أبدي حراكاً على مصطبة الباطون في الانفراد شبه عار في شهري كانون وشباط، أياماً متتالية لم آكل ولم أشرب ولم أبول ولا غيرها. ولم أنقلب على جنب، بل مومياء تتنفس ولا أسمع إذا نادوني. وإذا لكزني جندي عطوف أو مكلف كنت – قيل لي من بعد – أصدر أنيناً يبرهن على بقية حياة فيّ. حاول الجندي تقعيدي فلم يتمكن أو إعطائي نقطة ماء فلم يعرف كم شربت وكم ساح على رقبتي، ولو رأوه لراح هريسة تحت أقدام زملائه. منذ 12 كانون الثاني 1962 حتى 20 نيسان لم أغسل يدي بل كنت أفرك الوسخ عنهما فركاً ولم غير ثيابي – أو ما تبقى – في ذلك اليوم كنت لا أزال مكسراً لا أمشي ولا أقوم وكي لا أموت موتاً جدياً أخرجوني حملاً وجرجرة من الزنزانة العارية – مثل جميع الزنزانات – من فرشة أو بطانية أو أي شيء قط، ووضعوني في طابق علوي على سرير، لقحوني مثل كيس الفحم . وكان في غرفة مجاورة كاظم الخليل ومحمد شقير وفنار الفيصل وغيرهم. وكان فنار الفيصل – شيخ قبائل شمّر – مكسر الرجلين الاثنين وملقوحاً هناك، وطوال ثلاثة شهور، قبل 20 نيسان، كنت شبه مكسّر الرجلين وعدة أضلاع ولا أقوم من الفراش ولا أتلقى طعاماً من الأهل ولا أقابل أحداً، هناك رآني القاضي عبد الباسط غندور فرفض التحقيق معي واستقال . الأمين شوقي خيرالله (من مذكراته) ** مرويات وعبر وقدوة في النضال في مرويات الأمين نواف حردان أنه كان يجول على بلدات في قضائي مرجعيون وحاصبيا تأسيساً لفروع أو إشرافاً عليها، سيراً على الأقدام، كذلك كان يفعل المسؤولون المركزيون عند زيارتهم إلى المنطقة، أمثال جورج عبد المسيح، نعمة ثابت، جبران جريج، فارس معلولي، عجاج المهتار، ولسن مجدلاني وغيرهم . عن إحدى تلك الجولات يروي الأمين نواف أنه بعد أن أنهى والأمين عجاج المهتار زيارة الرفقاء في بلدة شويا، تابعا طريقهما إلى حاصبيا ومنها إلى جديدة مرجعيون سيراً على الأقدام. "وصلنا مرجعيون بعد أن اهترأت نعال أحذيتنا ودخلنا مطعم "العكاوي" لنأكل صحن حمص ورغيفين نتشارك عليهما ونسد بهما رمقنا ". " أذكر أننا جلسنا إلى طاولة ورحنا نتناول طعامنا ونحن نرى قربنا مواطناً تبدو عليه مظاهر الوجاهة يراقبنا وما لبث أن سألنا: - من أنتم يا شباب وأين تقطنون؟ - فأجبته: هذا عجاج المهتار من عرمون وأنا نواف حردان من راشيا الفخار . - وماذا تعملون هنا؟ - نحن من الحزب السوري القومي الاجتماعي نقوم بجولة على القرى ننشر خلالها مبادئ حزبنا . - ها.. ها.. يعني أنكم أعضاء في ذلك الحزب النازي. فاحتدم عجاج غضباً، ثم رفع رجله ليضع حذاءه المهترئ النعل أمام نظرات الرجل، ثم صاح به: - أنظر يا عم .. هذا حذائي وحذاء رفيقي المهترئان يشهدان لنا بأننا لسنا من الحزب النازي كما تقول، ولو كنا نازيين فعلاً لكانت جيوبنا ملأَ بالمال، وما كنا نسير على أقدامنا لتهترئ أحذيتنا، بل كنا نستعمل سيارة فخمة .. مفهوم؟ - فاستولى الخجل على الرجل، ونهض وغادر المطعم دون أن يلتفت إلينا . * يروي الأمين جبران جريج في الجزء الثاني من كتابه "من الجعبة" عن مواجهة الرفقاء لذوي النفوذ الإقطاعي في بعض قرى الكورة ومنها قرية "بتوروتيج" حيث أبى أحد الرفقاء العاملين في الزراعة عند أحد الإقطاعيين إلا أن يتصدى له علناً، فيقول: "التقيا عند بيادر القرية. المتنفذ بشاربيه الكبيرين المعقوفين وجزمته الملمعة والكرباج المعلق من رسغه، وإبن الشعب بلباسه العادي الشكل، البسيط. جرى حوار عن المبادئ الجديدة وإلغاء الإقطاع كان فيه الرفيق – إبن الشعب – طلق اللسان، فصيحا فلم تقع أقواله في نفس المتنفذ الموقع المستحب فأخذ يهز كرباجه، فلفته الرفيق أن هزة الكرباج لا تجوز، فالموقف موقف فكر وأراء، فما كان منه إلا أن زاد الهز ورفعه قليلاً وقال: ما هذه الأيام التي وصلنا إليها يخاطبني شخص مثلك بمثل هذا الكلام "فأجابه الرفيق بأن مدّ يده إلى وسطه وسحب مسدسه في وجه الإقطاعي: كلمة أخرى منك وتذهب إلى استقبال ربك الديان". توتر الجو. وصل الخبر إلى الأمين جريج وكان يتولى مسؤولية الحزب في الكورة، فحضر حالاً إلى "بتوروتيج". هنأ الرفيق الشجاع لموقفه الجرئ وطلب منه أن ينسحب لما يمكن أن يجره هذا الحادث من ذيول. قرر الاتصال بالزعيم ليطلعه على ما جرى وأخذ تعليماته إذ لم يكن بسيطاً في تلك الأيام أن يتحدى أحد "الباشا"، إنما كيف يصل إلى بيروت وهو لا يملك أي مبلغ مالي؟ قرر، أوقف سيارة متوجهة إلى بيروت يقودها أحد معارفه، وصل إلى بيروت، رغب إلى السائق أن يحفظ له مقعداً عند العودة فهو لن يتأخر وسيعود بعد قليل من الوقت. امتطى الحافلة الكهربائية إلى رأس بيروت، إنما كيف يسدد ثمن البطاقة (كانت قيمتها قرشاً سورياً واحداً ونصف القرش) حاول إيهام الجابي أن معه بطاقة Pass وهذه تصلح للانتقال بواسطة الحافلة الكهربائية لمدة زمنية معينة. إنما أين هي؟ قطع له الجابي تذكرة، كيف يدفع؟ حاول أن يقدم قلم رصاص فضة كان وصله هدية. تفهم الجابي الوضع وانتظر كي يصل إلى حيث مبتغاه. مقابل مطعم حداد (الذي اشتهر كثيراً في سنوات التأسيس الأولى وحيث كان سعاده استأجر غرفة في منزل صاحبه جريس حداد، توقفت الحافلة، نزل الأمين جريج وصدف أن كان الأمين أنيس فاخوري يتناول طعامه، فأخذ منه خمسة غروش سورية وهرع إلى الجابي يسدد له قيمة التذكرة . أطلع سعاده على ما حصل في "بتوروتيج" تفصيلاً، أبدى سروره من موقف رفيقنا، عبد المجيد، وكلف الأمين جريج بأن يهنئه باسمه وأعطاه توجيهاته بهذا الخصوص. بعد ذلك روى لسعاده كيف جاء من طرابلس وهو صفر اليدين وعما حصل معه في الحافلة الكهربائية وكيف وجد الأمين فاخوري في المطعم فحل المشكلة. كان تعليق سعاده: أرأيت يا رفيق جبران، إن الروحية تخلق العجائب كما قلت لك مرة في المكتب في شارع قوش، إن روحيتك قادتك إلي بالرغم من عدم وجود أي مبلغ في جيبك، إلى الأمام يا رفيقي، إلى الأمام. * في عدد "البناء" الخاص بأول آذار عام 1957 نشر الرفيق فكتور أسعد(1) مقالة عن محاكمة سعاده بعد انكشاف الحزب جاء فيه: "لا يزال في روع المواطنين، قبل القوميين الاجتماعيين موقف الزعيم في المحاكمة. لقد كنا كلنا نتلهف أن يسمح للزعيم بالكلام وقد فعل الفرنسيون ذلك فاستحقوا اعترافاً بنزاهة عدالتهم في ذلك اليوم شعر كل مواطن من أقصى الوطن إلى أقصاه برعشة اعتزاز صادقة تهز نفسه هزاً. ولكن منذ تلك اللحظة أيضاً أعلن أعداء الأمة حربهم الضروس على الحركة القومية وقال النائب العام للمحكمة: "اسحقوا رأس الأفعى" وفي قوله كان يمثل جميع المصالح العدوة التي ظلت ملاحقة سعاده حتى تمكنت منه أخيراً ولكن بأيد أثيمة من أبناء أمته التي أحب . " ما أشد ما كان اعتزازنا نحن به في تلك اللحظة وما أعظمه في وقفة العز تلك: " إني متهم بخرق دستور بلادي، فأقول ان حرمة دستور بلادي قد انتهكت في معاهدات سايكس – بيكو وسفر ولوزان ". " إن مهمة الانتداب هي أن تساعدنا لكي نرتقي، ومهمتنا إذن هي أن نسهّل مهمة الانتداب وذلك بالارتقاء بأنفسنا ". كنا نكاد نرقص في قفص الاتهام إعجاباً وتحية واعتزازاً ومن منا يذكر هذه الساعة ولا تطفر الدموع من عينيه؟ يقال أن سعاده ترك لحزبه قضية ونظاماً. لقد ترك سعاده للأمة كلها تاريخاً مجيداً حافلاً بمواقف البطولة التي تشرف كل من سينتمي إلى الوطن الذي أنجب سعاده ". * من مرويات الأمين السابق أديب قدورة الأمين اديب قدورة بعد حادثة المالكي تمكن عدد كبير من القوميين الاجتماعيين من الهرب إلى لبنان حتى كاد الحزب يعجز عن مساعدتهم وإيوائهم ففرض على كل قومي تقديم المساعدة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. كان من نصيبي شاب مدرس في مدرسة قريته، تزوج حديثاً ويعيل في بيته بالشام والده الأعمى ووالدته شبه العاجزة، وهو المسؤول الوحيد عنهم. أنزلته في ضيافتي بفندق بسيط قرب صيدليتي، وتكلفت بجميع نفقاته ومصروفاته عشرون ليرة يومياً. بعد مرور عشرة أيام تقدم مني هذا الشاب والدمع يترقرق في عينيه وقال لي بخجل وأسى إني أكبدك عشرين ليرة يومياً، فلك مني كل الشكر، لكن والدي وزوجتي لا معيل لهم سواي. إن القسم الأكبر من عائلتي قوميون ومصيرهم كمصير أهلي. إني أقترح أن أعمد إلى تسليم نفسي للسلطة السورية وأقيم في السجن لقاء رجاء مني هو أن تتكرم بإرسال مبلغ (15) خمسة عشرة ليرة يومياً، بدلاً من عشرين، مما تنفقه علي، أي 450 ليرة شهرياً لأسرتي وأهلي كيلا يتعرضوا للجوع والذل. وقد تأثرت من كلامه، ورفضت اقتراحه تسليم نفسه، وطمأنته أني أقبل بإرسال مبلغ أربعماية وخمسين ليرة شهرياً لأسرته على أن يبقى بضيافتي، إلى أن يزول الخطر عنه. نأمل من الرفيق المذكور الذي لم يورد الأمين أديب اسمه أن يتصل بلجنة تاريخ الحزب وإلا أي رفيق آخر اطلع في حينه على الموضوع . * أم شوقي خيرالله تقول لسعاده بعد حوالي السنة من عودته، وقد استمعت إليه في بيتها في بحمدون: يحرس دين البطن اللي حملك والثدي الذي أرضعك. الله ينصرك. تحيا سورية ويحيا سعاده ولو إني مش بالحزب، أم أديب وصلاح الشيشكلي في العام 1937 استمعت في حماه للزعيم يتكلم في بيتها، كانت هي خلف الحجاب وتستمع. وهي مؤمنة وممارسة وحجّة. فلما أقبل صلاح إليها، قالت له: يا امي، برضاي عليك، إذا وقف الزعيم فانظر هل تطال أصابعه ركبتيه، فهو إذن المهدي المنتظر، وكيف لا يكون المهدي المنتظر ؟ (من مذكرات الأمين شوقي خيرالله) * عند انكشاف أمر الحزب واعتقال سعاده ورهط من معاونيه سيق الجميع إلى دائرة الأمن العام، والتي كانت تقع في البناية نفسها حيث مكاتب شركة كنار لاين التي كان يديرها نعمة ثابت، وفي هذا المكتب كان يتلاقى مسؤولون وفيه تمّ انتماء الرفيق زكي النقاش(2) الذي تولى مهام عمدة الحربية (قبل أن تصبح عمدة الرياضة فالتدريب فعمدة الدفاع). يروي الأمين عبدالله قبرصي عن تلك الفترة: لا أريد أن أبالغ. كنا وجلين. ولكننا كنا نضحك لنكات جورج صليبي (كان طالب طب في سنته الأخيرة. لاحقاً منح رتبة الأمانة، وتولى مسؤوليات مركزية) كان يبدو وكأن معنوياته أعلى من معنويات عميد حربيتنا. " كنا نتداول في ما يجب أن نصرّح في التحقيق. وإذا بسعاده وهو يتمشى باتجاهنا زارعاً غرفته بخطاه المتئدة يقول بصوت مسموع: "نحن حزب ثقافي، اقتصادي، نعمل في سبيل رقي الشعب وتوعيته. إني صرحت بكل شيء فلا داع للكتمان. هذا معنى ما سمعناه وحفظناه ". " ولم يمّر الفصل الأول من المأساة دون دعابات ظريفة فقد راح شرطي نمّر عرفنا أنه من الدامور، يريد التهكم على سعاده فقال كلمة فهمنا منها غمزاً ولمزاً واستهزاء، فانتفض جورج صليبي بكل حماس الشباب وقال للشرطي: إياك أن تمس الزعيم بأية كلمة اسحب كلامك وإلاّ.. وهجم جورج باتجاهه ووقفنا كلنا نشد أزره، فامتقع الفتى وقال: والله لا أقصد سوءاً! لا أقصد سوءاً ". ليس أمراً بسيطاً أن يتحدى الرفيق الطالب جورج صليبي، الشرطي وهو في دائرة الأمن العام وفي فترة الانتداب الفرنسي وهول التحقيقات والسجون. إنها البطولة المؤيدة بصحة العقيدة إنها مواقف الرجال وبها يجب أن يتحلى القوميون الاجتماعيون. ... ومســتـمـرون ! * هوامش: 1. فكتور حنا أسعد من الرفقاء الخمسة عشر الأول الذين انتموا إلى الحزب، تولى مسؤوليات حزبية عديدة منها منفذ عام بيروت. 2. زكي النقاش: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |