شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2007-10-31
 

الرفيق بهيج العنداري

من منا ، نحن الذين عرفناه جيداً ، في " البناء " كما في العمل الحزبي لا يـذكر بلوعة رحيله الباكر ، ولا يستعيد في ذاكرته الكثير من اللقاءات معه ، والعديد من صفاته الحلوة .

إنه الخطاط الماهر ، وصاحب القلب الوسيع ، والقومي الاجتماعي المؤمن والمجسد لمعاني إلتـزامه ، الرفيق بهيج العنداري .

وليس أمراً سهلاً إلا في حزبنا ، أن يقترن أحد من عائلة العنداري ، من المذهب الدرزي ، بإبنة عائلة الطرزي من المذهب السرياني الارثوذكسي ، فيتحدان في الحب وفي الايمان القومي الاجتماعي ، يبنيان عائلة ناجحة ، ويقولان بالأفعال والقدوة أي حزب عظيم هو الذي يوحّد بين كل ابناء المذاهب والطوائف والكيانات والمناطق في بوتقة واحدة متماسكة .

الكثير يحكى عن الرفيق بهيج العنداري ابن خطاط الجمهورية اللبنانية فهد العنداري ، مذ أبصر النور في بلدته العبادية ، ومنها انطلق الى الحزب ، الى بيروت ، الى لندن ، فيكون له في كل مرحلة بصمات هيهات أن تزول أو تمحى .

لعل ما كتبه عنه صديقه ورفيقه غسان الشامي اثر رحيله ، ما يوجز بعض الشيء الحياة النضالية للرفيق بهيج العنداري .

بهيج العنداري ... سحابة حروف جميلة

ما قدرت على رؤيته عندما جاء الى لبنان مؤخراً ، ولم تلحّ عليّ زهرة حمود ، لا لأنني غير مشتاق الى التنادم معه ، أو أنني لم أحن الى جلسة في مكان هادئ في شارع الحمرا ، أو حتى أنني أخشى رؤية مريض .. لا ، لكن حدساً وتياراً جوانياً كان يدفعني الى الاحتفاظ ببهيج العنداري داخل برواز طيفي – أحبه .

هناك على مصطبته الخاصة التي تضجّ بالبسمة والعطاء ، وفي فضاء جَلجلة ضحكات الفرح الطفولي ترنّ عقب كل دعابة أرسلها .

لقد كان بهيج يانعاً مثل عينيه اللتين سَرَحتا ذات جلسة على حافة " شوار الجريد " فوق بسكنتا . عينان حالمتان ، صافيتان ، لا أثر لأي موت فيهما .

لكنه لم يمهلني كي أتضاحك معه ، ولم يشفَ ويعود رافعاً نخب بلاد جاءت الى انتصارها ، وعلى الأصح ، خذلني ورحـل ، كما خذل كل المحبين ، مع انه لم يفعل ذلك طيلة حياته ، خـذلني ورحل ، غادر مسرعاً ولم يلتفت الى أمنياتي وطلباتي المتلاحقة له بالشفاء ، غادر دون أن يترك لنا وقتاً لنتحسس اختياره السريع للمفترق .. الموحش .

صعب أن تكتب عمن تحبهم ، يا لهذه الطامة القاتلة ، أو يا لهذا " الواجب " الذي يقتلني ، أن الكلمات مهما تعمشقت وتطاولت تبدو أقل من قاماتهم ، وتصير اللغة مجرد قاموس بارد مرمي في زاوية المكتبة ، وتنحسر المفردة كما الزبد أمام عصف الروح ، وموج المشاعر الهفهافة ، والأكثر دفئاً ، وتحب وقتها ان تتناولهم همساً ، وتلتقطهم عطراً ، حيث تمد الروح أذرعها الهيولية لتلتف كحرير الصباح حول ابتساماتهم وأحزانهم وصراخهم وخطاياهم الصغيرة ، وحيث تربت بجفونها على كلماتهم وحروفهم ، وتسبح في بحرها الصغير والأليف ، لذلك تبدو المسافة المطلوبة كي تكتب عنهم قصيّة ، نائية نأي الوشوشة عن الأذن ، وخصل الشعر عن الجبين ، فتحار في انتقاء الكلمات ، وما عليك إلا أن تترك القلم يسيل .

العنداري بهيج رحل إذن ، هرول الى هناك متأبطاً دواته وريشته ، أصابعه ودبكة الحروف الجميلة ، حاملاً معه معانداته للكومبيوتر ، وخصامه مع الآلة الحديثة ، وتحديها حتى اختراع خطوط جديدة تبقي الخط العربي فاتناً في عيون القراء ، مشى العنداري تاركاً سحابة من حروف فاتنة .

منذ ثلاث سنوات قلت له : نريد أن " نخترع " ماكيتاً جديداً لـ " البناء" يا بهيج ، كما نريد أن تحك أصابعك جيداً أيها الرفيق وتجيء بـ " لوغو" جديد ، فهذه المجلة اعتادت على خطوطك منذ ما قبل الحرب التي رحلت ورحّلتك ، وللذين لا يعرفون العنداري أقول أنه ورث كتابة الخط الجميل عن والده فهد العنداري خطاط الجمهورية اللبنانية ، كما أن خطوط كبريات الصحف اللبنانية والعربية انسالت من بين أنامله ، وخذوا مثلاً جريدة " الحياة " .

لم يتأخر البهيج كثيراً ، فقد وصل الى بيروت وفي جعبته لوغو " البناء " الحالي ، ومشروع ماكيت جديد وجميل لم نستطع تنفيذه لأسباب عديدة ، كما اخترع خطاً خاصاً بـ " البناء" . وقد اقترح أن نسمّي الصفحة الأخيرة " أوجاع " أو ما يشبه ذلك ، لأنه كان يعلم أي مخاض عسير يحدث قبل ولادة مجلة " البناء " عبر تاريخها ، فهو قد خبر كل الصراخ منذ السبعينات حتى رحيله الى لندن .

ما من أحد مرّ في قطار " البناء " إلا ويعرف أن خطوط العنداري قد زينت صفحاتها ، وأن بهيج كان واحداً من النبلاء الضاحكين ، الكرماء ، ... رغم كل الصعاب ، وقد انتقلت ضحكاته الى لندن حيث لم يستطع الضباب طمس طيبته ، ولا أن تصل البرودة الى حرارة مشاعره وحفاوته وانتمائه الى نهضته ، كما لم يستطع الغرب المادي تخفيف حدة كرمه ..

في لندن ، كما في بيروت ، ما مر أحد (من الرفقاء) إلا وعرج على " مضافة العنداري " . وما احتاج رفيق الى مال أو توصية أو كتاب إلا وكان بهيج حـاضراً ... حتى المعاناة ، التي قاسمته " أمال (1) " كل خطواتها .

غادر بهيج ريشته واختار المفترق الموحش .. هناك في لندن حيث اجتمع الأصدقاء الطيبون الذين ما نسوا روحه وحفاوته وإبداعه ..

رحل العنداري .. ولم أره ، لأنني كنت لا أصدق أنه سيمضي باكراً على سحابة حروفه ، أو .. ربما لأنني كنت غير جدير برؤيته .

رحل العنداري ، وها أنني أعتذر منه ، لأنني لم أره أولاً ، ولأن كلماتي لا تطال أنامله المبدعة.

1- عقيلته الرفيقة آمال الطرزي .



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024جميع المقالات التي تنشر لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع