شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1945-01-22
 

نسر الزعامة السورية القومية ووحل تكمان وذبابها < الباب الأول جزء 6 >

أنطون سعادة

هنا يصح ان يقال اكثر مما يقال في أي مكان آخر: على نسبة الجهل تكون الدعوى.

وفي "المسيحي والمسلم" غير هذه السخافات سخافات اخرى تظهر كـَم كان يجهل جبران مسوح من اوليات الاجتماع والعمران كقوله: "والسياسة لوحدها شيء لازم للبشر هي توجد الوطنية الحقة وتسن الشرائع بحسب مقتضى الحال الخ". فتعريف السياسة بانها "توجد الوطنية الصحيحة وتسن الشرائع" يمكن أن يسخر منه تلامذة المدارس الابتدائية، فضلا عن تلامذة المدارس الثنوية ومن فوقهم.

اما شرحه، في دفاعه عن فرنسة، كيف استولت تلك الدولة على سورية مغتصبة اياها بالسيف من يد الأتراك فدرس عال في التاريخ القومي يعجز عنه أكبر مؤرخي العالم. جميع التواريخ التي تقول أن الجيش البريطاني هو الذي افتتح سورية بمساعدة الجيش العربي وشرذمات قليلة لا اهمية حربية لها من الجيش الفرنسي هي تواريخ كاذبة. ومثلها التواريخ التي تقول انه اعلن استقلال الشام وتوج الأمير فيصل الحسيني ملكاً عليها واعترفت بعض الدول بهذا الاستقلال وان الجيش الفرنسي زحف بقيادة الجنرال غورو من لبنان لاحتلال الشام واغتصاب القسم الحر من سورية من أهاليها وان معركة دامية نشبت في ميسلون بين الجيش السوري المدافع عن سيادة أمته بقيادة الخالد الذكر الشهيد يوسف العظمة والجيش الفرنسي المعتدي. "هذا كله كذب" هكذا يقول المؤرخ العظيم جبران مسوح ويضيف: "والحقيقة انها اخذتها من يد الأتراك بالسيف".

وبهذا العمى الفكري يريد جبران مسوح أن يقول انه نظر في دعوة الحزب السوري القومي وفي ما تحتاج اليه الأمة والوطن ومنح تلك الدعوة موافقته العليا وقبل برحابة صدره وسعة دماغه، التي ارادت ان تضم جميع "مفكري العرب وجيوش الفكر العربي" تحت حمايتها، ان يكون جندياً للقضية القومية" مع كل ما في الامر من الصعوبة"!

مع ذلك فلجبران مسوح أسلوب شعبي، عامي، في الكتابة مستحب وقد لاحظ الزعيم ذلك من أول كتابة قرأها له، ولم يكن بين الذين دخلوا الحزب في الارجنتين من هو أجرى قلماً وأحسن تعبيراً منه. الرفيق نعمان ضو كان مقلاً والرفيق يعقوب ناصيف والرفيق جواد نادر انضما إلى الصفوف متأخرين. فجعل الزعيم مهمته تثقيف كتابة جبران مسوح ورفع مستواها وتغذيتها بما أمكن من العلوم والمعارف والنظريات والتوجيهاتز فصار يقرب جبران مسوح اليه ويجيب على رسائله باسهاب ويتحدث اليه ويدعوه الى بوانس ايرس. وبديهي أن ذلك لم يحدث فجأة اذ كان اتصال الزعيم بالاشخاص بواسطة المرافقين فلما سافر أحدهم وسقط الثاني صار الزعيم في حاجة الى الاتصال بالاشخاص بنفسه. وقد رغب في تقوية روحية جبران مسوح وفهمه القضية حتى اذا قضت الظروف بسفر الزعيم يكون في الارجنتين كاتب يمكن الاعتماد عليه في التبشير بالعقيدة والدفاع عن القضية.

وقد أصغى جبران مسوح الى مئات احاديث الزعيم وعشرات خطبه ومحاضراته ومئات مقالاته ورسائله وحضر اجتماعات قومية عديدة جرت بحضور الزعيم ورأى ادارته وتوجيهاته وحضر قضاءه وفصله في عدة دعاوى ومشاكل وشهد بعدله وحكمه بالحق وعدم تساهله في اقامة الحق وسحق الباطل وأظهر اعجابه بمقدرة الزعيم.

وكلفه الزعيم نسخ محاضر ومراسيم وكتباً في مكتبه وأملى عليه عدة رسائل في قضايا ومسائل شخصية وادارية.

وحيث كان يلقي الزعيم محاضرات ويتفق وجود جبران مسوح كان يكلفه تدوين المحاضرة او تلخيصها كما سمعها من الزعيم، وكان جبران مسوح ضعيفاً جداً في ادراك أهمية نقاط كثيرة اجتماعية او سياسية او مبدأية ترد في كلام الزعيم فكان يدله على ما غاب عنه وعيه ويشرح له ما اشكل عليه فهمه.

وسافر الزعيم برفقة مسوح الى تكمان واكتسب للقضية عشرات الشبان وتحبيذ عشرات الاشخاص ذوي المنزلة الاجتماعية واحترامهم ونظم الذين انضموا الى الحزب تنظيماً حسناً وأوكل الى جبران مسوح وظيفة المشارفة على الأعمال مديريتي تكمان وسنتياقو دل استيرو، فلم يقدر، لضعف شخصيته او لانعدامها، من اكتساب احترام عام لآرائه وكلمته فكان من الوجهة الادارية صفراً الى اليسار ومن الوجهة السياسية الشخصية عبئاً على الادارة. فكثرت الشكاوى عليه وأكثر من شكوى الآخرين وأثار بينه وبين اصدقائه القدماء نفوراً سببه عدم وزن كلامه في المواضيع التي لها مساس بالأشخاص وشعورهم فكان الزعيم يحمل ذلك محمل ضعف تفكيره وتقديره للنتائج والعواقب ولم يكن للزعيم متسع من الوقت للتحقيق في نفسية جبران مسوح وعواملها ولم يخطر له أن محبة التهديم والتشفي والشماتة بالآخرين هي عامل هام من عوامل نفسية ذاك الشخص الموجود دائماً وأبداً في تلك الحالة الشبه مرضية التي يعبر عنها علماء النفس بما يمكن أو يحسن أن يترجم "بغرور العجز". وهي حالة نفسية معقدة يحاول أصحابها دائماً القيام بأعمال والتفوه بأقوال القصد منها اظهار عجزهم او ضعفهم بمظهر القوة. وهذا كان شأن جبران مسوح دائماً. كلفه الزعيم مرة انتقاد بذل السوريين المغتربين للقضايا العربية عن قوميتهم بسخاء وشحهم في مسائل قوميتهم فكتب مقالة بعنوان "خالهم الحصان" لم يكن فيها معالجة للموضوع لافهام الأغنياء ما يحسن ان يفهموه وينتظر منهم، بل كان فيها وخس ولسع أثار مشكلاً بينه وبين أحد الرفقاء في البرازيل من أهل اليسار واقتضى الأمر أن يتدخل الزعيم ويكتب الى الرفيق الغني في البرازيل عدة رسائل ويكتب الى جبران مسوح مثلها لازالة أسباب التناظر والتنافر. وفي تكمان اكتسب عداوة أصدقاء له ليس بسبب انضمامه إلى الحزب ولا بسبب "الدكتاتور" بل بسبب كتاباته اللاذعة الهدامة الحاملة كل تشفي العجز وانتقام الضعف. وهذه الكتابات هي من طبيعة جبران مسوح لا من تعاليم الحزب ولا من خطته.

الصغير الذي يرى صغره ويشعر به يصير له لذة خاصة في اللذع واللسع والانتقام والتشفي وفي طلب المظاهر المعوضة عن الضعف واستعمال العبارات الضخمة كحماية الجيوش وتحطيم القيود والاتيان بالمعجزات مما ليس في مقدور الأفراد ولا الجماعات كقول مسوح في كتاب "المسيحي والمسلم" "عليّ الباقي" الذي لم تقدر الجيوش الجرارة من رجال الفكر على فعله وقوله: "ان القيود التي كنت مكبلاً بها وضعتها تحت قدمي وسوف تبقى هذه القيود الملعونة تحت قدمي الى الأبد. سوف احطمها تحطيماً يصل دويه الى كل مشارق الأرض ومغاربها". وهذه كلها مبالغات القصد منها التعويض عن ضعف حقيقة الشخص. وهذه المواقف التحطيمية هي أشبه سيء بمواقف فروسية دنكيخوطية الذي صار يتصور دواليب المطاحن الهوائية وأعمدتها كأنها جبابرة فيحمل عليها بسنانه ويسخن فيها طعناً وهو يتوهم أنه يقاتل عمالقة ويصارع جبابرة.

ومع ذلك فأن الزعيم لم يفتأ يعلمه ويدربه ويرشده ويدافع عنه بين الناس ويجد له عذراً عند اصدقائه وعائلته. وتمكن الزعيم بصبره من تحسين كتابات جبران مسوح وتهذيب اسلوبه. ونظراً لما كان يظهر من مظاهر الاخلاص والطواعية صار يعززه ويرفع شأنه بين القوميين ويوليه ثقة كبيرة ليؤيد ثقة ذاك الشخص بنفسه. وبالنظر الى المقالات الشعبية الحسنة الأسلوب الذي نسجها جبران مسوح من مبادىء النهضة وتعاليمها وشروحها النظرية والعلمية (العملية) نعته الزعيم "بالكاتب القومي الكبير" وامتدت بسبب ذلك شهرة جبران مسوح الى جميع الأوساط والمجاميع السورية التي انتشرت فيها الأفكار القومية فكان بذلك تحقيق المصلحة الأولى التي رمى إليها جبران مسوح وبلغ بواسطة انطون سعاده وتعاليمه وعنايته ما لم يبلغ عشر معشاره باشتراكه مع حبيب اسطفان او بصحبته لميشال صباغ صاحب القاموس العربي الاسباني. فلا عجب اذا كانت غيرة جبران مسوح على الحزب و"الزوبعة" قد زادت مع الأيام على نسبة زيادة (ما) اكتسب من علم وتدريب وشهرة ومنزلة.

....


للبحث صلة (الباب الثاني)


الزوبعة، العدد 83 في 22 كانون الثاني 1945



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه