شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1937-12-18 |
الرد على البطريرك عريضة: مسائل السيَاسة القومية جزء 1 |
تمهيد في السادس من الجاري ألقى غبطة البطريرك الماروني خطاباً تناول فيه السياسة اللبنانية ومسائلها وعالجها بالطريقة البطريركية التقليدية فجاء خطابه أمراً هاماً وحادثاً خطيراً في السياسة اللبنانية لا يمكن أن يمر كما مر الكثير من خطابات الغبطة البطريركية السابقة بدون تعليق يوضح مجاري الفكر السياسي الحديثة ويضع الأمور الهامة في الأمور اللائقة بها، خصوصاً وأن غبطته قد خص الحزب السوري القومي الاجتماعي ومبادئه بعناية دقيقة توجب مقابلتها بعناية مثلها. وقد كنا ننتظر أن ينجم عن خطاب البطريرك مسائل واتجاهات تكمل ذلك الخطاب ذا المرامي السياسية ولكن الأمور التي تلته لم تكن ذات علاقة وثيقة به ولا معبرة عنه، بل مناورات سياسية استغلالية أرادت أن تستغل موقف البطريرك ونفوذه. وقبل البدء بمعالجة خطاب الغبطة لا بد من قول كلمة في شخصية البطريرك الحالي السياسية الظاهرة من مواقف متعددة وقفها. فقد وقف البطريرك عريضة موقفاً محموداً بصدد الوحدة فيما بين لبنان والشام وظهر أنه يقترب كثيراً من مجرى النهضة القومية الاجتماعية. ووقف من تقرير احتكار زراعة التبغ في لبنان موقفاً شديداً غير موفق لأنه جاء بعد فوات الأوان. وإذا كان لغبطة البطريرك عريضة هذان الموقفان وغيرهما من المواقف الحميدة فإن له كذلك مواقف غير حميدة كموقفه من محاولة اليهود التسرب إلى لبنان، حتى قال فيه المطران مبارك: "نحن إنما انتخبناك بطريركا للموارنة لا بطريركا لليهود". ولسنا نذكر عبارة المطران مبارك للمفاضلة أو المقابلة فالمطران الذي قال هذا القول عاد فتبع سيده وصار مطراناً لليهود. نرى من مواقف البطريرك عريضة السابقة أنه من الوجهة الشخصية، ليس ذا اتجاه معين متزن ولا ذا مذهب سياسي خاص. وإن أعماله السياسية هي هبات تثيرها العوامل العارضة وتوجهها المؤثرات الشخصية الحاصلة التي يتعرض لها البطريرك بواسطة المتصلين به وبعض هذه المؤثرات أو أكثرها شخصي مبني في أكثر الأحيان على آراء أولية وفهم غير ناضج للقضايا المطلوب معالجتها. ولا يشذ عن هذه القاعدة موقف غبطة البطريرك في السادس من هذا الشهر (كانون الأول سنة 1937)، الذي ألقى خطابه الآتي تشريحه. ففي هذا الخطاب ينزل البطريرك عند الرغبات الملحة ويباشر معالجة مسألة مضى وقت الفائدة من معالجتها فموقفه من مسألة الحكم في لبنان أشبه بموقفه من مسألة احتكار التبغ، لأنه مبني على القاعدة عينها: النظر في الكوارث بعد وقوعها ورؤية الأغلاط بعد صدورها والتأثر بالنظريات التي تعرض على صاحب الغبطة مكبرة ومحسنة، مهما كانت بعيدة عن إدراك أسس القضايا وفهم طبيعة عواملها الأصلية والفرعية. فتعالج الأصول معالجة الفروع وتعالج الفروع معالجة الأصول. فيبدو نجاحاً باهراً ما هو فشل باهر ويختلط الصواب بالغلط فيسمع الشعب فيفرح ويجرب الشعب فيحزن، وتستمر المعالجة فيتكرر السمع والحزن. وبديهي أن تؤدي الأسباب عينها إلى النتائج عينها وأن ينتج عكس النتائج التي تكون حاجة الشعب وأشواقه وآماله. فمعالجة رجال الدين اليوم مسألة الأمم الاجتماعية السياسية والاقتصادية كمعالجة رجال الدين في الأزمان الغابرة الأمراض الجسدية والنفسية (العقلية) حين كان الكاهن ذا سلطة خفية، مستمدة من جهل تلك الأجيال السحيقة، على الروح والمادة وكما أدى ارتقاء علم الاجتماع وفن السياسة إلى استحالة حلول مطران أو بطريرك محل العالم الاجتماعي أو الخبير السياسي أو الثقة في الاقتصاد. وكما يؤدي تدخل رجل الدين، من حيث هو رجل دين، في معالجة الشؤون الاقتصادية الاجتماعية والسياسية إلى إفساد عمل الخبير بالشؤون الاقتصادية الاجتماعية والسياسية وعلاجه. ولقد أدركنا من اختبارنا البطريرك عريضة أنه، شخصياً ليس سوى رجل دين. فقد يكون تقياً وقد يكون ورعاً وقد يكون محباً للخير العام وقد يكون صالحاً أمام الرب يسوع بنزاهته وتجرده. قد يكون كل ذلك ولكنه مع كل ذلك ليس خبيراً بالاجتماع أو بالاقتصاد أو بالسياسية. حتى ولو عاونه بعض من يثق بجدارتهم لبحث شؤون هذه الشؤون وإعطاء الآراء الصائبة فيها. تبقى إذن مسألة المقام البطريركي ذي التقاليد المستمدة من الأزمنة المتطاولة في القدم، من أزمنة الثقافة الحجرية أو من أزمنة الثقافة المعدنية الأولى، من قبل عصر الآلة وقبل عصر الحديد، ممن قبل عصر الثقافة الصناعية الزراعية الحديثة ثقافة المعرفة والعلم والاختصاص، من أزمنة الجهل المطبق والخوف المغلق. ولابد لنا من الاعتراف بأن المقام البطريركي كان في مدارك تلك الأزمنة ذا مصلحة أولية في النظر في شؤون الجماعة الدينية المنقادة لرعايته. وكانت الجماعة الدينية لذلك العهد ذات شأن خاص ومطالب خاصة وكانت لها صفة الوحدة السياسية. وكان تمثيلها السياسي تمثيلاً دينياً وكان تمثيلها الديني تمثيلاً سياسياً كانت تلجأ إلى رئيس تلك الجماعة الدينية فكان يتكلم باسمها وكانت تجتمع حوله وتؤيده. ولم يكن ذلك التمثيل قط مبنياً على أساس فهم تام ثابت لعلاقة الروح بالجسد وتفوق تلك على هذا الذي يرمز إليه بسيادة الرئيس الديني على حسم الموضوع. وكان معقولاً نوعاً في ذلك العهد أن يلجأ إلى اعتبار الممثل السياسي للجماعات الدينية بسبب الصفة السياسية لهذه الجماعة وبسبب ظروفها السياسية والاجتماعية فاكتسب المقام البطريركي ذلك النفوذ الدنيوي السياسي الذي استمر إلى هذه الأيام وكان ذا شأن خطير في إقرار مسائلنا القومية، والسياسية وذا مسؤولية أصلية في إقرار الحالة الراهنة، التي نختبر الآن نتائجها. ومما لاشك فيه أن المقام البطريركي عمل في ظروف كثيرة ماضية على حفظ مصلحة الجماعية الدينية وإيجاد أسباب بقائها. وكانت له في هذا السبيل أعمال كبيرة بلغت إلى غاية بعيدة. وإلى هذه الحقيقة التي لابد من الاعتراف بها يعزى استمرار نفوذ المقام البطريركي السياسي حتى هذه الأيام. فمنذ تلك الأزمنة القديمة إلى اليوم سار التطور سيره الطبيعي وفعل فعله فتغيرت الظروف وتغيرت الأوضاع واختلفت الاعتبارات. ولكن الشعب بطبيعته بطيء إلى إدراك التغيرات الاجتماعية السياسية إدراكاً جلياً فظلت عامة الجماعة الدينية تتجه اتجاه الجماعة السياسية في حين لم تعد الظروف توجب أو تسمح ببقائها جماعة سياسية. وفعلت قوة الاستمرار فعلها في مقام البطريرك الماروني فتدخل بعد الحرب باسم الجماعة المارونية لإقرار مسائل سورية وفاقاً للاعتبارات الدينية وكان تدخله ابتداء المسألة اللبنانية الحديثة التي بلغت بالشعب اللبناني إلى موقفه الحاضر. وإلى هذا التأخر في الإدراك تجد أسباب امتداد نفوذ رجال الدين السياسي إلى هذه الأيام والعامل الأساسي في بقاء هذا النفوذ ذا شأن هام في تقرير مصير القضايا القومية والسياسية. هذه هي العوامل التي تكسب خطاب البطريرك عريضة خطورة ما كانت تكون له لولاها. فالخطاب بسيط مضطرب، عام لم يتناول من المسائل المعينة سوى الحملة على الحزب السوري القومي الاجتماعي وعلى الحزب الشيوعي وفيما سوى ذلك فالكلام عمومي وفي بعض الأماكن يعرض لمبادئ لا يصح السكوت عليها كما سيجيء.
.... للبحث صلة،
نشر هذا البحث التحليلي في جريدة "النهضة" الصادرة في بيروت، وذلك ابتداء من العدد 58 تاريخ 18 كانون الأول سنة 1937
|
جميع الحقوق محفوظة © 2025 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |