شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2023-07-05 |
ســـعـــاده وفـــلـــســـفـــة الـــتـــاريـــخ (الجزء الثالث) إعداد الأمين جهاد العقل |
المحاضرة التي ألقاها سعاده في الحفلة الإفتتاحية للنادي الفلسطيني في بيروت عام 1933. ونشرت في جريدة "النهضة" في العددين 64 و65، تاريخ 30/12/1937 و31/12/1937. راجع: الاعمال الكاملة، م1، ص398. " .... إنّ الأمم ليست أمماً بالنسبة إلى تخيلاتها وأحلامها، بل بالنسبة إلى حقيقتها وإلى ما تحقق. فكل كلام لا يشتمل على الحقيقة بعينها، إنما هو هذر غير مجدٍ، ولعل نصيبنا نحن السوريين من الهذر أوفر نصيب، فقد تخيلنا كثيراً وتوهمنا كثيراً وتغنينا بأمجاد التخيلات وأكثرنا من الإشادة بعظمة الأوهام. والعالم يسمع عجيجنا المقلق، ولكنه لا يرى طحننا الموهوم. أفما آن لنا أن نفهم أنّ الأمم تبتدىء تاريخها بأعمالها، وأنه لا تستطيع أمة أن تفاخر إلا بتاريخها هي نفسها؟ وبعد فماذا فعلنا من أجل تاريخنا العام؟ من أجل تاريخي وتاريخكم؟ ماذا فعلنا؟ إذا لم نقم بشأن تاريخنا فلا شأن لنا في التاريخ. والأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بين الأمم. إني أخاطبكم بهذه اللهجة ويقيني أني أخاطب رجالاً يرفضون الاعتقاد بغير مذهب التاريخ المستقل، فالتاريخ المستقل هو أساس الاستقلال لكل الأمم. وإذا كنا نطمح إلى الاستقلال في تدبير حياتنا كما نريد فالواجب يدعونا إلى الاستقلال بتاريخنا، وإذا كنا نريد أن يكون لنا كيان محترم بين الأمم وجب علينا نحن دون سوانا أن نقوم بتنفيذ هذه الإرادة وتحقيق هذا الكيان. وهذا هو بدء التاريخ. إنّ الذين درسوا تاريخ الدولة الرومانية، وآخرين غيرهم، يذكرون العبارة الشهيرة «هنيئاً للأمة التي لا تاريخ لها»، ولكن ما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى. ولا تتوهموا أنّ أمة ما تستند إلى تاريخ غير تاريخها وتنجح في اكتساب حقوق مستمدة من ذلك التاريخ. فلا يحق لأمة أن تطالب إلا بنتيجة عملها هي نفسها. من مرويات الطيب الذكر قاسم أمين حكاية نجد فيها مثلاً ينطبق كل الانطباق على القول الآنف. والحكاية أنّ قاسم أمين كان يتنزه وبعض أصدقائه فمروا ببستان أو حقل يشتغل فيه عاملان، وإذا بحية تخرج من حائط قريب وتنساب قرب العاملين. فلما رآها أحدهما طرح معوله من يده وفرّ هارباً، أما الثاني فأقبل عليها وما انفك يضربها بمعوله حتى أجهز عليها. حينئذٍ عاد العامل الأول الذي كان قد وقف بعيداً ينتظر نتيجة المعركة، واقترب من الحية ببطء وحذر حتى إذا تأكد له موتها تناول خشبة كانت ملقاة على الأرض ورفع الحية عليها وطفق ينادي «هاي! هاي! قتلناها! قتلناها!» ويمكنكم، أيها السادة، أن تتصوروا استهزاء المشاهدين بهذا العامل الذي ادّعى لنفسه نصيباً في تاريخ رفيقه وحول أيهام الناس أنّ له حقاً في مشاطرة العامل الآخر الفخر بقتل الأفعى. وبقدر ما في موقف هذا العامل من دواعي الهزء والسخرية يوجد في موقف العامل الثاني من دواعي احترام النفس التي تولد احترام الآخرين. إنّ العامل الثاني لم ينتظر مساعدة رفيقه ولم يقل «ماذا أفعل منفرداً؟»، بل تناول معوله وأقدم بعزيمة صادقة وثقة بالنفس تامة وكان الفوز نصيبه. ونحن الآن في حالة أشد خطورة من حالة ذلك العامل الشجاع تجاه الأفعى. إننا واقفون أمام الأفعى ذات المئة رأس. فأي المثلين نتخذ، أمثل العامل العديم الثقة بالنفس الهارب من وجه الأخطار والصعاب، أم مثل العامل الشجاع الشديد الثقة بنفسه الذي لا يتردد في استخدام مواهبه في ما يعرض له من شؤون الحياة وصعابها غير معوِّل في كل ذلك إلا على نفسه أولاً. أقول إننا الآن أمام الأفعى ذات المئة رأس، لأن الأخطار التي تهدد كياننا وعمراننا من الشمال والجنوب والغرب والشرق كثيرة وعظيمة ويترتب علينا الآن وفي هذه الساعة، أن نقرر الموقف الذي نريد أن نتخذه، واختيارنا لن يكون إلا بين موقفين فقط: إما موقف من لا يريد أن يتحمل مسؤولية تقرير مصيره فهو يجبن أمام كل حادث وأمر، وإما موقف من يريد الاحتفاظ بحق تقرير مصيره لنفسه فهو يصمد لكل حالة ويقوم بأعباء مسؤولياته غير راغب في مشاركة غيره إياه هذه المسؤوليات، لأنه يعلم أنّ مشاطرة المسؤوليات تؤدي حتماً إلى مشاطرة الحقوق ومشاطرة الحقوق تنفي الاستقلال وتنفي الحرية. كثيرون غيري يقولون لي ولكم «أنظروا! إنّ الأفعي الهائلة قد مدّت رؤوسها العديدة إلى كرومنا وحقولنا، فلنستغث أو فلنهددها بمجيء جيوش عديدة من بعيد تسحق رؤوسها، أو فلنهرب من وجهها لأن «العين لا تقاوم المخرز». ما أحقر هذه الروح التي لا ثقة لها بنفسها، وما أحقر هذه الأقوال التي لا تجدر بقوم يطمحون إلى مثل الحياة العليا. ما أحقر هذه الجماعة التي لا ترى فرصة إلا انتهزتها لتثبت لي ولكم أننا جميعاً لا نصلح للقيام بأعباء تاريخنا. ليست صفوف هذه الجماعة هي الصفوف التي يفتخر المرء بالانضمام إليها، وإذا استسلمت الأمة إلى أقوال هؤلاء الجماعة فجدير بها أن يأتي غيرها للدفاع عن وطنها ويحصل على حقوق التصرف به وتقرير مصيره، وأن تقنع هي بموقف العامل الذي وقف وسط هزؤ العالم وسخريته منادياً «هاي! هاي! قتلناها! قتلناها!» هذه هي الأخلاق العالية والهمم الشماء التي يريد فريق من هذه الأمة أن نتحلى بها. لو شئت تحليل هذه الروح السقيمة لما وجدت صعوبة كبيرة في تتبع آثار الروح اليهودية القديمة فيها. فهذه النغمة التي يرددونها على مسامعنا كل صباح ومساء هي ذات النغمة التي كان يرددها أنبياء اليهود عند كل خطر وفي كل نكبة. وهذه نبوءات عاموس وأرميا وإليشع وحزقيال وغيرهم الذين كانوا يهددون أعداء اليهود بمجيء قوات «من الشمال» تسحق صور وصيدا ودمشق. خصوصاً عاموس الذي أظهر حقداً عظيماً على دمشق لأنها غزت دولة بني إسرائيل واكتسحت جميع أرضها واستردت منها أكثر المقاطعات غير اليهودية التي كان اليهود قد بسطوا سلطتهم عليها. وفي أكثر نكباتهم كان الإسرائيليون يهددون أعداءهم بيهوه الذي سيمد ذراعه فوقهم ويسلط عليهم أمم الشمال أو أمم الجنوب. لا أتمنى لنفسي ولا أتمنى لكم هذه الروح. لا أتمنى لنفسي ولا أتمنى لكم هذا العجز الباهر. أنا وأنتم ملاكون، أكثرنا، إذا لم يكن كلنا، أصحاب أراضٍ أو بيوت. وإنّ هذه الأراضي التي نملكها هي وطننا الخاص وليس لأحد غيرنا حقوق فيها. ونحن الآن أمام تجربة صعبة يترتب علينا أن نبرهن فيها عمّا إذا كنا نستطيع الاحتفاظ بحقوقنا في وطننا والمحافظة على وطننا، وهذا يعني أنه مطلوب منا نحن لا من غيرنا أن نجيب على سؤال حقوقي من الخطورة بمكان، وهو: هل هذا الوطن هو وطننا نحن حقيقة، وهل حقوقنا فيه حقيقة ثابتة مستقلة تخولنا استغلاله لخير مجموعنا فقط إذا شئنا ذلك؟ فإذا كنا نريد أن يكون جوابنا بالإيجاب وجب علينا أن نثبت بالواقع أنّ ما نملكه هو تحت مطلق تصرفنا العام المستقل عن كل إرادة خارجية، وهذا يحتم علينا العمل بموجب مبدأ اجتماعي أساسي، هو المبدأ القومي الذي يقضي بأن تكون الأمة مطلقة التصرف بأرواحها وأرضها التي تملكها ضمن حدود جغرافية معينة. إنّ معنى الأمة والاستقلال القومي هو أن نكون أنا وأنتم مالكين أرضاً نعدّها وحدة عامة نقرر كيفية تصرفنا بها واستغلالها بملء حريتنا بموجب الوحدة القومية التي سببها اتحادنا جميعاً في حياة واحدة على أساس وحدة وطنية جغرافية. هذا هو معنى الأمة في أساسه، ومن هذا المعنى تُستمد الروح القومية التي ترمي إلى خير الجماعة والروح الوطنية، وفيما سوى ذلك فزيادات تنظر الأمة في قبول ما هو في مصلحتها ولا يتضارب وحريتها وسيادتها على نفسها ووطنها، وفي رفض ما ليس لها فيه مصلحة منها. أيها السادة، إننا أمة بكل ما في الكلمة من معنى، ولنا وطن واحد هو تراثنا وأملنا الوحيد لتحقيق حريتنا ومثلنا العليا. فيجب علينا أن نكون يداً واحدة في تقوية وحدتنا والمحافظة على هذا الميراث الذي خلَّفه جدودنا لنا نحن لا لغيرنا. إنّ مصلحتنا هي وحدتنا الداخلية الخاصة التي تكسبنا عصبية قومية تكفل بقاء حقوقنا لنا، وتولّد فينا نهضة تجعلنا جديرين بالتمتع بجمال هذا الوطن النادر المثال وخيراته، ولا تظنوا أنّ جميع أمجاد الفتوحات توازي الحرية القومية المقدسة في هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار. إنّ مقام مضيق ثيرموبيلاي في الخلود لأرفع وأمجد من كل فتوحات الإسكندر، لأن مضيق ثيرموبيلاي يمثل التفاني في سبيل الحرية القومية المقدسة، أما فتوحات الإسكندر فنكبات أخرت تقدم المدنية. وإنّ معركة ميسلون لأعظم وأمجد المعارك التي شهدتها هذه البلاد في التاريخ الحديث لأنها تمثل روح أمة حية وترمز إلى مثلها العليا. إنها أول معركة نظامية يقوم بها في التاريخ الحديث جيش سوري بقيادة قائد من أجل حرية سورية. إنّ معركة ميسلون تمثل مبدأً جديداً في حياة سورية الجديد المتنبهة. إنه مبدأ العمل الجدي لا مبدأ الهرب من المسؤوليات ثم ادعاء نصيب في ثمرة الجهاد. إنها الدليل القاطع على أنّ سورية قد صممت على أن تكوّن تاريخها بنفسها وأن تحصد ما تزرع وتجني مما تغرس. يقول الجبناء لكم ولي: إنّ سورية صغيرة فهي لا تتمكن من صيانة كيانها والدفاع عن أرضها. أنظروا إلى ميسلون تروا الدليل على صحة ما نقول. إنه الجبن يتكلم فلنحترم الجبن قليلاً، وإن كان الجبن لا يستحق الاحترام، ولنرد على هذا القول الهراء وإن كان هذا القول لا يستحق الرد. أقول إنّ معركة ميسلون أعظم دليل على أنّ سورية تتمكن من صيانة كيانها والدفاع عن أرضها. إنّ في معركة ميسلون قوة سحرية مخزونة ولكنها قوة فاصلة في حياة الأمم، هي قوة الإرادة العجيبة، هي قوة إرادة أمة حية، وما تستطيع إرادة أمة حية تحقيقه فشيء لا يحلم به الجبناء. إنّ معركة ميسلون تمثل جزءاً يسيراً جداً مما تستطيع الأمة السورية عمله مجتمعة. وإنّ قوة الأمة كلها ومبلغ حنكتها وأساليبها لم تكن ممثلة تمثيلاً صحيحاً في ميسلون، فميسلون لم تكن سوى اختبار ضروري لتحسين أساليب عمل الأمة. إنّ ميسلون هي بدء تاريخ الأمة السورية الحديث لا نهايته. والذين لا يفهمون هذه الحقيقة لا يفهمون شيئاً من حياة الأمم وموتها، ولا يفهمون شيئاً من معاني التاريخ. قلت إننا أمة بكل ما في كلمة الأمة من معنى وإذا أردتم شهادة عالم كبير أوردت لكم شهادة أحد كبار العلماء المفكرين هو أرنست رينان وإليكم ما حدد به الأمة قال: (Une nation résulte du mariage d’un groupe d’hommes avec une terre). أي أنّ الأمة تتولد من زواج جماعة من البشر ببقعة معينة من الأرض. وإنكم تلاحظون هنا استعمال رينان لفظة «جماعة من البشر». فهو يقصد الجماعة البشرية بصرف النظر عن أصولها، ولو قصد غير ذلك لقال «جنس» أو «سلالة» من البشر بدل «جماعة». فليس شرط الأمة أن تنتسب إلى أصل معين بل شرطها الاجتماع في حياة واحدة وأرض واحدة. وهذا نحن. ولكننا، ويا للأسف، لا نزال نقيم وزناً كبيراً للاعتقاد بالأصل، ولم يفدنا شيئاً تكرارنا قول القائل «إنما أصل الفتى ما قد حصل»، وقول البطل الذي أمدّت حياته الأدب العربي بأجمل رواية في مظاهر الفروسية الباهرة القائل: «وبساعدي ومهندي نلت العلى لا بالقرابة والعديد الأجزل» فعنترة كان ابن لقيطة، أسود الخلقة ولم يمنعه ذلك من أن يسمو بخلاله على أسمى أقرانه ذروة في النسب. قال الشاعر الإنكليزي الكبير تنيسون «إنما السكسون والنورمان والدانمارك جميعهم نحن»، وهو يعني أنّ أمته تشترك في هذه الشعوب فهي ليست من واحد منها، بل منها جميعاً. أما نحن فلا نزال نختلف ونتخاصم من أجل تعيين مصدر واحد ننتسب إليه، فالبعض يريدنا أن نعتقد أننا فينيقيون فقط، وبعضنا الآخر يريدنا أن نؤمن بأننا عرب فقط، وآخرون يريدوننا أن نسلم بأننا آراميون فقط، والحقيقة أننا نحن جميع هؤلاء وأنّ لنا وراثة مشتركة بين هذه الشعوب جميعها. وهل يضيرنا أن يكون فينا آراميون، وهم قوم نظموا شؤون المعاملات في الشرق الأدنى، وحاربوا اليهود ونكلوا بهم تنكيلاً أبقى في قلوبهم كوامن أخذت تتفجر من فم عاموس بالدعاء بهلاك دمشق التي بناها الآراميون وجعلوها عاصمتهم ومنها دافعوا عن سورية ضد الأشوريين دفاعاً عظيماً. وهم الذين بسطوا نفوذهم حتى أصبح لغتهم لغة المخابرات والمفاوضات الدولية الرسمية في الشرق الأدنى. وهل يضيرنا أن يكون منا الفينيقيون، وهم كانوا أفعل عامل في ترقية المدنية الحديثة بما نشروا من معارف وصناعات وكتابة. وهم الذين حفظوا البحار وحافظوا على سلامة المواصلات البحرية، ومنهم خرج محاربون بحريون من الطراز الأول، ومنهم خرج أعظم نابغة حربي في كل العصور وفي كل الأمم وصار حجة ضد القائلين إنه ليس بين الساميين نبوغ بالمعنى الصحيح، هو هني بعل أو هنيبال الذي ابتكر خططاً حربية لا تزال مثالاً ينسج على منواله قواد الحروب الحديثة، وصار اسمه مثالاً للشجاعة والبطولة كما كان شبحاً يرعب رومة في إبان صولتها، حتى صار القول «هني بعل على الأبواب!» مثلاً يضرب لكل خطر مداهم. ففي خطاب ألقاه موسوليني منذ بضعة سنين في المجلس الإيطالي جواباً على مناورات فرنسة ويوغوسلافية قال: «إنّ إيطالية لن تخاف شيئاً فهني بعل ليس على أبواب روما». والحقيقة التي يذكرها المؤرخون هي أنّ خطط هني بعل في معركة كاني الشهيرة التي سحق فيها أعظم جيس أرسلته رومة لمحاربته، هي التي عوّل عليها أركان حرب الجيش الألماني في وضع خططه الباهرة في الحرب العظمى. وهل يضيرنا أن يكون بعضنا عرباً، والعرب برهنوا بفتوحاتهم وما أدوه للمدنية من خدمات على أنهم شعب له مزايا تمكنه من القيام بأعباء المدنية متى وجد في محيط صالح، فالعرب في الأندلس كانوا من أهم عوامل ترقية المدنية في العلوم وإطلاق حرية الفكر حتى أصبحت اللغة العربية لغة العلم في الشرق والغرب. وكثير ما يمكن التحدث به عن العرب وأكثره معروف عندكم. يا بني وطني، إننا جميعنا من هذه العناصر لا من أحدها، إن رمتم الصحيح، فهل نستمر على سماع هذه الأصوات المتنافرة في كل مشروع يهمنا جميعاً: «نحن عرب. نحن فينيقيون. نحن آراميون» ألا يكفينا أن نكون سوريين شرفاء متحدين لدفع الشر والسعي إلى الخير؟ أفلا نستطيع أن نزيل هذه العوامل المفرقة ونقول، كما قال تنيسون «نحن نمثل مزيجاً راقياً من هذه العناصر الكريمة وهو مزيجنا الخاص الذي به صرنا نحن ما نحن». أذكر بهذه المناسبة قولاً فاه به الشيخ عبد الحميد سلام، أمين الفتوى في حفلة «جميعة الإخاء» في الجامعة الأميركانية قال ما معناه، لست أذكره حرفياً «متى عرف الإنسان كيف يقوم بواجب الأخوة نحو الإنسان استغنى الحق عن الأديان». وأنا أقول: «إنّ الأمة التي تنشىء نهضتها على الأخوة القومية الحقيقية المتولدة من الاشتراك الفعلي في الحياة الواحدة في الوطن الواحد، أمة تستغني بالانتساب إلى حقيقتها عن الانتساب إلى أوهامها»، فالأوهام تزول ولا يبقى إلا الحقيقة. إننا أمة ليس لأننا نتحدر من أصل واحد، بل لأننا نشترك في حياة واحدة في وطن واحد يحتم علينا أن نكون إخواناً قوميين متحدين في هذه الجامعة الوطنية، التي قلَّ مثيلها، من أجل كرامتنا نحن وحقوقنا نحن ومصالحنا نحن ووطننا نحن الحقيقة، يا إخوان، أنّ وطننا من أهمل مميزاتنا. فالسوري لا يمكنه أن يشعر أنه في وطنه إلا في سورية: بلبنانها البديع، وسهول وهضاب فلسطينها الخلابة، وأودية وأنهر وغيض شامها. فالسوري لا يمكن أن يشعر أنه في وطنه متى كان في الصحراء أو في مصر. ولا تصدقوا أيها السادة، عبارات المجاملات السياسية التي لا تغيّر شيئاً من الواقع. ولا تصدقوا ذوي الأغراض السياسية الخفية الذين يقولون لكم إنّ أفضل ما يمكنكم فعله هو أن تضحوا سيادة أمتكم على نفسها ووطنها من أجل إنشاء دولة ضخمة، يكون أصحاب الحل والربط فيها، من غير السوريين، وتتبع سياستها غير ما تراه الأعين السورية. إنّ السياسة هي التي يجب أن تضحى على مذبح القومية، ولا معنى لأي دولة إلا إذا كان وجودها لتحقيق السيادة القومية الصحيحة، والسوريون يجب أن تكون دولتهم منهم لتحفظ سيادتهم على أنفسهم ووطنهم وليتمكنوا بواسطتها من تحقيق مثلهم هم العليا. بهذه المناسبة أذكر لكم عبارة كتبها منذ نحو قرن صحافي كرواتي (من بلاد الكروات في يوغوسلافية) في جرائده وهي «إنّ الشعب الذي لا قومية له هو جسم بلا عظم» معنى عبارته أنّ الشعب الذي لا يؤلف أمة ولا تكون قوميته منه هو جسم مشلول رخو قابل الضغط والجذب والدفع ولكنه لا يستطيع القيام بين الشعوب القائمة، فهو أبداً ملقى عند أقدام الناهضين. إنّ هذه الصورة التي أظهر بها لويس غاج الشعوب التي لا قومية لها في نفسها هي من أصدق الصور التمثيلية. وهذه الصورة هي التي يريد كثير من السوريين أن يكون شعبهم عليها شعباً لا قومية له في نفسه، جسماً مطروحاً لا عظم له يقرَّر مصيره بالعوامل الخارجية المرتبطة بإرادة غيره لا بالدوافع الداخلية المتحدة بإرادته هو. هم يريدونه شعباً خاضغاً لا شعباً سائداً، غير مدركين أنّ هذه الإرادة تصمهم بوصمة انحطاط المثل العليا وتدنّي المطامح الإنسانية. فقد قال قائل، لا يحضرني إسمه الآن، «ليس في الإخفاق عار ولكن العار في اتخاذ المثل الدنيئة». إنّ من مات دون تحقيق مطالبه العليا الدالة على ما ورائها من نفس كبيرة يُعذَر، ولا يُعذَر من لا تصبو نفسه الهزيلة إلا إلى العيش في ظل المُثُل المنحطة. كثيرون هم الذين يحرصون كل الحرص على أن لا تكون النهضة مقتصرة على سورية بل متناولة كل الأمم العربية. إنّ هؤلاء ليسوا أكثر حرصاً مني ومنكم على ذلك. ولكن النهضة العربية العامة التي تشمل كل الأقوام العربية لا يمكن أن تتحقق بالقضاء على قوميات الأمم العربية، بل بنهوض هذه القوميات وقيام كل أمة بشؤون نهضتها الخاصة، وحينئذٍ يصبح التعاون في كل ما هو من المصلحة المشتركة، تعاوناً يحفظ لكل أمة قوميتها ومُثُلها. إذن فلنعتصم بقوميتنا السورية، ولنقم بما هو مطلوب منا لتحقيق نهضة أمتنا، ولنتّحد في عمل عام منظم وأنا، أيها السادة، أنا العاجز أقول لكم: إنه يمكننا في خلال خمس سنين إيقاف القضية الصهيونية عند حد تأخذ بعدها في التراجع عنه، وفي مدة عشر سنوات يمكننا إيقاف تقدم غيرنا على حسابنا وحساب وطننا عند حد لا يتعدونه يمتد على طول خط حدودنا القومية. وهذا العمل يحتاج إلى مثال هو مثال العامل الثاني في حكاية قاسم أمين، أي إلى القيام بالواجب بدون ضجة ولا غوغاء، وبالاعتماد على النفس قبل كل شيء، كما فعل ذلك العامل فإنه لم يصرف وقته عبثاً في مناداة رفيقه الهارب ليأتي إلى معونته، بل اتكل على ما في نفسه من شجاعة وقوة ونجاح. وقد قلت في إحدى محاضراتي السابقة وأعيد الآن إنكم سمعتم أنه قيل «إنّ الأعمال بالنيّات» أما أنا فأقول «إنّ النيّات بالأعمال»."
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |