شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2023-01-06 |
طفولتي مع والدي من كتاب "الحزب والعائلة" للدكتورة صفية سعادة |
الارجنتين لقد أحببت والدي حباً كبيراً، ومنذ بدايات طفولتي لا تنفصل ذكرياتي عن وجوده معي، فلازمته وتعلقت به دون سواه، ولو استطعت الالتصاق به لما توانيت. كنت اطمح ان ابقى جانبه طوال الوقت، إذ ان الحياة معه لها طعم المغامرة المثيرة . سار والدي بخطى واسعة، دون قلق او اكتراث للمخاطر المحتملة على طريقه. هذه السمة ولّدت فيّ عدم الخوف من التحدي والمواجهة ما جعلني أدفع بطاقتي نحو تخومها القصوى، وأبعد منها ان استطعت، سواء حتّم ذلك عليّ امتطاء جواد، او السباحة في بحر، او جعل الارجوحة تصل الى مداها الأعلى. أتاح لي المجال ان افصح عما يخالج نفسي بحرية، ودون وجل، فلم يضع يوماً حداً لتساؤلاتي البريئة، ولم يمنع جسدي الناحل والرشيق من ان يظهر قوته الكامنة، فأشعرني بأن لا شيء مستحيل المنال. أحبّ ان أرى العالم أحجية عليّ ان أفك طلاسمها بفرح، غير آبهة بالعثرات التي قد توقف سبيلي هنا او هناك، فرُبيت وكلي شغف المستكشف للمجهول. على عكس والدي، فإن والدتي، الممرضة في مستشفى محلي، كانت متحفظة، انطوائية، لا تفصح عن مشاعرها بسهولة. وطالما بقي زوجها حياً، عهدت إليه مهمة تربيتي، وارتاحت لرؤيته سعيداً في قربه من ابنته البكر إذ ان عملها كان يستنفد كل قواها. عُرف عن والدي أنه يحب الأطفال، فدأب يلعب معي ويهتم بي، ويستلقي الى جانبي في قيلولة بعد الظهر التي كنت أحاول التملّص منها، ويقرأ لي قصصاً، ويعلمني القراءة والتكلم باللغة العربية الفصحى، ويصدح صوته بالالحان الأوبرالية كي أغفو فيما هو يهدهدني بين ذراعيه. خلا إقامتي في الارجنتين، حيث وُلدت، لم ألحظ فارقاُ بين عائلتي وعائلات أصدقائي، الا في اختلاف الأدوار بين الاب والام فوالدتي تمضي معظم وقتها خارج البيت، بينما يعمل أبي داخله لم لم أعرف آنذاك ان نشاط والدي يتمحور حول تطور حزب أنشأه قبل عقد ونيف من الزمن في لبنان، وأنه أحبر على المغادرة من قبل السلطات الفرنسية المحتلة. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، سّد أمامه أفق العودة للوطن. ألا ان بقاء والدي في المنزل مثّل سعادة بالغة لي لمعرفتي بأنني سأمضي النهار معه وسأحظى باهتمامه الكامل. رؤية والدي المتقدمة والواسعة الأفق تركت في نفسي أثراً لا يمحوه الزمن. فهو لم يلمّح او يظهر لي بأنني أقل شأناً من صبي. وحين رغبت بركوب دراجة او تسلق جبل، او الجلوس على غصن شجرة وافرة، لم يقل أبداً "هذا لا يناسب فتاة"، بل على العكس تماماً شجعني على المثابرة في محاولاتي حتى أبلغ مرامي، وبالتالي لم أرَ نفسي البتة دون مستوى الرجل فقط لأنني وُلدت امرأة. وحينما وطأت قدماي أرض لبنان، وجدت ان المجتمع لا يشارك والدي معتقداته وقيمه الحديثة، ما سبب لي ألماً وحزناً كبيرين، وهكذا نشأت وأنا أعتمد كلياً في تقويمي للأمور على والدي، وأصبح مثالي الأعلى بينما انحسر وجود أمي الى الظل. عاشت عائلتي في الاحياء الفقيرة من مدينة توكومان، فهمُ والدي يتمحور حول تقديم فكر جديد يؤدي الى نهضة بلاده، وحين أدرك ان منفاه سيطول، فتح مكتبة، وفي الليل، وبعد خلودي للنوم، كان ينكب على كتابة المقالات التي تظهر في اليوم التالي في الصحيفة التي أنشأها، عدا عن مئات الرسائل التي عليه إجابتها، والمشاكل التنظيمية الحزبية التي يواجهها، وبالكاد نام او استراح، إلا أنه لم يشتكِ مرة، بل حافظ على بشاشة وجهه ورحابة صدره. لم يكن لدي العاب البتة، لأن والديّ غير قادرين على شرائها. اللعبة الوحيدة التي كانت بحوزتي، خاطتها لي جدتي لأمي من القماش، ولجدتي منزل واسع وسط العاصمة بيونس آيرس تتشاطره مع خالي وخالتي العازبين واللذين يعملان في المنطقة التجارية. وكلما زرت جدتي، بالغ الثلاثة في تدليلي، فتنهمك جدتي بإعداد الاطباق المفضلة لدي، بينما تصطحبني خالتي الى الحديقة العامة حين تعود من عملها بعد الظهر، فألهو مع الأطفال في دوامة الخيل الكهربائية، والارجوحة، والنواسة الصاعدة والهابطة، والتزلق. وأحيانا، حين تحتاج خالتي للتبضع، كنت أمضي معها الى المجمّع التجاري الضخم حيث خُصصت قاعة كبيرة مليئة بالألعاب يستمتع بها الأطفال فيما أهلهم يتسوقون. كذلك دأب خالي على أخذي معه في رحلة على طول جادات العاصمة الجميلة في سيارته الأميركية الصنع والتي كان فخوراً جداً باقتنائها، خاصة وان السيارات كانت نادرة على الطرقات آنذاك، وشهدت العاصمة طفرة اقتصادية بسبب بقاء الارجنتين على الحياد خلال الحرب العالمية الثانية. استمتع خالي باختلاقه العاباً سحرية معي. فحين بلغت الرابعة من العمر، كان يمد يده الفارغة الى أذني فتظهر علكة. ذات مرة، طلبت منه ان يستخرج لي علكة على هذا النحو، فأجابني بأن أذني غير راغبة بإخراج علكة، فما كان مني سوى مبادرته بالقول: "لماذا لا تذهب الى المحل وتشتري لي علكة؟". حين ينشغل الجميع، كنت أمضي ساعات على الشرفة المطلة على شارع رئيس في بيونس آيرس، أراقب العديد من المظاهرات التي تهتف بحياة الجنرال بيرون. ولشدة حماستي، رجوت خالتي ان تحضر لي علم البلاد، وكنت أذرع الشرفة جيئة وذهاباً كلما مرت مظاهرة، مرددة مع الجموع باللغة الاسبانية: "نعم لبيرون، كيف لا!". وعلى هذه الشرفة نفسها بكيت طويلاً عندما أطاحت عاصفة هوجاء بآلاف العصافير، فوقعت عن الأشجار ميتة، وامتلأت الشوارع بأشلائها النحيلة العاجزة. أما في فصل الصيف، أي خلال كانون الثاني وشباط، فكنت أمضي بعض الوقت في الشاليه الذي اشتراه خالي في منتجع مار ديل بلاته الشهير، والمطل على البحر، وثمة صورة لي في ثوب السباحة وأنا أمسك بطائر البطريق، وما ان وصلت الصورة الى والدي الذي بقي في توكومان حتى بعث برسالة الى والدتي طالباً منها ألا تحاول أبداً كبت مشاعري، بل تركي أعبّر عنها بحرية، ذلك أنه استشف من الصورة خوفي من البطريق فيما أمي تحثني على الابتسام، فبدا وجهي نصفه باكياً ونصفه ضاحكاً، ومما جاء في الرسالة: " صورة صفية حلوة مع "الفينيقوى"، ولكنني وجدت ابتسامتها في إحدى الصورتين وكأنها مُغتصبة وكان من الأفضل ان تترك على سجيتها، فإن عابسة فعابسة، وإن ضاحكة فضاحكة، وإن هادئة فهادئة". (أنطون سعادة، "رسائل الى ضياه"، لندن: فوليوز 2000، صفحة 189). لم يحاول والدي البتة فرض فكرة او مبدأ او معتقد أو مسلك لا يقوى عقلي اليافع على فهمه او استيعابه وبخلاف ما حدث بعد وفاته، لم يشجعني على تقليد أعضاء الحزب في إلقاء التحية، كما انه لم يعمدّني او يسمح بثقب أذني، تاركاً لي الحرية الكاملة ان افعل كما أشاء حين أكبر، لأنه آمن أنني الوحيدة التي لها الحق باتخاذ القرارات فيما يختص بجسدي وعقلي ومشاعري. حرص والدي على إبقائي طليقة من أي شكل من اشكال القمع او الضغط المعنوي، وأكبرت فيه هذه الشهامة، وهذا الاحترام لمشاعر طفلة، ولم أجد له مثيلاً بهذا السمو والرقي في بلادي. وفي حين تمحور وجودي في بيت جدتي حول اللهو واللعب، حصر والدي اهتمامه بثقافتي الفكرية فحفزني على القراءة منذ الرابعة من عمري، ودرّبني على التكلم باللغة الفصحى بطلاقة ودون أغلاط لغوية بناء على السمع، وجعلني أهوى أمتطاء الخيل، والذهاب سوية الى الحفلات الموسيقية وهو من أشد المعجبين بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. بدت لي الحياة واعدة آنذاك، وتراءى لي المستقبل زاهراً لا يعكر صفوه شيء حتى حين أعلن والدي ذات مساء في كانون الثاني 1947 عن عزمه على العودة نهائياً الى الوطن، سيما وأن لبنان نال استقلاله من فرنسا. نظمت الجالية السورية حفلة بمناسبة الأول من آذار وأهدته قلادة ذهبية هي كناية عن علم الحزب/ الصليب المسيحي معانقاً الهلال الإسلامي على شكل زوبعة تدل على وحدة المجتمع بالرغم من تنوع عناصره، واستوت ماسة تشع ضوءاً وسط القلادة وعلى الفور، أهداني والدي القلادة، فكانت الاغلى على قلبي، واحتفظت بها كذكرى حميمة من أبي الى ان سُرقت من منزلي إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. غادر والدي بالطائرة على ان الحق به بحراً. * العائلة: 1940 – 1949 هاجرت عائلة والدتي جولييت المير الى بيونس أيرس، عاصمة الارجنتين، مع نهاية القرن التاسع عشر، تاركة مدينة طرابلس، لأسباب إقتصادية. فوالدها تاجر حرير، لكن غزو انتاج الآلة الصناعية الأوروبية لأسواق المشرق العربي، أدى الى كساد التعامل بالحرير، فلم يجد حلاً إلا بالهجرة. اما جدي لوالدي، الدكتور خليل سعادة، فهاجر الى الارجنتين عام 1913 بعد ان توفيت زوجته في القاهرة، واستعرت الحرب العالمية الأولى نتيجة تنافس الدول الأوروبية على أسواق العالم الثالث وفي العام 1920 انتقل الدكتور خليل الى البرازيل حيث ظل فيها الى حين وفاته سنة 1934. لم يطق والدي أنطون البقاء في المغترب، فهاد الى لبنان عام 1930، على أمل إنشاء حزب ينهض ببلده. فقاسى السجن والاضطهاد من قبل السلطات الفرنسية، ما دفعه الى مغادرة لبنان والعودة الى البرازيل حيث خطط لتنظيم المغتربين، ولسوء حظه، وشى به بعض اللبنانيين الموالين للدولة الفرنسية، فأرغم على مغادرة البرازيل حيث أخوته وأصدقاؤه متوجهاً الى الارجنتين التي لا يعرف فيها أحداً. تعرف والدي في العاصمة الأرجنتينية على عائلة والدتي التي حبّذت توجهاته، وأحبّا بعضهما وتزوجا عام 1941، وتعاهدا على العودة الى لبنان حالما تنتهي الحرب العالمية الثانية. في هذه الاثناء وُلدت ابنتهما الكبرى الصفية، وثم اليسار. لم يستطع والدي تسجيل اسمائنا لان السلطات الأرجنتينية ترفض الأسماء غير اللاتينية، فسجل اسمي على هويتي: صوفيا، واسم أختي: إليزا. وهكذا حصلتُ على اسمين. عشنا في الارجنتين كعائلة طبيعية، وكنت متعلقة جداً بوالدي، وأحاول أن ابقى معه لا مع والدتي. فهو شغوف بالأطفال، وصبره طويل، كما أنه يسمح لي بتسلق الشجر، او ركوب الخيل، او القيام بمغامراتي الأخرى، فيما والدتي تنهاني عنها، خوفاُ علي. اعطاني هذه المساحة الواسعة للتحرك، وعدم الخوف من المواجهة، رسّخا في تعلقاً بحريتي، وثقة بقدراتي. تغير كل هذا، وبشكل درامي، حين قرر والدي العودة الى لبنان عام 1947، ومنذ ان وطئت قدماي مرفأ بيروت، وجدت حشداً كبيراً بانتظارنا، وعدسات الكاميرات موجهة صوبي. كرهت ذلك، وأنا المتعلقة بخصوصياتي ولا أحب مشاركتها مع أحد. وأعتبرت ذلك إجتياحاً لطفولتي، وقمعاً لحريتي الشخصية. فهربت من الكاميرات، ولا أزال أمقتها، فيما أجد غيري يتهافت عليها!. ثم بدأ الرعب يجتاحني كلما اختفى والدي، فأسمع همس الحاضرين حول إصدار مذكرات توقيف بحقه. ولم أعد أغادر المنزل إلا للذهاب الى المدرسة، وحين أعود الى المنزل، أجلس في باحته التي تزينها بركة ماء، أتأمل الحلزونات بزحفها البطيء، حاملة منزلها على ظهرها، فيزول قلقي على والدي، الى حين. لم يدم ذلك طويلاً، إذ ان والدي اختفى، ولم تنبس والدتي بكلمة، واخذت العناصر الأمنية تدخل المنزل منتصف الليل، وتفتشه بحثاً عن والدي، فيما كنت وأختي نفرش الأرض لأننا لم نكن نملك أسرّة، أتذكرهم يفتحون الخزانة فوق رأسي بحثاً عن والدي، او عن سلاح. وضبّت والدتي اغراضنا بسرعة في أحد الأيام، وغادرنا الى دمشق، حيث التقينا بوالدي مرة واحدة، ولفترة وجيزة لم تتعد الساعة لانهماكه في أمور حزبه. لا أزال اذكر تواجده في غرفة فسيحة، يدرس ورفقاؤه خارطة كبيرة، وقد بدا الاعياء والتعب على وجوههم. منّت والدتي النفس بأن تراه اليوم التالي، لكننا نُقلنا الى دير سيدة صيدنايا من قبل السلطات السورية، فأصبحنا تحت إقامة جبرية فيما والدي يسلم الى لبنان غيلة، وبتواطؤ أميركي صهيوني، مصري (الملك فاروق)، لبناني، وحزبي. وكان هذا اللقاء الأخير. *
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |