شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2023-06-22 |
ســـعـــاده وفـــلـــســـفـــة الـــتـــاريـــخ (الجزء الثاني) الأمين د. جهاد نصري العقل |
فلسفة نقد الروايات التاريخية من المتعارف عليه أنّ فلسفة التاريخ، هي من العلوم الإنسانية التي وضعت قواعدها في الغرب، إلا أنّ في أصولها "الفقهية" تعود إلى "علماء الحديث" المحمديين، وهذا المصطلح يُطلق على الأعلام (العلماء) الذين جمعوا الحديث النبوي، وصنّفوه في كتب الحديث، وعلى الذين صنّفوا كتبا في فنّ من فنونه، وعلى الذين اعتنوا بالحديث النبوي شرحا وتخريجا وبرزوا في مجاله. ولكن بالرغم من الجهود التي قام بها علماء الحديث، وبعض القواعد التي وضعها الائمة منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث، فهي، على حدّ ما أورده د. أسد رستم، تتفق في جوهرها وبعض الأنظمة التي أقرها علماء أوروبة فيما بعد في بناء علم المثودولوجية (علم المناهج). ولو أنّ مؤرخي أوروبا اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجية حتى أواخر القرن الماضي. ولكن لا بدّ من الإقرار أنّ فلسفة التاريخ هي "من أهم العلوم التي نشأت في الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فقد كان المنطق والطبيعيات والإلهيات قاسمًا مشتركًا بين الحضارات اليونانية والمسيحية والإسلامية. إلا أن الغرب في العصور الحديثة فصل العلوم الإلهية وأبرز ما يخص الإنسانية منها فيما أصبح فيما بعدُ يُسمى «العلوم الإنسانية» في مقابل العلوم الرياضية من ناحيةٍ والعلوم الطبيعية من ناحيةٍ أخرى. وأصبح هذا التحوُّل من «الله» إلى «الإنسان» أخص ما يميز الحضارة الأوروبية الحديثة. ظهرت فلسفة التاريخ بعد هذا التحوُّل مرتبطة بالإنسان، وتقدُّمه، ونموُّه، وارتقائه، ورسالته، وارتباطاته بغيره، وانتماءاته للطوائف والعشائر والقبائل والأمم، وتحديد أدوارها في الزمان، وتعاقبها، وتراكم خبراتها فيما سُمِّي بعد ذلك بالتاريخ؛ لذلك افتخر الغرب وزَهَا باكتشافه ميادين لم تعرفها الحضارات القديمة...كان الإنسان عند سقراط روحًا خالدةً بلا تاريخ، وكان التاريخ عند أفلاطون تاريخًا أسطوريًّا، وعند أرسطو تاريخًا طبيعيًّا، وعند أوغسطين تاريخ ملكوت السموات، تاريخ الأنبياء. لم يتم اكتشاف التاريخ كوعي إنساني إلا في الغرب بعد إحياء الآداب القديمة في القرن الرابع عشر واكتشاف الحياة الإنسانية ابتداءً من إبداعها الأدبي، وبعد الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، واكتشاف اللحظة في علاقة مباشرة مع الخلود، والتأكيد على حرية المسيحي، والفضل الإلهي الذي لا يحتاج إلى توسُّط، وبعد القرن السادس عشر حيث بدأ الإنسان يظهر كمركز للكون فيما سُمِّي فيما بعد باسم «المذهب الإنساني» عند أراسم، وبعد معركة القدماء والمحْدَثين في القرن السابع عشر، وانتصار المُحْدثين على القدماء، وإثبات قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، وتجاوز الخَلَف للسَّلَف . وهنا ظهرت فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر لتزيد على هذه المكتسبات مفهوم التقدُّم إجابة على سؤال: كيف تتقدَّم الشعوب؟ ما هي مراحل ارتقاء الإنسانية؟ وتكاد تجمع جميع فلسفات القرن الثامن عشر والتاسع عشر (باستثناء كوندرسيه الذي جعل المرحلة العاشرة مستقبل الإنسانية وفلسفات القرن العشرين التي تعلن نهاية الحضارة الغربية وأفول الغرب) أن الإنسانية قد وصلت إلى مرحلة النضج والكمال، وأنها لم تعد في حاجةٍ إلى وصاية خارجية من الآلهة أو الأبطال، من الأنبياء أو السَّحَرة، من الحكام أو الآباء. فإذا ما وعت الشعوب مراحل تطورها أمكنها بعد ذلك أن تتحرَّك، وأن تأخذ مصائرها بأيديها، وأن تنقل أنفسها من مرحلة إلى مرحلة؛ وبالتالي كانت فلسفة التاريخ هي الممهِّدة للثورة الفرنسية، أعظم إنجاز للغرب؟!، وأكبر مفجِّر لطاقات فلسفة التنوير التي كانت الأساس النظري الذي خرجت منه فلسفة التاريخ" (راجع، أسد رستم، مصطلح التاريخ). مع الإشارة إلى ما أورده سعاده بخصوص "الثورة الفرنسية" وتداعياتها الكارثية على فرنسا ذاتها وأوروبا والعالم، وخصوصا على قضيتنا القومية السورية (راجع مقالة الحرية وام الحرية ، تأملات في الثورة الفرنسية، في قسم الملاحق). ويعتبر الإيطالي فيكو Vico (1668-1744) مؤسس فلسفة التاريخ قبل تأسيسها في فرنسا على يد مونتسكيو (1689-1759م) . اشتهر الإيطالي فيكو أستاذ القانون والفلسفة وأستاذ البلاغة اللاتينية في جامعة نابلي بإيطاليا ،من خلال كتابه «العلم الجديد» الصادر عام 1725، ولم يُعرف خارج إيطاليا إلا في القرن التاسع عشر بعد أن ظهرت له ترجمة ألمانية في 1822م وأخرى فرنسية قام بها ميشليه في 1827م؛ لذلك لم يؤثر في تطور فلسفة التاريخ إلا بعد قرن من الزمان. (راجع هامش رقم 8) . تصنّف مقالات سعاده المشار إليها سابقا، في باب فلسفة نقد الروايات التاريخية، وتعود تاريخيا، أولى محاولات هذه الفلسفة في نقد الروايات التاريخية إلى القرن السادس ق.م. عندما كتب المؤرخ اليوناني هكتايوس الملطي في أصل الشعب اليوناني منتقدا أساطيره الخرافية، فقال: "لست أثبت هنا إلا الحكاية التي أعتقد صحتها. لإنّ أساطير اليونان كثيرة وهي عندي حديث خرافة". وعلى نهجه سلك المؤرخون اليونانيون، إلا أنّ أحدا، منهم، لم ينظر إلى الروايات التاريخية، على حقيقتها كــ "علم بأصول"، على حدّ تعبير المؤرخ أسد رستم، الذي اعتبر أنّ علماء الدّين الإسلامي هم أول من نظّم نقد الروايات التاريخية، فاتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محترمة في الأوساط العلمية حتى الآن. إلى أن ظهر في القرن الرابع عشر ميلادي عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) الذي جعل في مقدمته الشهيرة، من "طبائع العمران" محكا علميا لنقد الأخبار التاريخية وتمحيصها. ومن معاصري إبن خلدون في الغرب، فلافيوس بلوندوس الإيطالي (1388-1463) الذي كتب في تاريخ رومه ونقض العديد من أساطير السابقين من زملائه. ويعتبر العالم الإيطالي جيوفيني فيكو (1668-1744) أول من نادى بنقل التاريخ من ميادين الخصام والنزاع والحرب إلى مجالس الدرس والتدقيق، من خلال كتابه "أصول علم جديد" الصادر عام 1725، حيث اعتبر فيه "التاريخ فرعا من علم المجتمع الإنساني" .وأنّ البحث التاريخي الحقيقي يقوم على أصول منطقية دقيقة. وقال بمبدأ التطوّر وسكت عن تدبير الخالق (راجع هامش رقم8). ممّا دفع بالفيلسوف الفرنسي مونتسيكيو (1689-1755) إلى التنويه بموقف فيكو على أنّه "أسبق وأعظم من حاول التأريخ". وقد شهد القرن السادس عشر في أوروبا يقظة قومية تمظهرت بقيام علماء مؤرخين جمعوا المصادر التاريخية بدافع الإعتزاز بالماضي، فوضعوا المجموعات التاريخية ومن أبرزها: "مجلدات العصور الوسطى"، الفرنسية، و"مجلدات مورتوري" الإيطالية، و"مجموعة توما هيرن" الإنكليزية. وللتذكير فإنّ رسالة جان مابيون في الديبلوماسيات 1681 هي فاتحة البحث العلمي الحديث للمخطوطات.
في إلمانيا أحدثت مقدمة العلامة وولف الإلماني الصادرة عام 1795 ضجّة في الأوساط التاريخية والأدبية لإعلانه أنّ الإلياذة والأوذيسة لم يكتبها هوميروس بل جماعة من الشعراء في فترات متباعدة من الزمن. وعلى خطاه سار تلميذه أوغست بوخ الذي انتقد المصادر التاريخية اليونانية في موضوع الإقتصاد السياسي في أثينة عام1817، وكذلك فعل برتولد نيبور الإلماني (1776-1831) في غربلة المراجع الرومانية بغربال وولف، فوضع كتابه "تاريخ الرومان" ونهج فيه نهجا علميا جديدا إذ أسقط معظم أساطير الرومان وقصصهم "فأحيا التاريخ الروماني وبوّاه مكانة علم مستقل". مهّدت المراحل السابقة، في القرن التاسع عشر، بما تيسر من سهولة العودة إلى المراجع ومقابلتها ومقارنتها ونقدها تمهيدا للوصول إلى الحقائق فبرزت في هذا السياق، في مطلع القرن التاسع عشر، إلمانيا "معلمة أساتذة للعالم بأسره في فنّ التاريخ الحديث"، ورائدها ليوبولد فون رانكي (1795-1886) الذي صنّف في تواريخ فرنسا وإيطاليا وتركيا والصرب وانكلترا والكنيسة بنزاهة وعدالة، رائده الحقيقة كما هي. وعلى خطاه سار الإلماني تيودور مومسن (1817-1903)، الذي وضع تاريخا عاما لرومة وولاياتها لا يزالان مرجعين هامين بالتاريخ الكلاسيكي حتى الآن .
أمّا في فرنسا، فقد ساهم مؤرخوها مساهمة قيمة في نقد المراجع الأولية، العائدة إلى القرون الوسطى، من خلال مدرسة الوثائق التاريخية التي أسسوها في العام 1821. فعنوا عناية فائقة بنقد وثائق العصور الوسطى، ووضعوا القواعد الأساسية لعدد من العلوم الموصلة لعلم التاريخ كـعلوم الديبلوماسية والسفرجيستيك (علم النسخ) والبليغرافيا (الكتابات القديمة) وغيرها. ومن رواد هذه المدرسة الأساتذة: غيوار ومونو وكولانج.
وقام في بريطانيا، المؤرخان سر فرنسيس بالغرايف (1788-1861) و وجون ميتشل كامبل (1807-1857) بتاريخ الجزر البريطانية في العهدين السكسوني والنورماندي بالدقة المطلوبة ففتحا بذلك عصرا جديدا في التأريخ البريطاني .
في الخلاصة، يُعلّق د. أسد رستم، على ما تقدّم: "وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمّو الروح البريء من الهوى وتقدم الطريقة العلمية في البحث وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبة الغربية والولايات المتحدة، ظلّ البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة فيضل ويضلل. ولا يزال رجال الفلسفة حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر فيما يقرأون أو ترو في الإستنتاج. وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الإستشارة فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه". لم ينجح الفلاسفة المتذرعون بالتاريخ في نظرياتهم لجعل التاريخ ينطق بما ليس فيه، إذ سارع العديد من أساتذة التاريخ في التصدّي لهؤلاء، ومن بينهم الفرنسي غبريال مونو الذي أصدر في العام 1876 مجلته التاريخية التي دعا فيها إلى كتابة التاريخ بعد التثبت من الحقائق التاريخية تثبتا مستقلا عن كلّ رأي فلسفي. وأصدر العلامة الألماني د. أرنست برنهايم عام1889 مؤلفه الشهير "تعلّم المنهج التاريخي"، وهو كتاب تعليمي، أبان فيه الخطوات الصائبة التي يجب على المؤرخ أن يخطوها والعقبات التي تعترضه وكيفية تذليلها، والمهالك التي قد يقع فيها وكيفية تحاشيها"، وعزّز طروحاته بالأمثلة الدقيقة المفصّلة. وبعد عشر سنوات أصدر المؤرخان الفرنسيان شارل سينيوبوس وشارل لانغلو مقدمتهما المختصرة في الأبحاث التاريخية، فعزّزت المنهج العلمي الجديد في التأريخ . أمّا في اللغة العربية، فقد برز إسم د. أسد رستم(1)، من بلدة الشوير المتنية كرائد من رواد علم التاريخ من خلال كتابه "مصطلح التاريخ" الصادر في 12 أيلول من العام 1939، وهو بحث في نقد الصول وتحرّي الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفي ما يقابل ذلك في علم الحديث. وقد اعتمد هذا الكتاب في تدريس الطلاب في جامعات لبنان، خصوصا في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وقد خصصت إدارة الجامعة إحدى شهادات الإجازة في التاريخ تحت إسم "تاريخ لبنان ومصطلح التاريخ"، وكنت من بين الناجحين في هذه الشهادة قي دورة تشرين 1973 . وما زلت أحتفظ بهذا المرجع في مكتبتي أعود إليه عند الحاجة . اما الجديد في كتاب "مصطلح التاريخ" ، فهو ما لخصّه المؤلف بهذه العبارة: "لعلي أول من حاول أن يربط ما توصل إليه علماء الحديث بما وضعه علماء الغرب اليوم في هذا الحقل من العمل"(2). د. أسد رستم هو مدرّس مادة "علم المثودولوجية"(3)، أي "علم المناهج" أو البحث بشكل صحيح ،في مطلع الثلاثينيات في "جامعة بيروت". واليه يعود الفضل في الكشف عن "أعظم مجموعة لكتب الحديث النبوي في العالم" في خزائن "المكتبة الظاهرية" في دمشق، وفيها عدد كبير من أمهات المخطوطات في هذا العلم وقسم منها يحمل خطوط أعاظم رجال الحديث، ومن بينها "رسالة القاضي عيّاض في علم المصطلح كتبها إبن أخيه عام 595 للهجرة"(4)، وعنها يقول د. رستم "هي من أنفس ما صنّف في موضوعها وقد سما بها القاضي عياض إلى أعلى درجات العلم والتدقيق في عصره، والواقع أنّه ليس بإمكان أكابر رجال التاريخ اليوم أن يكتبوا أحسن منها، في بعض نواحيها، فإنّ ما جاء فيها من مظاهر الدّقة في التفكير والإستنتاج تحت عنوان "تحري النص والمجيء باللفظ" يُضاهي ما ورد في الموضوع نفسه في كتب الفرنجة في أوروبة وأميركة ..."، وقد خصّ د. رستم الفصل الثالث، من الباب الثالث، من كتابه بنفس العنوان "تحري النص والمجيء باللفظ"(5). يقول رستم: "والواقع أنّ المثودولوجية الغربية التي تظهر اليوم لأول مرّة بثوب عربي ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمت إليه بصلة قوية، فالتاريخ دراية ثمّ رواية، كما أنّ الحديث دراية ورواية. وبعض القواعد التي وضعها الائمة منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث تتفق في جوهرها وبعض الأنظمة الي أقرها علماء أوروبة فيما بعد في بناء علم المثودولوجية. ولو أنّ مؤرخي أوروبا اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجية حتى أواخر القرن الماضي. وبإمكاننا أن نصارح زملاءنا في الغرب فنؤكد لهم بأنّ ما يفاخرون به من هذا القبيل نشأ وترعرع في بلادنا. ونحن أحقّ الناس بتعليمه، والعمل بأسسه وقواعده"(6). د. رستم هو من رواد المدرسة العلمية في التاريخ، فهو يؤكد أن التاريخ هو علم أيضا، يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى . يقول رستم: "وها أنا الآن أضع بين يديّ القاريء رسالتي في مصطلح التاريخ، متوخيا خدمة لغتي وبلادي، ومحاولا أن أفتح بابا جديدا لطلاب التاريخ العربي ينفذون منه إلى مجاهله ويتصلون به إلى فهم الروح العلمية الحديثة التي تتجلى في مؤلفات علماء الغرب اليوم. فكأي من قضية في تاريخنا لا يزال مؤرخونا يخبطون في حلّها خبط عشواء. وكأي من ناحية في حياة القدماء في العصور السالفة يجهلونها تمام الجهل. وحسبنا أن نذكر أنّ أكثر مؤرخينا اليوم يزعمونا أنّ كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنّك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النصّ فقد هيئت العدة لكتابة التاريخ. ولقد فات هؤلاء أنّ التاريخ هو علم أيضا يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى، من طبّ وهندسة وفقه وغيرها، وأنّه لا بدّ لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كلّ علم مما أوردنا .."(7) . * فلسفة التاريخ عند سعاده سعاده هو رائد من رواد المدرسة العلمية، يعتبر العقل هو الشرع الأعلى للإنسان، يؤيد الحقائق العلميّة ويعترف بها، يؤمن بالتطوّر في دائرة المعرفة والعلم والحقائق والمنطق. ويشهد كتابه "نشؤ الأمم" الإجتماعي العلمي البحت البعيد عن التأويلات والإستنتاجات النظرية، وسائر فروع الفلسفة، على المنهج العلمي الواضح الذي اعتمده سعاده لإرساء قواعد الفهم الصحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها، من أجل تقوية حيوية الجماعة، وتعزيز مؤهلاتها المادية والروحية للبقاء والإرتقاء، والغاية الأساسية عنده هي حياة الأمة وتأمين مصلحتها العليا ومستقبلها وما يجب أن تصل إليه من الإرتقاء والبحبوحة والعدل الإجتماعي - الإقتصادي. وعلى ضوء ذلك ندرس العقيدة القومية الإجتماعية وما يتفرع عنها من نظريات في سائر فروع العلوم والفنون، والفلسفات، ومن بينها نظرية "فلسفة التاريخ" عند سعاده . ممّا تقدّم، سأحاول أن أرسم الخطوط العامة في نظرية" فلسفة التاريخ" عند سعاده، معتمدا في ذلك على دراسة تناولت موضوع "فلسفة التاريخ عند أنــطــون ســعاده .التاريخ فاعلية إنسانية تعمل ضمن شروط موضوعية"، نشرها د. أدمير كوريه في جريدة "الديار" وهي دراسة نقدية، غنية بمجموعة من المفاهيم التي تعالج فلسفة التاريخ عند سعاده وهي ليست الوحيدة طبعا، وفي مفهوم فلسفة التاريخ، بوجه عام، يقول كوريه: "هي نظرة منتظمة للتاريخ الإنساني، تكون التجليات التاريخية في تعاقبها وتطورها واستمرارها خاضعة لمبدأ أو مبادئ تدفع هذه التجليات باتجاه تحقيق غاية محدّدة". بداية، سعاده لم يضع بحثا نظريا مستقلا متكاملا للفلسفة التاريخية ومنهجيتها وأسسها وأغراضها: " يشرح فيه فلسفته للتاريخ والقواعد المنهجية الخاصة به، والأسس النظرية التي تقوم عليها، والأغراض التي ترمي إلى تحقيقها، كما فعل "هيغل" مثلا في كتابه "فلسفة التاريخ "(8). من هنا، فقد تعمدنا تقصي أسس هذه النظرية في المقالات المتفرقة التي أشرنا إليها سابقا. على أن نستكمل هذه المعطيات بما تضمّنته دراسة كوريه . سعاده الذي شهد الويلات التي حلّت في العالم منذ مطلع القرن العشرين، خصوصا الحرب العالمية الأولى وتداعياتها المأساوية، ولاسيما على الأمة السورية، ممّا دفعه إلى طرح السؤال في بداية عمله القومي الإنقاذي: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل ؟ سعاده رأى أنّ نصف ويلات البشرية مردّها إلى النزعات المعادية القومية منها والعنصرية والإقليمية التي سيطرت على التواريخ المحشوة بالفلسفات المغرضة والشروح الموضوعة قصدا لمقاصد توجيهية سيئة، والمنسوخة بأساليب مسمّمة للعقول، والمعمّمة على الرأي العام، والمخصصة لطلاب المدارس، الذين يخرجون إلى الحياة العامة حاملين في قلوبهم الكره والإحتقار للشعوب والجماعات الأخرى. وأورد سعاده على ذلك العديد من الأمثلة التي ذكرناها سابقا. والغريب في الأمر أنّ تلك "الثقافة" التاريخية المنغرضة السامة لم تقتصر على روح عداء المؤرخين الأجانب من الغربيين لكلّ ما هو شرقيّ وسوريّ خصوصا، بل تجاوز الأمر إلى تشويه الحقائق بين الدول الأوروبية – الغربية نفسها، خصوصا بين الجارين اللدودين فرنسا وإلمانيا، مع تسجيل انتقال العدوى إلى الأميركيتين، وتحديدا إلى البرازيل (راجع فقرة مقالة "علم التاريخ وسلام العالم") . تصدى سعاده لهذا الواقع المرير، الممنهج في فلسفة التاريخ المنغرضة، بإقدامه على "مذهب جريء"، جديد، يتناول الشأنين الإنساني العام ، والسوريّ الخاص . * اولا : في الشأن الإنساني العام
في هذا الشأن دعا سعاده، إلى: - عدم مزج الفلسفة بالتاريخ. واعتبار ذلك علم ثابت خالص يعرّض معارفنا للتشويش الذي يحول دون بلوغنا الغاية الشريفة التي نتوخاها، فضلا عن أنّ ذلك الأمر، أي مزج الفلسفة التاريخية بالتاريخ، له نتائج خطيرة مدمّرة على صعيد الكيانين العلمي والإنساني، وعلى المساعي التي يضحي من أجلها المفكرون لصيانة السلام العالمي، - تجريد التاريخ من النزعات والفلسفات المغرضة المسسمّمة للنفوس والعقول ، والتي تغني عن معظم مؤتمرات تحديد السلاح وعقد المعاهدات لتجنب الحروب . - البحث في أساليب إعداد كتب التاريخ للمدارس، وطرق تعليمها، كذلك الأمر بالنسبة إلى التواريخ العامة المخصصة للرأي العام . - الطلب من المعاهد العلميّة السورية إرسال نداء حار إلى معاهد العلم في العالم كلّها تدعوها فيه إلى عقد مؤتمر عام يقوم بمهمة التحقيق في مؤلفات التاريخ المعمول عليها في التدريس عند جميع الأمم، وتوحيد علم التاريخ العام، ونشر المعلومات التي تبطل تأثير التواريخ الخارجة عن دائرة العلم . - تنزيه معارفنا في ما يتعلق بأنفسنا وجيراننا والبعيدين عنّا كثيرا، يتوقف عليه سلام العالم، أكثر مما يتوقف على المؤتمرات والمعاهدات السياسية ". - تنظيف التاريخ من الشروح التاريخية غير العلميّة، التي هي، بحدّ ذاتها، جريمة عظيمة يرتكبها المؤرخون، بقصد أو بغير قصد، بتشويه علم التاريخ بما يحشونه من نظريات فلسفية، ليست في الأكثر، في جانب الخير العام وسلام العالم ولا في جانب الحقيقة والحقّ . - ضرورة الفصل بين معنى التاريخ ومفهوم الفلسفة التاريخية - والتاريخ ليس إلا عبارة عن صورة ثابتة لحوادث سابقة لا تعلل عن شيء فيما يختص بفلسفة تلك الحوادث. إذا كنا نستدل بالتاريخ على الماضي، فإنما نفعل ذلك لنعيد إلى ذاكرتنا الحادثات والاختبارات التي مرت بالنوع البشري في الأزمنة التي سبقت زماننا أما في مفهوم الفلسفة التاريخية فهنالك ما هو قبل التاريخ وأهم من التاريخ، وهو الحقيقة الفلسفية التي تبحث في مسببات الأمور ونتائجها وتحكم بخيرها للإنسانية أو شرها ونفعها أو ضرّها. مثلا الوجهة الحقيقية الجديرة بالنظر في "الثورة الفرنسية" هي في أسباب تلك الثورة ونتائجها. كما أنّ الحكم بنفع تلك الحادثات والاختبارات أو ضرّها وما هو مبلغ تأثيرها في أحوال النوع البشري برمته وكيفية فعلها فيه، غير مختص بالتاريخ بل بالفلسفة التاريخية. ومن الخطأ إعتبار المظهر التاريخي للثورة، من حيث المكان والزمان والظروف التي حصلت فيها يمكن أن يكسبها "صفة سامية " فهذه النظرية فاسدة إذا قرأناها بفلسفة أعمق وبحث أدق وأوسع، وعلّلناها تعليلاً أعمّ وأكمل على حدّ تعبير سعاده .. يقول د. أسد رستم،:"وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمّو الروح البريء من الهوى وتقدم الطريقة العلمية في البحث وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبة الغربية والولايات المتحدة ، ظلّ البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة فيضل ويضلل .ولا يزال رجال الفلسفة حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر فيما يقرأون أو ترو في الإستنتاج. وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الإستشارة فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه". * ثانيا - في الشأن السوري الخاص في خطابه التوجيهي المنهاجي الأول(9)، قال سعاده: "منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوّة، تاريخ الحزب السوري القومي الإجتماعي، تاريخ الأمة السورية الحقيقي نقضنا بالفعل حكم التاريخ، وابتدأنا تاريخنا الصحيح كانت الغاية عند سعاده من تقصي الروايات التاريخية، من خلال المدارس التاريخية، سواء القومية منها، والأخرى المعادية لحقيقتنا ونقد فلسفة هذه الروايات المعادية والمجحفة بحقّ تراثنا وحضارتنا، هو إنصاف التاريخ السوري، من خلال كشف الحقائق التاريخية وتثبيتها على قواعد علمية، لا تقبل الشك، والعمل على إنصاف التاريخ السوري والحضارة السورية، وتمجيد الأعمال والإنجازات الحضارية العظيمة التي يزخر بها التاريخ السوري منذ فجر التاريخ الجلي. وتدوين تاريخ الأمة بروح علمية موضوعية منصفة، باعتماد الحقائق التاريخية المثبتة، وإسقاط كلّ ما يشوّه الحقيقة التاريخية السورية، وتأسيس نهضة قومية سورية على جوهر روحية مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي الرائع، الذي ظهرت فجر معالمه من خلال المدرسة السورية القديمة للتاريخ التي سبقت الفتوحات الأجنبية الكبرى، الفارسية والإغريقية والرومانية، حيث كان مؤرخو سورية يُعتمدون ثقات ومعلمين للذين يريدون تدوين التاريخ أممهم. الأقريك والرومان اعتمدوا على مؤرخين كنعانيين (فينيقيين) قديما ليؤرخوا عن بلادهم. وقد شهد بهذه الحقيقة المؤرخ الإيطالي المشهور شيزر كنتو في مؤلفه *التاريخ العالمي*"(10) . إلا أنّه بعد الفتوحات الخارجية الكبرى التي تعرّضت لها الأمة السورية على يدّ الفارسيين والإغريق ، ولما كان لم يسلم من حريق قرطاجة بعد فتح سيبيو، كتب عن التاريخ السوري، أصبح التاريخ السوري وتأويل التاريخ ورواية التاريخ، وقفا على اتجاه المدرسة الإقريكية - الرومانية التي بخست السوريين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران"(11). وقد تعمّد مؤرخو تلك الدول تدوين التاريخ السوري بروح عدائية، رمت إلى تشنيع كل صفة للشعب السوري بعامل عداوتها نتيجة الصراع العنيف على السيادة البحرية، وقد بلغت تلك العدائية ذروتهاــ مستغلة انهيار الدولة السلوقية السورية ونظامها السياسي والإجتماعي والحربيّ الذي تطوّرت الحياة السورية نحوه منذ القدم وتجلى في قيام الدولة السورية السلوقية التي صارت أمبراطورية عظيمة بعد توحدات سياسية سابقة أقلّ متانة وأسرع عطبا، تعرّض مصير سورية لتقلبات كثيرة في أجيال عديدة كان الفاعل الأقوى فيها دائما إرادة الفاتح الجديدة وسياسته ــ فجزئت البلاد ثم وحدت، ثمّ جزئت حتى ضاعت حقيقتها، وخرجت دورة حياتها عن محورها، وتراكمت على مخلفاتها طبقات الأرض .."(12). وكان من أبرز تداعيات، ممّا تقدّم، تشويه الهوية السورية، وتفتيتها، عبر إطلاق تسميات سياسية جزئية على شخصيتها الواحدة، يقول سعاده: "بعد تلك الفتوحات سقطت جميع شعوب سورية ودولها وخضعت للأجنبي، وصارت الدول الأجنبية هي التي تسيطر، والمؤرخون الأجانب الذين استقوا منا قديما هم الذين أصبحوا يعرّفون سورية وحقيقتها على الأشكال التي تقرّرها تلك الدول الأجنبية وبالإسماء التي تقرّرها هي لها"(13). كان التأريخ السوري، هو الضحية الكبرى التي نتجت عن تلك الفتوحات وتداعياتها، إذ انتقلت عدوى تشويه هذا التاريخ من المدرسة التاريخية القديمة المعادية إلى المدارس التاريخية الأجنبية الغربية التي نسخت عمّا سبقها ومسخت تاريخنا من وجهات سياسية، لا علمية، لم تأخذ بالإعتبار لا حقيقة الأمة ولا شخصيتها، متجاهلة قيمها وعطاءاتها الحضارية: "إنّ تاريخ سورية بعد الفتوحات الأجنبية الكبرى،خصوصا فتوحات الفرس والإقريك والرومان، كان يُكتب دائما من أجانب. تعريف البلاد، تعريف حقيقتها، كان يُعين دائما من قبل مؤرخي المدرسة الإقريكية الرومانية للتاريخ الذين كتبوا بروح العداء لسورية والسوريين، وبعدم إنصاف للحضارة والثقافة السوريتين.. "التواريخ الأجنبية والمؤرخون الأجانب لم ينظروا إلى سورية من وجهة حقيقة الأمة وحقيقة الوطن، بل من وجهة النظر السياسية بلا تحقيق للوضع الطبيعي والإجتماعي. والمصدران اليوناني والروماني هما عدوان تاريخيان للأمة السورية ولاتجاهها التاريخي. ولذلك لا يمكن لهذين المصدرين الأوليين للتاريخ أن ينصفا السوريين في حقيقة نفسيتهم، في حقيقة وجودهم في العالم"(14) .
مجاراة التواربخ الأجنبية جارى معظم المؤرخين والباحثين والتشكيلات السياسية والطائفية من شعبنا، مراجع التواريخ الأجنبية المعادية في تدوين تاريخ سورية، جاهلين أنّ كتابة التاريخ علم وليس مجرّد نسخ الروايات ونقلها، يقول د رستم: "وحسبنا أن نذكر أنّ أكثر مؤرخينا اليوم يزعمونا أنّ كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنّك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النصّ فقد هيئت العدة لكتابة التاريخ. ولقد فات هؤلاء أنّ التاريخ هو علم أيضا يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى، من طبّ وهندسة وفقه وغيرها، وأنّه لا بدّ لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كلّ علم..."(15) فكاد من جراء ذلك، أي من نسخ الروايات التاريخية المعادية من دون دراية علميّة، أن تضيع هويتنا القومية، إلى أن انبثقت أنوار النهضة السورية القومية الإجتماعية(16). التي وضع على عاتقها سعاده مهمة نقض حكم هذا التاريخ المسيء، وتغيير وجه التاريخ في الوجهة الصحيحة، باتجاه الغاية العظمى ـــــ بداية التاريخ المستقل للأمة السورية، الذي سيعكس حكم التاريخ عليها، بأنّها أمّة لا تاريخ لها، بإعادة بناء تاريخ الأمة القومي الحقيقي الذي ستفاخر به بين الأمم الحرّة. فنحن "نسير مثبتين سيرنا في التاريخ الذي لا ينعدم، ونحن إذا أدركنا التاريخ لنبني التاريخ نبرهن على أنّنا أصبحنا أمّة فاعلة في التاريخ، لذلك يمكن أن نقول إنّنا أمّة منتصرة في التاريخ. قد انتصرنا انتصارات كثيرة غير منظورة، وانتصارات كثيرة منظورة، وسيكون لانتصارنا الأخير مشهد ينظر إليه العالم أجمع". شدّد سعاده في مقدمة "نشؤ الأمم" على ضرورة فهم الواقع الإجتماعي، والعلاقات الناتجة عنه، لأنّ في غياب هذا الفهم تتفشى فوضى العقائد وبلبلة الأفكار ويعمّ التصادم المدمّر بين أبناء المجتمع الواحد، وتتضعضع حقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها، وفي مقدمتها التاريخ الذي هو مجرى حياة الأمة، وخطورته في روحية الأمة أي في يقظة الوجدان القومي. من هنا لا بدّ لأفراد كلّ جماعة ترتقي، من مرتبة الشعور بشخصية الفرد، إلى مرتبة الوجدان القومي، الشعور بشخصية الجماعة، من فهم الواقع الإجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهي هذه العلاقات التي تعيّن مقدار حيوية الجماعة ومؤهلاتها للبقاء والإرتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التصادم في المجتمع، فيعرقل بعضه بعضا، ويضيع جزءا غير يسير من فاعلية وحدته الحيوية، ويضعف فيه التنبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج. وإنّ درسا من هذا النوع يوضح الواقع الإجتماعي الإنساني في أطواره وظروفه وطبيعته ضروري لكلّ مجتمع يريد أن يحيا. ففي الدرس تفهم صحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها. ولا تخلو أمّة من الدروس الإجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار(17). بناء عليه، سنعالج في الفقرة الآتية بعض ثوابت الفكر القومي الإجتماعي في معاني التاريخ وفلسفته: - في معنى التاريخ "التاريخ هو سجل مجرى حياة الأمة، وخطورته هي في القومية في روحية الأمة ووجدانها، لا في الأمة بعينها، فإنّ ذكريات ما قامت به الأمة، وما عانته تقوي الوجدان القومي. ووحدة الأمة هي التي تعيّن التاريخ القومي"(18). مع الملاحظة أنّ التاريخ الذي هو سجل مجرى حياة الأمة، هو في مراحله يشكّل وحدة دائمة متداخلة ومتفاعلة ومتزامنة ومستمرة ومكمّلة بعضها للبعض، وليست حداثة المرحلة التاريخية الحاضرة بثقافتها إلا تطوّرا لمعطيات حداثة المرحلة التي سبقتها، والأساس في المرحلة التي ستليها مستقبلا . - بداية التاريخ "منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوة ، تاريخ الحزب السوري القومي الإجتماعي، تاريخ الأمة السورية الحقيقي" في الشرح يوضح سعاده: "منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ، يعني: أنّنا بارتباطنا في وحدة العقيدة قد عكسنا قول التاريخ فينا، أنّنا جماعة لا تربطها رابطة، لا تكوّن شخصية، لا تكون مجتمعا موحد الحياة، بل جماعة أو جماعات من البشر متنافرة متباينة متعايشة، ليس لها إرادة، لا تعمل ما تريد بل ما يفرض عليها من المجتمعات الخارجية الفاهمة التي تستخدم مجموعنا وسيلة لبلوغ أغراضها وغاياتها هي"(19). - تغيير وجه التاريخ "أعود فأقول إنّ هذه القوة النظامية ستغير وجه التاريخ في الشرق الأدنى. وقد شاهد أجدادنا الفاتحين ومشوا على بقاياهم، أما نحن فسنضع حدّا للفتوحات"(20). - مذهب التاريخ المستقل هو بدء التاريخ. التاريخ المستقل هو أساس الإستقلال لكل الأمم. الواجب يدعونا إلى الإستقلال بتاريخنا، إذا أردنا أن نكون كيانا مستقلا ومحترما بين الأمم، وجب علينا نحن دون سوانا أن نقوم بتنفيذ هذه الإرادة وتحقيق هذا الكيان. ولا تتوهموا أنّ أمة ما تستند إلى تاريخ غير تاريخها وتنجح في اكتساب حقوق مستمدة من ذلك التاريخ. فلا يحق لأمة أن تطالب إلا بنتيجة عملها هي نفسها. لا تستطيع أمّة أن تفاخر إلا بتاريخها. هنيئاً للأمة التي لا تاريخ لها»، ولكن ما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى. هنيئا للأمة التي لها تاريخ، صنعته بنفسها وإرادتها، به تفاخر، وبه تحترم حقوقها بين الأمم الحرّة، بهذا المعنى نفهم قول سعاده: إذا لم تكونوا أنتم أحرارا من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم. نحن جماعة تصلح للقيام بإعباء تاريخها. نحن جديرون بالقيام بمسؤولياتنا بالاعتماد على انفسنا، لأنّنا على يقين تام، إنّ مشاطرة المسؤوليات تؤدي حتما إلى مشاطرة الحقوق، ومشاطرة الحقوق، تنفي الإستقلال، وتنفي الحريّة. - وعي الجماعة للعملية التاريخية إنّ وعي الجماعة للعملية التاريخية أّهّلها الدخول الواعي في التاريخ بغاية إعادة صنعه وهذا ما تحقّق مع سعاده عند تأسيسه الحزب السوري القومي الإجتماعي. وغدت الثقافة القومية الإجتماعية الجديدة قوّة توجّه العملية التاريخية باتجاه أغراض محددة، لقد انكبّ سعاده على توضيح أبعاد العملية التاريخية (حتمية التفاعل المتطوّر والمستمر بين الإنسان والأرض والعمل) كي لا يبقى، أيّ جزء، في العملية التاريخية غير واع لها، إذ أنّه بالقدر ما يتحقّق لدينا الوعي بوجودنا في العملية التاريخية، بمقدار ما نصبح جزءا فاعلا بإرادتنا ووعينا فيها. من خلال وصف سعاده للعملية التاريخية وتحليلها نجد وحدة بين العوامل الإنسانية والشروط المادية، لأن كلّ ما يتجلى تاريخيا، يستدعي هذين العاملين... فالجماعة تدخل العملية التاريخية وهي، أحيانا، غير واعية لها وللدور الذي تلعبه في سياق استمرارها. بعد نشؤ الحزب السوري القومي الإجتماعي أضحت هذه الحقيقة حقيقة بالفعل، بعد أن كانت كامنة نائمة، لقد أصبحت حقيقة فاعلة متحركة، حقيقة تظهر وجودها، حقيقة تعبّر عن وجودها بإرادتها، اي صار الإنسان واعياً لحقيقته الموضوعية، تلك الحقيقة التي غّربتها عنه عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية . فالإنسان ولو أنّه كان بالقوة داخل العملية التاريخية، إلا أنّه الآن أصبح يعمل داخلها بوعي لأغراض قومية واجتماعية معينة. فوجوده في التاريخ لم يعد وجودا عشوائيا، بل صار حضورا واعيا وهادفا، بفعل النهضة القومية الإجتماعية، وهكذا تأنست العملية التاريخية. "هناك حقيقة سورية بذاتها، بوجودها، بوضعها، بجوهرها في طبيعتها، وقد كانت هذه الحقيقة قبل نشؤ الحزب السوري القومي الإجتماعي، قبل النهضة القومية الإجتماعية، حقيقة كامنة، نائمة، حقيقة ــــــ هي مجرّد حقيقة بالقوة الكامنة". من جهة أخرى يرى سعاده أنّ العملية التاريخية (التي تجلّت في قيام الدولة القومية والإنتاج القومي) لن تتوقف عن التطوّر، غير أنّ هذا التطوّر وما يرافقه من احتمالات فأمر سيقرره المستقبل، ومن يدري هل يصبح العالم أمة واحدة؟ - الحقائق التاريخية دائمة التحوّل والتطوّر لم يكتف سعاده بالنظرة العلمية وحدها، بل تبنى النتائج التي توصلت إليها النظرية التطورية (خلاصة الفصل الأول من نشؤ الأمم) . إنّ تأكيد سعاده على أهمية المعطيات العلمية يتلازم، بالتالي مع تصوره المعرفي للحقيقة التي يفترض لقيامها شرطين أساسيين الوجود والمعرفة. طبعا هذا التصور المعرفي للحقيقة لا يلغي وجود أشياء لم تدرك بعد، غير أنّ وجودها المجهول لا يكتسب صفّة الحقيقة والقيمة ما لم تتوفر المعرفة لها. حول هذا الموضوع نتوقف عند رسالة سعاده إلى شارل مالك، وعنوانها: "كتاب نقد وتوجيه". "... كان موقف سعاده، في البحث، قوله بضرورة المعرفة للحقيقة، وعدم كفاية الوجود غير العاقل في ذاته لتكوين قيمة الحقيقة، لأنّ الحقيقة قيمة فكرية تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط. وكان موقف د ملك ود. الأميركاني أنّ الحقيقة تقوم بلا معرفة كالإفتراض أنّ جبلا في القمر قد إندكّ ببركان أو زلزال أو ما شاكل، فلا حاجة لرؤية ذلك ومعرفته ليكون قد حصل. وقد وجه شارل مالك إلى الزعيم السؤال الآتي: إذا افترضنا أنّ زلزالا حصل في القمر، ودكّ جبلا، فهل يكون الجبل إندك أو لا يكون؟ أجاب الزعيم: إنّ افتراض المجهول لا يكون حقيقة.فلا أستطيع أن أقول جبلا في مكان ما اندك أو لم يندك، وإنّ زلزالا حدث، إلا بالمعرفة الصحيحة فقط. موقف سعاده هو موقف الفيلسوف المعتمد العقل والمعرفة، بينما موقف مناظريه كان موقف المعتمد الحدس والتخمين الذي يجعل افتراض المجهول قاعدة الحكم "(21). إنّ الحقائق لدى سعاده هي تلك التي أقيم الدليل العلمي والعقلي على وجودها. وبما أنّ هذه الحقائق هي تاريخية فهي بالضرورة دائمة التحوّل والتطوّر بدون حدود، ومن هنا سؤاله العلمي ــــ الفلسفي: "المجتمع الإنساني ليس الإنسانية مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانية أن تصير مجتمعا واحدا، في مستقبل العصور؟" (راجع "نشؤ الأمم"، الفصل السادس: نشؤ الدولة وتطوّرها). الـــخـــاتـــمـــة هل تضمّنت نظرة سعاده الفلسفية الشاملة للحياة والكون والفن، بحثا نظريا مستقلا، لـ فلسفته التاريخية؟ سعاده لم يضع بحثاً نظرياً مستقلاً متكاملاً للفلسفة التاريخية هذا ما أكّده د. أدمير كوريه في مقدمة دراسته التي نشرها في جريدة "الديار"، تحت عنوان "فلسفة التاريخ عند أنطون سعاده التاريخ فاعلية إنسانية تعمل ضمن شروط موضوعية"(22). ولعلّ هذه الدراسة من بين أبرز الدراسات التي تناولت هذا الموضوع وهي دراسة نقدية، غنية بمجموعة من المفاهيم التي تعالج فلسفة التاريخ عند سعاده. يقول كوريه: "لم يضع سعاده بحثا نظريا يشرح فيه فلسفته للتاريخ والقواعد المنهجية الخاصة به، والأسس النظرية التي تقوم عليها، والأغراض التي ترمي إلى تحقيقها، كما فعل "هيغل" مثلا في كتابه "فلسفة التاريخ"، إلا أنّ الكاتب يستدرك بأنّ دراسات سعاده للظاهرات التاريخية تصدر عن رؤية فلسفية، و تعكس تصورا فلسفيا للعملية التاريخية . يعالج كوريه في دراسته المشار إليها آنفا الخطوط العامة في فلسفة سعاده للتاريخ، من خلال العناوين والمفاهيم الآتية: بداية، يحدّد الكاتب "فلسفة التاريخ" على أنّها: "نظرة منتظمة للتاريخ الإنساني، تكون التجليات التاريخية في تعاقبها وتطورها واستمرارها خاضعة لمبدأ أو مبادئ تدفع هذه التجليات باتجاه تحقيق غاية محدّدة". - سعاده لم يضع بحثا نظريا مستقلا متكاملا للفلسفة التاريخية: يؤكد الكاتب في مقدمة دراسته بأنّ سعاده: "لم يضع سعاده بحثا نظريا يشرح فيه فلسفته للتاريخ والقواعد المنهجية الخاصة به، والأسس النظرية التي تقوم عليها، والأغراض التي ترمي إلى تحقيقها، كما فعل "هيغل" مثلا في كتابه "فلسفة التاريخ ". - الرؤية الفلسفية للعملية التاريخية: إلا أنّ الكاتب يستدرك بأنّ دراسات سعاده للظاهرات التاريخية تصدر عن رؤية فلسفية، و تعكس تصورا فلسقيا للعملية التاريخية: "غير أنّنا نجد في كتابات سعاده، لاسيما في "نشؤ الأمم" اهتماما كبيرا بدرس ظاهرات تاريخية، كنشؤ الأمم، والأشكال الثقافية، وأشكال الدولة التاريخية، وذلك في محاولة لتحديد القواعد العامة التي تخضع لها هذه الظاهرات، وتحديد صيرورتها التاريخية. لذلك ليس بالإمكان أن نتصوّر سعاده الذي درس الأشكال التاريخية من حيث نشوئها وتطورها وأغراضها لا يصدر عن رؤية فلسفية، أو أنّ دراساته لهذه الظاهرات لا تعكس تصورا فلسفيا للعملية التاريخية": ويوضح أنّ "الرؤية الفلسفية للتاريخ، أو التصوّر الفلسفي للتاريخ ليس بالأمر الحديث، وإن كانت فلسفة التاريخ قد صارت علما قائما بذاته، في العصر الحديث. إذ كان للشعوب القديمة تصورا لطبيعة التاريخ، إلا أنّه كان دائماً يصطبغ بمفاهيمها الأسطورية والدينية. فالمسيحية، مثلا تصبح القاعدة الفلسفية في تفسير التاريخ الإنساني، وفق ما جاء في كتاب "مدينة الله" لمؤلفه القديس "أوغسطين" قرن4 م.، الذي يعتبر أنّ التاريخ يبدأ بخلق الله للإنسان، وتصبح التجليات التاريخية المتعاقبة تعبيرا عن إرادة الله، في افتداء الإنسان عبر انتصار الكنيسة على عوامل الشرّ. ويتوّج هذا الإنتصار بعودة المسيح للإتحاد بالمؤمنين ايذانا بنهاية التاريخ للدخول في الأزل. ويعتبر فولتير في ق18 م. أول من حاول أن يدرس الظاهرات الإنسانية كظاهرات محض تاريخية، محيلا كلّ شيء إلى التاريخ، وبذلك كان أول من حرّر فلسفة التاريخ من التآويلات الدينية. - التجليات التاريخية أو العملية التاريخيةعند سعاده: خلافاً لمفهوم القواعد الفلسفية الأسطورية والدينية في تفسير التاريخ الإنساني وبداياته وتجلياته ونهايته، سعاده أولى اهتماماً كبيراً لدراسة القضايا الكبرى التي شغلت فلاسفة التاريخ، فتناول العملية التاريخية والشروط اللازمة لقيامها وتطورها واستمرارها في محاولة ــــ لتحديد هويتها أي معرفة فيما إذا كانت محض مادية، او روحية، أو مثالية، ـــــ كما عنى بدراسة العلاقة بين الإنسان والواقع، متعرضا لمبدأ الحتمية. بحث سعاده في القوانين التي تخضع لها الظاهرات لمعرفة إذا كان الواقع التاريخي يخضع لمبدأ التكرار أو العود الأبدي. كما أراد سعاده أن يحدّد إذا كان للإنسان طبيعة أو جوهر، أم إنّ هذه الطبيعة يكتسبها من التاريخ. إنّ إحدى المشكلات الأساسية في فلسفة التاريخ كانت البدايات ومصدرها وطبيعتها، وفي تحديد طبيعة البدايات ومصدر انبثاقها نستطيع أن نقف على طبيعة المنهج والنظرة الفلسفية المتبعة في التآويل. مثلا: في عودة القديس أوغسطين الى قصة الخلق التوراتية تحديد ديني للبدء، وفي هذا التحديد تخرج الظاهرة الإنسانية من الإطار التاريخي لأنّ جوهرها سابق للتاريخ. وهذا الجوهر سابق لوجود الإنسان التاريخي ومقرّر لطبيعة تطوره واستمراره وغائيته، أي إنّ هذا الجوهر الذي تصوره الله للإنسان سيبقى فاعلاً عند استمرار الإنسان تاريخياً. وعندها لا تكون صيرورة الإنسان من ضمن معطيات التاريخ لحتمية الجوهر الأزلي الذي له أسبقية على وجود الإنسان التاريخي. ــ بداية التاريخ عند سعاده البداية التي يرتئيها سعاده للتاريخ البشري هي تلك التي أكّد عليها العلم "لان التعليل العلمي يأتي بدلائل تعطي برهانا معقولا لوجودنا وكيفية حدوثه". البداية عند سعاده هي تلك التي خلّفت آثاراً حسيّة كان تطورها التاريخي يسمح لتطور العلوم والمعارف الإنسانية أن تقوم بتحديدها وتعريفها وإقامة الدليل والبرهان على وجودها. إذا كان الوجود في التعليل الديني يلي الجوهر. الجوهر ثم الوجود. لدى سعاده الوجود سابق للجوهر. الوجود ثم الجوهر . لم يكتف سعاده بالنظرة العلمية وحدها، بل تبنى النتائج التي توصلت إليها النظرية التطورية (خلاصة الفصل الأول من نشؤ الأمم). إنّ تأكيد سعاده على أهمية المعطيات العلمية يتلازم، بالتالي مع تصوره المعرفي للحقيقة التي يفترض لقيامها شرطين أساسيين الوجود والمعرفة. طبعا هذا التصور المعرفي للحقيقة لا يلغي وجود أشياء لم تدرك بعد، غير أنّ وجودها المجهول لا يكتسب صفّة الحقيقة والقيمة ما لم تتوفر المعرفة لها. إنّ الحقائق لدى سعاده هي تلك التي أقيم الدليل العلمي والعقلي على وجودها. وبما أنّ هذه الحقائق هي تاريخية فهي بالضرورة دائمة التحوّل والتطوّر. • رفض أحادية التعليل. • العملية التاريخية عند سعاده سعاده ينطلق من الوجود الإنساني كوجود تاريخي، من هنا: ــ سعاده يرفض أحادية التعليل الديني وحتميته.. أنظر الشرح في الفقرة السابقة ــ سعاده يرفض أحادية التفسير الجغرافي للتاريخ.. في الشرح: مونتسكيو اعتبر أنّ الجغرافيا هي القوة التي تشكّل وتحدّد طبيعة الإنسان ومؤسساته وتقاليده. سعاده جرّد الجغرافيا من حتميتها، رغم أهمية الدور الذي تلعبه في العملية التاريخية.. "التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض مع إنّ الأرض هي إحدى الإفتراضات التي لا بدّ منها لنشؤ التاريخ" (راجع الفصل الثالث من "نشؤ الأمم": الأرض وجغرافيتها). الأرض شرط أساسي في نشؤ التاريخ، إلا أنّها "تقدم الممكنات لا الإضطراريات أو الحتميات". مبدأ الحتميات. خلاصة: إنّ الموقف الذي اتخذه سعاده من مبدأ الحتميات يشير، بكلّ وضوح، إلى أنّه لم يكن يرى العملية التاريخية بالبساطة التي يمكن استنفاذها في أحادية المادة، أو الروح، أو الجغرافيا، أو الفكر. في الشرح: من طبيعة التصوّر الأحادي للتاريخ أن يعطي إحدى الشروط الأسبقية التاريخية أو القدرة على الفعل في القوى الأخرى. تفسير: إذا اعتبرنا أنّ الروح لها أسبقية على المادة، فالأخيرة دائما تنفعل بالأولى أو تستجيب لها، دون أن تملك القدرة على الفعل بها. مثل هذا التعليل يلغي ((مبدأ التفاعل)) الذي يقول به سعاده. ان العملية التاريخية عند سعاده تقوم على وحدة التفاعل الدائم بين الأرض والإنسان، عبر العمل ووسائل الإنتاج. وتكون تجليات هذه العملية متجسدة فيما ينتجه الإنسان من حضارة مادية ونفسية. - مبدأ التفاعلية: هو عند سعاده على شكل "نسق بنيوي"، يتصف بالثبات والإستمرارية. أي أنّ العلاقة القائمة بين العناصر ثابتة ولا تتغير، وتستمر رغم التطوّر الذي يطرأ على العناصر بحكم استمرار تفاعلها التاريخي؛ فالعناصر تتميز بالتطورية، غير أنّ تطورها الذي هو من ضمن "العلاقة" لا يغير في بنية العلاقة. ومهما تطورت هذه العناع890صر، تاريخياً ستبقى العلاقة القائمة بينها ثابتة ومستمرة. كما أنّ تفاعلية العناصر التي تتمّ في إطار النسق البنيوي لا تدع مجالاً لأحد العناصر أن يحتم كلّ شيء، لأنّ العناصر جميعها مشروطة بتواجدها ضمن هذا النسق. فإذا كان هناك من تحتيم، فلا بدّ أن تشترك العناصر جميعا في هذا تحقيقه. لأنّها لا تستطيع أن تعمل مستقلة عن بعضها بحكم العلاقة القائمة بينها. - حتمية التفاعل: رأى سعاده أنّ أصول العملية التاريخية تكمن في حتمية التفاعل الثابت والمستمر بين الإنسان والأرض والعمل. وهذه الرؤية تلغي اختزالية التفسير الأحادي الذي يحيل التاريخ كلّه إلى الروح، أو الفكر، أو المادة. ويضعنا أمام مفهوم جديد للوجود يرى وحدة تفاعلية تطورية بين جميع عناصره، تتجلى، تــاريــخــيــاً، على شكل "كــــل" أشبه بالخلية الحيّة التي يصفها سعاده بــ"الحياة" التي لا يمكن الفصل عمليا بينها وبين مقوماتها. وقد أطلق سعاده على هذا "الكل" مصطلح "الـــمـــدرحـــيـــة"، الذي لا يعني اختزال الوجود بالمادة والروح، بل الإشارة إلى وحدة العوامل المادية والنفسية التي تنطوي عليها العملية التاريخية. التفسير: إنّ العملية التاريخية تشترط تلازم العوامل المادية والنفسية، وهذا يعني إنّ أي تطور تاريخي في البنى الإجتماعية والثقافية والنفسية لا بدّ أن يتلازم والتطور في البنى المادية، لذلك يؤكد سعاده أنّ "التطور الإجتماعي هو دائما على نسبة التطوّر الإقتصادي"، أي، كلّ ما يندرج، في الشروط المادية للمجتمع. - العالم واقع بيئات جغرافية التاريخ، بشكلّ عام، هو تعبير عن العلاقة التفاعلية بين الأرض والإنسان. إلا أنّ الأرض، في الواقع، ليست بيئة جغرافية واحدة، لهذا ليست البشرية متحداً اجتماعياً واحداً، وبالتالي ليس هناك تاريخ إنساني واحد. ضمن هذه البيئات تتمّ عملية التفاعل وتستمر. وبموجبها تتحدد خصائص الجماعات، لولا الحدود الجغرافية "لما استطعنا تفسير ظواهر المدنيات المختلفة"، سعاده. فاذا كانت الأرض بالضرورة هي واقع بيئات جغرافية، فالتفاعل بين الأرض والإنسان مشروط بمعطيات البيئة "يكيف الإنسان الأرض، ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليمية... " فالشروط الموضوعية للبيئة تحدّد أيضا أنواع وأشكال المواد التي يستخدمها الإنسان في عملية الإنتاج، فالشروط البيئية (مناخية، طبغرافية، إقتصادية..) تلعب دوراً هاما في تمييز تاريخ الجماعات، لأن الموارد الطبيعية تحدّد الواقع الإقتصادي وتفرض أنماطا إنتاجية معينة على الجماعة؛ فتاريخ علاقة الجماعة بالأرض المستمد من الارض المغروسة هو غير التاريخ المستمد من الصحراء القاحلة والارض الحديبة. إنّ التاريخ كتعبير عن الأنشطة البشرية لا يمكن فصله عن طبيعة موارد البيئة وأنواعها والأساليب المستخدمة في استغلالها وتصنيعها - تلك الأساليب الإنتاجية والمواد المعتمدة في الإنتاج تحدّد التاريخ الإقتصادي والإجتماعي للجماعة. إذا كانت العلاقة التفاعلية بين الأرض والإنسان شرطا في قيام التاريخ، والشروط البيئية سببا في اكتساب التاريخ صفّة مجتمعية، فالتطورية والإستمرارية هما صفتان متلازمتان له تاريخياً. فالتطور واستمراره يتلازمان واستمرار التفاعل وتطوره الذي يستدعيه استمرار وتطوّر حاجات الإنسان في كلّ مرحلة تاريخية. المراحل التاريخية: تتسم دائما بظهور ثقافات اجتماعية متلازمة والشروط الإقتصادية للبيئة. وهذه المراحل، حسب سعاده، هي دائما متداخلة، ومتفاعلة ومتزامنة إلى حدّ كبير .وهذا ما توصلت إليه الدراسات العلمية المقارنة (الأنثربولوجية). النتيجة إنّ حداثة المرحلة الحاضرة ليست الا تطورا لعمليات الحداثة الخاصة بالمرحلة التي سبقتها مباشرة . الحقبة الزراعية: يرى سعاده أنّ "التجليات التاريخية"، خصوصا الإنتاجية منها (زراعة، صناعة وتجارة) لا تخضع لموارد البيئة وأنواعها، فحسب، بل إنّ تطورها يخضع لانتقالها من دوائر ضيقة تعتمد على الفرد أو العائلة أو العشيرة، باتجاه أنماط انتاجية تعاونية ذات طابع مجتمعي. وفي تحليله لهذه الأنماط وتطورها، يجد سعاده أنّ الرابطة الإقتصادية هي الرابطة الإجتماعية الأولى في حياة الإنسان أو الأساس المادي الذي يقيم الإنسان عليه عمرانه.. غير أنّ تطور الإنتاج واكتسابه طابعا قوميا جاء مع الثقافة التجارية... التي أدت إلى نشؤ الإقتصاد القومي... الإنتاجية والدولة: درس سعاده تطور الأنماط الإنتاجية كظاهرات تاريخية تنطوي على فعاليات بشرية تعمل من ضمن الشروط الموضوعية التي نتجت عن التفاعل المتطور بين الجماعة والبيئة. ومقياس هذا التطور "هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش، والعمل المبذول في هذا السبيل ". كشف سعاده أنّ العملية التاريخية بينت أنّ الأنماط لا تتسم بالتطور فحسب، بل تتميز في أنّها أثناء تطورها تتجاوز الإطارات الإنتاجية الصغيرة، المتمثلة بالفرد والعائلة والعشيرة، باتجاه الإنتاج القومي الذي يتحدّد ضمن إطار البيئة الطبيعية . الدولة هي شأن تاريخي لأنها لا توجد إلا في المجتمع ولا تتطور إلا ضمن شروط تطوره . راجع شروحات إضافية عن تطور الدولة ( الفصل السادس ، من "نشؤ الأمم"). إقــتــراح: تشكيل لجنة متخصصة لتدوين تاريخ الحزب في الفترة الواقعة بين عامي (1932-1949) . بناء على هذه الدراسة المبدئية لــ: فلسفة التاريخ عند سعاده. أقترح: أولا: مناقشتها، وإبداء الملاحظات حول منهجيتها ومضمونها. ثانياً: تشكيل لجنة متخصصة لتدوين تاريخ الحزب، في الفترة الواقعة بين عامي 1932- 1949، وفق المعايير التي وضعها سعاده، وعالجنا بعضها في دراستنا. "...إنّ تاريخ الحزب، ضمن العوامل التي جابهها، لم يكن له أثر بالغ في التوجيه. وهذه الحقيقة تدلّ على أنّه لم تكن هنالك عناية بتدريس تاريخ الحزب، تاريخ نشأته وسيره الأول، وكيف تغلّب على الصعوبات، وما هي القضايا الأولى التي جابهها وكيف عالجها، وكيف أنشأ قضية عظيمة، وجعلها تنتشر وتمتدّ، وتسيطر على الرغم من كلّ الصعوبات والعراقيل التي اعترضتها" من المحاضرة الأولى . هوامش (1) اسد رستم : من مواليد الشوير عام 1897،توفي عام 1965، مؤرخ ، ومن علماء الوثائق ، ومن أوائل من كتب في منهجية البحث التاريخي في العصر الحديث، وأول من حصل على لقب دكتور في العالم العربي من جامعة شيكاغو. درّس في الجامعة الأميركية مدّة عشرين عاما، ثمّ عمل مستشارا في قيادة الجيش اللبناني . وضع حوالي عشرين كتابا، ومن أبرزها "مصطلح التاريخ" الذي اعتمدنا عليه في هذه الدراسة . (2) أسد رستم : مصطلح التاريخ، راجع مقدمة الكتاب، ص "ح" . (3) علم المناهج: Methodology ، المنهجية أي البحث بشكل صحيح . (4) القاضي عيّاض : (1083-1149) قاض مالكي ، العلامة والفقيه والمؤرخ. دخل التاريخ من باب الفقه والحديث، من أشهر مؤلفاته "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، ويعتبر الكتاب أكبر موسوعة ترجمة لرجال المذهب المالكي . (5) أسد رستم: مصطلح التاريخ، راجع، الباب الثالث، الفصل الثالث .ص33-41 . (6) أسد رستم : المرجع السابق، المقدمة، (7) أسد رستم : م . ن. (8) د.كوريه : (9) سعاده : الخطاب المنهاجي الأول، المحاضرة الثانية (10) سعاده : المحاضرة الثالثة والرابعة. (11) سعاده : المحاضرة السادسة . (12) سعاده : مقدمة التعاليم القومية الإجتماعية، الطبعة الرابعة ، آذار1947 . (13) سعاده : المحاضرة الرابعة . (14) سعاده : المحاضرة الرابعة . (15) أسد رستم : مصطلح التاريخ، المقدمة . (16) سعاده : المحاضرة الثانية . (17) سعاده: راجع مقدمة "نشؤ الأمم" . (18) سعاده : نشؤ الأمم، الفصل السابع . (19) سعاده: المحاضرة الثانية . (20) سعاده : المحاضرة الثانية . (21) سعاده : رسالة سعاده إلى شارل مالك (22) د.أدمير كوريه "فلسفة التاريخ عند أنطون سعاده"، عنوانها "التاريخ فاعلية إنسانية تعمل ضمن شروط موضوعية" جريدة الديار، الثلاثاء 17-12-1991، ص28. ** ** 48 فيكو:"يعتبر فيكو Vico (1668-1744) مؤسس فلسفة التاريخ قبل تأسيسها في فرنسا على يد مونتسكيو (1689-1759م)، روسو (1712-1778م)، فولتير (1694-1778م)، تورجو (1727–1781م)، كوندرسيه (1743–1794م) أو حتى في ألمانيا على يد لسنج (1729–1781م)، هردر (1744–1803م)، كانط (1724–1804م)، ولكن كتاب فيكو «العلم الجديد» لم يُعرف خارج إيطاليا إلا في القرن التاسع عشر بعد أن ظهرت له ترجمة ألمانية في 1822م وأخرى فرنسية قام بها ميشليه في 1827م؛ لذلك لم يؤثر في تطور فلسفة التاريخ إلا بعد قرن من الزمان. وقد ظهرت الطبعة الأولى من «العلم الجديد» في 1725م وفيكو عمره سبعة وخمسون عامًا، والثانية في 1730م، والثالثة في 1744م. وكان فيكو أستاذ القانون والفلسفة وأستاذ البلاغة اللاتينية في جامعة نابلي بإيطاليا. وهو كتاب ضخم مملوء بالتكرار والحواشي والأخطاء التاريخية، مرقمة فقراته مثل «خاطرات بسكال» وعلى طريقة الفلاسفة في القرنين السابع عشر والثامن عثر، وكثير منها لا يفيد مما جعل المترجم يلخِّصها مستبعدًا التكرار والحواشي الزائدة التي لا دلالة لها بالنسبة للموضوع. وتصعب قراءة الكتاب في النص الإيطالي من الإيطاليين أنفسهم. كما أن الترجمة إلى أية لغة صعبة وثقيلة نظرًا لما في الكتاب من تكرار وإشارات دائمة إلى الآداب القديمة. لم يستعمل فيكو أية حواشيَ أو مراجع في الهوامش بل ذكر كل شيء في صلب الصفحة وداخل النص مستعملًا مراجعه على نحو جدلي لا يتقنه إلا من عاش في عصره وبغير ذي فائدة الآن. بل إنه يعد الآن عائقًا في فهم الكتاب وفكرته الأساسية في تطوُّر الشعوب.( موسوعة ويكيديا)
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |