شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2022-10-31 |
التحية الأخيرة مذكرات الأمين منصور عازار |
في أكثر من مناسبة كتبنا عن الأمين منصور عازار، كما عممنا ما جاء في كتبه الكثيرة. فالامين منصور عازار كان سخياً جداً بمآثره ومواقفه وعطاءاته، ويصح ان يُكتب عنه الكثير. كتابه الأخير التحية الأخيرة غني جداً بالمعلومات ويستحق ان يُقرأ مراراً وأن يُكتب عنه. ادناه المقدمة بقلم الرفيق الصديق نصري صايغ الذي كنت عرفته قبل انتمائه وترافقنا في مسؤوليات حزبية مركزية عديدة، كما عرفت شقيقه الرفيق سامي، والرفيق الدكتور عاطف. ل. ن. * كأنه في مقتبل العطاء بقلم الأمين نصري الصايغ من يكون هذا الرجل الذي لا يزوره التعب بعد أزمنة من العمل ؟ من يكون هذا الرجل الذي يستخف بالمصاعب، بجسامة الأمل، وطاقة البحث عن بدائل؟ او، من عرف رجلاً سخر من الموت مراراً، وردّه بإرادة الحياة؟ أو من صادف رجلاً ظل في الخسارة رجلاً وفي الربح مساوياً لنفسه؟ يعيش الماضي بلحظات قصيرة، ويتطلع الى المستقبل كأنه في مقتبل العمر، بل في مقتبل العطاء. ما عرفت في حياتي، رجلاً يدنو من الوداع، وهو يخطط ويعمل وينفّذ، مرة في الاقتصاد ومراراً في الثقافة، ودائماً في العقيدة، ولا يكلّ من شباب فيه، وهو يدنف الى الثمانين. لمنصور عازار، في خاطري، صورة من لا يهدأ. أيعقل؟ وهو منقول الى العناية الفائقة في حالة الخطر الشديد، ان يطلب ممّن حوله، تأمين نصاب المحاضرة في المركز الثقافي في بيت الشّعار؟ أيعقل بعد استفاقته من غيبوبة طويلة. في المستشفى ان يسأل اصدقاءه القلقين على قلبه وعمره وما بينهما من تآمر على الروح، متى موعد نهاية هذا المشروع؟ وماذا حلّ بنظام المحاضرات ومتابعة الأبحاث ؟ كنت في الأربعين، وهو في الرابعة والستين تقريباً، خارجا من جراحة القلب، عندما خارت قواي من التعب، فيما كان ينهض من ورشة ليبدأ بورشة أخرى، دينه العمل، إيمانه الإنجاز، طائفته المثابرة... عندما أدخل المستشفى للمرة الثانية، لخيانة قلبه لمراده، قال له الطبيب في لندن: كنت طلبت منك ان لا تمسك بطيختين، فأجابه منصور: يا دكتور، صاروا ثلاثة: الصناعة والثقافة والحزب. وعندما زرته بعد وعكته التي ألزمته الإقامة في منزله، وجدته مقيماً في غرفة عمليات ميدانية: يتصل من أجل قضية حزبية، يطالب بحضور لقاءات، يراسل بإلحاح أصدقاءه الإعلاميين. ينظّم لقاءات ومحاضرات، وأشد ما كانت دهشتي، عندما لقيته. ذات زيارة، يكتب فصولاً، ويصحح مقالات، كأنه ما زال في مجلته "المنبر" في باريس. أقول: أتعبنا هذا الرجل ولم يتعب، أرهقتنا، فيما هو يجهد عمره، كأنه في نزهة: لا يحزن، لا يعاتب، لا ييأس، لا يعرف لليوم مقياساً، وللأسبوع أياماً، وللشهور حدوداً، الزمن لديه امتداد قصير لمدى طاقاته. إذا آمن اندفع. رهانه دائماً على الإنجاز. دأبه تخطّي الصعوبات، وليس "النق" عليها. ذات مرة انتابتني أزمة في مجلة "المنبر" في باريس، عندما كنت مديراً لتحريرها، دخلت عليه مراراً في مكتبه، أشكوه مصاعبي في العمل، وقد كانت كثيرة. والغريب، أنه كان يطمئنني الى ان هذه المصاعب عادية، ولكني لم أنتبه الى ان كلامه يذهب باتجاه آخر، الى ان دخلت عليه مرة كعادتي لأشكو له ما يواجهني. وكنت أنتظر منه مساعدة لأداء عملي بشكل أفضل. صمت قليلاً ثم سألني: كيف أحوال العائلة؟ كيف الأولاد؟ هل قبضت راتبك هذا الشهر في موعده ؟ عجبت لأسئلته الخارجة عن الموضوع، وتساءلت لماذا يصرفني عن همومي: وفيما أنا في حيرة أسئلته وإجاباتي الباهتة، قال لي: أنت تقبض راتبك، لتحل لي مشاكلي. إذا كان عليّ ان أحل لك مشاكلك في العمل، فإنني سأقبض راتبك عوضاً عنك... يا عزيزي، ليس مهماً ان تصف لي مشكلتك، بل ان تسعى الى حلها. ومنذ ذلك اليوم، أقلعت عن "النق" وعن عبقرية وصف المشكلات. وبالغت في تعصبي لهذا الرأي، بحيث أبلغت سكرتيرتي في باريس، بأن تمنع عني مقابلة كل من يرغب في الشكوى (النق). مشكلة أخرى اعترضتنا في مطار لاغوس إبان انتقالنا منها الى مدينة كانو في شمال نيجيريا، لتفقد مشاغله والجالية اللبنانية هناك. وكعادة الطيران في دول العالم الثالث تتخلف الطائرة عن الإقلاع، لأسباب همايونية، فرغب الأستاذ منصور في إجراء اتصال هاتفي، (وهو لا يكلّ عن التهاتف والمتابعة والملاحقة والمعرفة). فبحث عن "نيرة" (عملة نيجيرية) لاستعمال الهاتف، فلم يجد في جيوبه فلساً. فطلب مني بسرعة والسماعة في يده، "عطيني مصاري". قلت له: لا أحمل مالاً، فما كان منه إلا ان ترك السماعة ومضى في القاعة الى اول رجل التقاه، فطلب منه "فكّة" ليفك حاجته. أما عندما حدثني مستشاره المخلص البريطاني "بن بدجن" عن كيفية تخطّيه المصاعب، في عالم الصناعة، في بلاد صعبة المراس كأفريقيا، فعرفت ان في منصور موهبة الإقناع. ذات مرة، ضيّق عليه أحد المصارف بمطالبه، فطالب مستشاره التأجيل لبضعة أيام، فرفض المصرف إعطاء تسهيلات للمصنع... فما كان من منصور، صاحب معامل ميتالو بلاستيك إلا ان ذهب بنفسه الى المصرف، وبعد ساعتين، عاد مؤمّناً لمصنعه، سيولة وقروضاً فائقة. قال لي بن بدجن: كان مطلوباً منه ان يسدد بسرعة، فعاد بغلّة جديدة من التسهيلات ثم ختم قوله: ذهب ليدفع فقبض. وعلى الرغم من هذه التحديات، فقد عانى منصور نكبات كبيرة، كادت ان تطيح بكل منجزاته الاقتصادية. كان في مواجهة هذه العواصف، يتشبّه ببطل رواية "الشيخ والبحر" لأرنست همنفواي: "الانسان ينحني، كالقبضة في وجه الريح، ولكنه لا ينكسر" . ولم ينكسر، ظل منتصباً. رجلاً، كما كان في أيام انتصاراته، وفي أيام محنته. عاش حزبه بيومياته، وما زال. حزبه حياته. حزبه امله.. وفي هذ الكتاب بعض من صفحاته. عن معاناته، وانتصاراته، وانكساراته... غريب وما زال واقفاً يؤدي التحية، وهو على عتبة الوداع. ماذا بعد؟ عندما تعرّفت إليه في باريس. كنت أرفض فيه أدواراً كثيرة، ولا ابالغ، عندما أقول إن ما كنت ارفضه فيه، كان بعض ما تعلمته منه. هذا الكتاب، وثيقة حية، عن حياة رجل قرر ان يبقى على قيد الحياة، مدة طويلة إضافية. فالموت، ليس قدره، هكذا يشعر. وهكذا يتصرف. لذا جاءت تحيته الأخيرة، ليتعرف جيل أبنائه وأحفاده الى سيرة رجل كان من الذين حرثوا الحقل، وما زال الحقل بحاجة الى فعلة كثيرين. تحيته الأخيرة... من يرد عليها، بتحية أفضل منها ؟
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |