شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1932-01-01 |
ذكرى الهدنة |
كان الأمس يوماً مشهوداً حافلاً بالأعلام مملوءاً بالأنغام. إنه عيد الهدنة لأعظم حرب جرت في التاريخ.
في عيد الهدنة ذكريات مفرحة وذكريات محزنة. فالذكريات المفرحة هي توقف هرق الدماء والإبقاء على البقية الباقية من رجال كانت تعتز بهم الأمم.
وقد تصرف الحلفاء في تفسير معنى الهدنة تصرفاً قضى على المعنى المتقدم وحولوا ذكرى الهدنة غلى عيد يجددون فيه انتصاراتهم.
أما نحن فلا يمكننا أن نقتصر على المعنى المتقدم بل تعود بنا الذكرة إلى الزمن الذي سبق الهدنة حين كانت الحرب لا تزال سجالاً وكفة القوة راجحة في جانب المانية وحلفائها وسيف ديموقليس معلق فوق جيوش الحلفاء – إلى الزمن الذي عاد فيه كليمنصو الملقب "بنمر فرنسا" من ساحة المارن وعرض فيه على بوانكاريه الذي كان رئيساً للجمهورية نقل الحكومة من باريس لأن "العدو على الأبواب".
في ذلك الزمن البعيد القريب، دب الرعب في قلب باريس كما دب الذعر قديماً في قلب رومة بعد انتصار هنيبال على أعظم جيش رومتني في معركة كنس (كان|س|) الشهيرة.
في ذلك الزمن، تحت تأثير الصواعق والبراكين الحربية، بينما مصير دول الحلفاء معلق بين الموت والحياة، رقت القلوب القاسية، وتحولت المطامع البربرية إلى نوع من الرغبات الإنسانية النبيلة، فاعتلى سياسيو الحلفاء المنابر وقطعوا على أنفسهم العهود مقسمين اليمين الغموس مشهدين على أنفسهم الله في السماء والهيئة الاجتماعية على الأرض، انهم يحاربون في سبيل غلبة الحق على القوة ونصرة الحرية على العبودية.
في ذلك الزمن التجأ هؤلاء السياسيون إلى الأخلاق والشرف بعد أن أفلست المناورات السياسية تجاه الاجراءات الحربية وعجز منطق المعاهدات عن رد منطق المدافع: وما هو مثبوت في أدبنا أن السيف أصدق أنباء من الكتب.
فتقدم هؤلاء السياسيون إلينا، كما تقدموا إلى غيرنا، وقالوا لنا "أنتم أمة حرة ولكم حقوق الحياة نظيرنا فظاهرونا على أعداءنا وأعدائكم" فنصرناهم وأقبل ألوف المتطوعين السوريين في الجيش الأمريكاني ليبذلوا أرواحهم في الساحة الفرنسية لأن فرنسا وضعت سورية في مقدمة الأمم الضعيفة التي يجب أن تنال حريتها واستقلالها التام، وزحفت الجحافل من الحجاز وكنا يداً واحدة نؤيد الحق والحرية.
مع ذلك كله فالهدنة لم تتحقق على هذه الكيفية إلا بفضل الجيش الأميركاني الأتية لنجدتهم وبنود ولسن الأربعة.
وما كاد الحلفاء يشعرون بعجز القوات الألمانية عن سحق القوات الجديدة الآتية لنجدتهم، حتى اضمحلت جميع المبادىء الإنسانية التي ملأوا الأرض تبجحاً بها وحلت محلها سياسة المطامع. فإذا الحق القوة، وإذا القوة الحق، بشرط أن تكون القوة قوة الحلفاء وأن يكون الحق حقهم.
بعد الهدنة وأد الحلفاء المبادىء الإنسانية وأداً ودفنوها مع الجندي المجهول حيث يرقد بسلام.
فرأينا العهود منكوثة ورأينا اليمين يحنث بها ورأينا حق الحلفاء لا يختلف معناه في القاموس عن قوة أعدائهم.
ينسى الحلفاء حين يكرمون الجندي المجهول انهم يكرمون رجلاً سفك دمه راضياً لأنه على يقين من أنه يفعل ذلك من أجل الحق والحرية. بل هم لا يذكرون من الجندي المجهول سوى ضريحه يضعون عليه أكاليل الزهر.
في الهدنة ذكريات مفرحة وذكريات مؤسفة، والذكريات المؤسفة أضعاف الذكريات المفرحة.
فالخيبة التي أصيب بها المطلب الأعلى للإنسانية لا تضاهيها خيبة أخرى.
من مقالات ما قبل التأسيس 1932
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |