شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1943-09-01
 

اليمين

أنطون سعادة

إن من أعظم أضرار ضعف الأخلاق وانحطاط المناقب فساد الحقيقة وذهاب الرجولة وفقد الأهلية وتفكك الاجتماع وتهدم القضايا وركوب العار.


وليس أسوأ عاقبة من الحنث باليمين وفسخ العهود ونقض البيعة التي بها قيام القضايا والاطمئنان الأكيد بالتضامن في الحياة. القضايا العامة تتحقق بالمجهود العام. فاليمين التي توجب التضامن الوثيق في المجهود العام تصبح القاعدة اللازمة لهذا المجهود والشرط الذي لا يمكن قيامه إلا به. وكسر اليمين خرق لحرمة المجهود العام وتعريض لهذا المجهود لأخطار غير منتظرة، مع ما يلزم ذلك من امكان وقوع العذاب والتعذيب على الأوفياء الثابتين على ايمانهم بسبب فشل ضعيفي الأخلاق وتزعزعهم. وإذا تركنا احتمال وقوع العذاب والتعذيب ونظرنا فقط في الآلام والمتاعب التي يورثها تقلقل الصفوف من جراء تزعزع ضعفاء الأخلاق لكفى مجالاً للتمعن في بعض نتائج خرق اليمين السيئة.


ولكن الجيل السوري الحاضر لم يتعود مناقشة النفس في الأضرار التي يمكن أن تلحق الأمة او الحزب أو القضية من جراء شذوذ الأفراد عن قواعد المجهود العام. ولذلك يندر أن تجد أفراداً مدركين هذه القواعد ومهتمين لها وعارفين مقدار ارتباط الشخصية بها في المجتمع او في نظام الاجتماع.


الحقيقة ان خرق اليمين من أسوأ جرائم المناقبية. فإذا بليت به أمة دك عمرانها الى الحضيض وإذا شاءت أمة عاثرة النهوض كان الحنث باليمين وخفر الذمة ونقض العهد في صدر الأدواء التي يجب معالجتها لكي يمكن ان تعمر نهضة وأن يثمر مجهود عام وأن تتحقق قضية. فوجود المبادىء والتعاليم الأساسية للقضية القومية لا يكفي وحده لتحقيقها فلا بد من العزائم الصحيحة للعمل العظيم. والعزائم الصحيحة لا توجد في النفوس التي غلبت مثالبها مناقبها.


إن داء نقض العهد وخفر الذمة والحنث باليمين هو من أروع الأدواء التي كشفت عنها مجهودات التنظيم السوري القومي الاجتماعي في الجيل السوري. فإن السهولة التي ينقلب بها غير واحد من الناس على يمينه وينقض بيعته، لأتفه الأسباب أحياناً وأحياناً لدى أول الاصطدامات بين النزعة الفردية ومقتضيات النظام الإداري والعملي، لهي من الظواهر المخيفة المرعبة، التي تهدد كل محاولة من محاولات المجهود العام المنظم لبلوغ بعض الأهداف القريبة أو البعيدة. وإن أقل نتيجة عامة من نتائج المظاهر السيئة هي: فقد الثقة بصحة العزائم وضياع الأمل في الإدارة القومية العامة.


اصطدم الحزب السوري القومي الاجتماعي بهذه العقبة وتعرض لهذا المرض النفسي المتفشي في الجيل السوري الحاضر. وفي كل فرع تأسس جديداً للحزب كانت قضية نكث العهد والحنث باليمين بكل سهولة من القضايا الأولية التي لم يكن بد من معالجتها ومن الاحتياط لها. والمؤسف ان حوادث كثيرة من حوادث الاستهتار باليمين لم يمكن تلافي انتهائها بسقوط عدد من الأفراد كان يمكن أن يفيدوا القضية القومية الاجتماعية فريسة هذا الداء النفسي الوبيل. وأخوف ما في هذا المرض ان الذين يفتك بهم ويحولهم من أشخاص قابلين للتنظيم الاجتماعي والسياسي الى أفراد لا يعول عليهم في العمل القومي المنظم يسيرون، بعد ارتكاب جريمة نكث العهد، بإختيال وكبر كأنهم قاموا ببطولة باهرة تستحق الإجلال والتعظيم.


إن عدداً من الذين قتل قواهم النفسية داء الاستخفاف بالبيعة واستسهال الحنث باليمين، وسقطوا من صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي لهذا السبب الجوهري، يرفعون رؤوسهم في المجالس والمجتمعات باعتزاز ويطلقون ألسنتهم في القدح في نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي حاول شفاءهم من مرضهم الهدام للمجتمع، كأنهم حائزون على المؤهلات الأخلاقية والمناقبية والحقوقية للحكم على الحزب ونظامه!


وغير نادر أن تصغي المجالس والاجتماعات الخالية من الشعور بالمسؤولية ومن تقدير النظام الى "أحكام" اولئك المارقين بشيء كثير من الموافقة ومن القبول! فإن تعود الناس انعدام النظام والمراجع والمحاسبة، السائلة، وممارستهم الانفلات من القيود النظامية ومن المسؤوليات ومن القوة المناقبية جعلاهم يجدون خرق النظام ونكث العهد شيئاً اعتيادياً وقاعدة مألوفة لا غبار عليها! فالذين ينكثون العهد وينزعون اليمين التي في الأعناق بالسهولة عينها التي ينزعون بها الاربة (الكرافات) أو يفكون بها رباط الحذاء حين يخلعون ثيابهم للنوم، يفعلون ذلك بكل دم بارد وبخلو تام من الشعور بعظم الفضيحة الاخلاقية والمناقبية التي يرتكبونها، معتمدين على قبول الأوساط الرافضة النظام، الجاهلة خطورته الأساسية في التعمير الاجتماعي وفي التخطيط السياسي، هو الفضائح وحسبانها أعمالاً غير مخلة بقواعد الشرف وبحياة الوجدان.


ان القواعد المناقبية الأولية لكل مجتمع متمدن، بل لكل مجتمع متوحش أيضاً، ترفض الكذب والبهتان والاخلال بالوعد فكم بالحري يكون رفضها لنكث العهد المقطوع والقسم المشهود. أجل. أن نكث العهد والحنث باليمن يعد، عند المتمدنين وعند المتوحشين على السواء، خيانة يأباها الوجدان وجريمة ضد المجتمع وغدراً بالجماعة التي ارتبط بها الناكث بموجب اليمين التي حنث بها. فلليمين خطورة عظيمة جداً في علاقات المجتمع الانساني وروابطه. وهي بطبيعتها تصبغ الأمور المقطوعة لها بصبغة الواجب الذي لا مفر منه، اذ اليمين توضع للأمور العظيمة دون الصغيرة وللقضايا الأساسية الجوهرية دون المسائل السطحية العرضية. فالانسان لا يحلف يميناً على انه سيأكل اليوم، لأن طلب الغذاء من طبيعة الحياة ومقتضياتها تدفع الانسان الى الأكل من غير احتياج الى عزيمة نفسية خاصة. ولا انه سيتاجر او يتخذ حرفة يكسب رزقه منها. ولا انه سيتزوج. ولا على أنه سيركب سيارة اذا أمكنه ولا أنه سيلعب بالنرد او بالتنس ولا على انه سيراسل من يراسله ويقاطع من يقاطعه وغير ذلك مما شاكله. ولكنه يحتاج لحلف يمين للانقطاع عن الأكل حتى الموت، مثلاً. ويحتاج لليمين للتضامن في طلب ثأر أو بلوغ مكرمة أو في دفع عدو عن الوطن أو في قلب حكومة وانشاء نظام جديد وغير ذلك مما شاكله من المطالب والأحداث الجليلة المتعلقة مباشرة بعزائم النفوس في ما يختص باعتقادها في ما هو الأفضل والأسمى والأعز من حالات الحياة ومراميها. ولذلك كانت اليمين من المسائل النفسية العظيمة الخطورة. فهي تتعلق بالادراك والعقيدة وصدق العزيمة في ابتغاء تحقيق المطلب ضمن النظام أو التدبير المقرر.


لا يمكن، الا في حالة الجهل المطبق، اعتبار اليمين أمراً هيناً الدخول فيه والخروج منه.لأن القسم لا يطلب الا في أمر جلل ولا يعطى الا في ما يبتغي به تحقيق ما لا ترى النفوس مندوحة عنه ولا ترضى الا به. وفي أعمال المجموعة تعطى اليمين تثبيتاً لعزيمة لا رجوع عنها لارتباط لا انفصام له الا بزوال المطلب العام أو بسقوط النظام الذي يبتغي به تحقيقه.


واننا نرى تقديم الزعيم لخطورة اليمين وعظم أهمية العمل القومي المنظم لتحقيق العقيدة القومية الاجتماعية ولما يقتضيه ذلك من صحة العزائم في طلبه من كثيرين مراجعة نفوسهم قبل الاقدام على حلف اليمين ليكون حلفهم بوعي وادراك تام لخطورة الموقف وما يترتب عليه. ومع ذلك لم يمكن شفاء المرضى من داء الاستهتار وضعف الاخلاق والعبث بالمبادىء العامة. لا حجة لمن يحنث بيمينه في الحزب السوري القومي غير ضعف الاخلاق والاستهزاء بالقيم المناقبية ولا عذر له غير الجهل وفقد الادراك. ففي الحزب السوري القومي الاجتماعي شرع يضمن لكل فرد حقه كفرد في النظام والعمل والرأي. ولكل فرد يحسب نفسه مظلوماً في أمر من أن يطلب المحاكمة العلنية اذا لم تجر محاكمة علنية لأغلاطه. فيكون أمينا على أن قضيته لا يبت فيها بالخفاء بطرق لا يقرها المجموع. ولكن الذي ينظر في قضيته أمام نحو ستين أو ثلاثين عضواً من رفقائه او أمام أكثر أو أقل من هذا العدد، على نسبة اتساع البيئة، وتصدر في حقه الأحكام المبينة أغلاطه القانونية والقاضية بفرض قصاص محتمل عليه، ثم يثور ثائره، لأن أنانيته تأبى الا أن تكون فوق أهوائه على اتباع النظام والحق، أي شيء يمكن أن يقال فيه أقل من وصفه بضعف الأخلاق والعبث بحرمة المبادىء العامة وخيانة الحركة ونظامها وأهدافها؟


أحد القوميين في الوطن حكم عليه بالفصل من الصفوف أثناء وجود الزعيم في السجن الأول. فلما خرج الزعيم من سجنه جاء اليه مستأنفاً دعواه اليه ووضع أمام الزعيم كيساً صغيراً فيه قطع نقود معدنية يبلغ مجموعها كل المترتب على ذلك الفرد من الاشتراك الشهري في المدة التي كان موقوفاً فيها وقال للزعيم: "لقد حكم علي يا مولاي، بالفصل عن العمل النظامي ومفارقة صفوف الحركة. ولكني لست براجع عن يميني. واني أرفع قضيتي الى أعلى مرجع في الحزب. فاذا أيد حكمه حكم الفصل السابق فقد قضي الأمر. وإذا نقضه وأعادني الى الصفوف عدت طائعاً ومحافظاً على يميني" ان أمانة ذلك الجندي ليمينه ومتانة أخلاقه انقذتاه من الظلم وشرفتا يمينه.


ولكن كم هو عدد الذين لمجرد أن شيئاً بسيطاً لم يكن على خاطرهم قالوا: "ننسحب من الحزب ولا يهمنا ما يصير"؟ فيرتكبون جريمة خيانة العهد وقطع الرباط النظامي الذي به قيام القضية.


ان النظام يضع الحدود للأفراد ليمنع استبدادهم ويلوي عنادهم ويخضعهم للارادة العامة الممثلة في النظام ومؤسساته. والفرد الواعي الذي منه خير هو الذي يحافظ على يمينه مهما حدث مما يعكر مزاجه ويحدد بعض رغباته. أما الذي يظن أن كل حكم يصدر في النظام ويكبح رغباته ويطلب اجراء الأمور على غير رأيه، أو غير ذلك مما لا يوافق هواه، هو سبب كاف لاهمال يمين أداها في موقف مهيب أمام قضية عامة مقدسة فهو ناكث مفسد. فان كان يعلم ذلك فهو خائن مجرم يجب احتقاره. وان كان يجهل ذلك يؤدب فان رفض التأديب فهو ساقط مكابر فضلاً عن انه مجرم.


حافظوا على ايمانكم الذي في أعناقكم تفلحوا!



"الزوبعة"، العدد 65، في 1 أيلول 1943.



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه