شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2009-12-10 |
حضارة الفرات الأوسط أسوار ضخمة وقصور فخمة مبنية من الطين |
دير الزور-سانا شكل الطين المكون الرئيسي في العمارة والبناء في منطقة الفرات الأوسط لدرجة دفعت الباحثين الأثريين إلى وصف حضارة المنطقة بأنها حضارة طينية وتدل الاكتشافات الأثرية على أن معظم المواد المستخدمة والأبنية في حضارة الفرات الأوسط كانت معتمدة على مادة الطين. وتميز الطين دائماً بأنه مادة سهلة الاستعمال والمزج والتعامل إضافة إلى ميزاته التي يوفرها للبناء عبر امتداد الزمن من حفظ للحرارة في الشتاء والبرودة في الصيف إضافة إلى سهولة تشكيله في البناء والتكيف بأشكاله. والطين مادة جمالية أيضاً للرسم والتشكيل الهندسي لمختلف الأشياء المراد تشكيلها وهذا ماجعله المادة الأولى في البناء والعمران عبر أحقاب زمنية متعددة . وقال ياسر شوحان مدير المتاحف والآثار بدير الزور إن طبيعة المواد الأولية المتوافرة في البيئة الجغرافية تفرض نمطاً خاصاً على أسلوب العمارة والبناء فيها حيث يشكل السكن انعكاساً لمعطيات الطبيعة والبيئة وبما أن وادي الفرات سهل رسوبي غلب الطين على العناصر المكونة له كان استخدام الطين الأكثر شيوعاً في تصميم هياكل المباني في المدنيات الغابرة. وأشار شوحان إلى أن الدراسات الأثرية بينت أن الإنسان القديم الذي استوطن في منطقة الفرات الأوسط بدأ بتشكيل كتل من الطين مخلوطة بقدر من القش تترك في الشمس لتجف ثم استخدمها في بناء أقدم قرية سكانية تم اكتشافها حتى الآن في المنطقة في تل بقرص الأثري جنوب شرق مدينة دير الزور 40 كيلومتراً تعود للألف السابع قبل الميلاد. وأوضح شوحان أن بناء القرية تم وفق مخطط مسبق وبتنظيم مدهش فكانت البيوت متلاصقة وتتبع نظاماً موحداً حيث طليت الجدران والأرضيات بالطين الأملس وشكلت العرصات والأزقة طرق المواصلات فيها ثم تطور فن العمارة والبناء عبر مراحل زمنية بعيدة فظهرت المدن الأولى في الفرات الأوسط التي تطلبت تشييد أسوار دفاعية عالية تم بناؤها على أساسات من الحجر الكلسي يقوم فوقها اللبن واتخذت أشكالاً وسماكات مختلفة فبعضها على شكل دائري وأخرى مستطيلة حسب ما تقتضيه طبيعة المنطقة الجغرافية وتتألف من سورين تفصل بينهما مساحة فاصلة تشغلها بساتين أو مساكن للطبقة الفقيرة وتخترق الأسوار بوابات متقابلة تعلوها أبراج حراسة مطلية بالطين الأملس. ورأى شوحان إن تطور العامل الاقتصادي التجاري أحدث تحولاً في نمط العلاقات الاجتماعية فبرزت السلطة الدينية وبدأ الإنسان في تلك الفترة يتصور الحياة بطابع مثالي حيث حفلت المعتقدات الدينية بالرموز الإلاهية ومعبدها مثل معبد عشتار ونينهور ساج ونيني زازا وغيرها وترافق ذلك مع تطور في فن البناء فظهرت معابد على شكل أبنية مرتفعة وإكليلية اتخذ بعضها الشكل الهرمي المدرج مثل الزقورات وهي بناء مؤلف من ست مصاطب مبنية من اللبن تقع على أعلى مرتفع في المدينة لها ثلاثة مدرجات طينية للصعود إلى المعبد في القمة. وتابع إن تسارع عمليات التمدن أدى إلى نشوء السلطة الزمنية وانفصالها عن السلطة الدينية فحلت السلطة المدنية محل السلطة الدينية وبدأت الأبنية المرتبطة بالحكم بالظهور وفي هذه الفترة تعدى المأوى وظيفته المرتبطة بتوفير الأمن والاستقرار إلى وظيفة حضارية من خلال التنوع في أشكاله والتفنن في طراز البناء فمن الطين المجفف على الشمس تم بناء القصور الفخمة وأهمها قصر زمري ليم في مدينة ماري الذي تبلغ مساحته هكتارين ونصف الهكتار ويضم 306 غرف ويتألف مدخل القصر من غرفة واحدة تليها غرف متتالية وممرات متعرجة تفضي إلى باحة سماوية ومن خلالها يتم الوصول إلى مختلف أقسام القصر المؤلف من باحات سماوية وقاعات لجلسات الملك وقاعة للاحتفالات الدينية ومعبد خاص بالقصر وقاعة العرش وغرف للضيوف ومكاتب الإدارة وغرف الخدم وجناح خاص لسكن أسرة الملك يضم مطابخ وحمامات وغرفا علوية كما ضم القصر مدرسة تحتوي على ثلاثة صفوف من المصاطب المبنية من اللبن كانت تشكل مقاعد الدراسة للطلبة. ويعد بناء القصر بهذه الفخامة دليلا على تطور في علم الهندسة والرياضيات حيث تم العثور على مجسمات طينية للبناء المراد تشييده و برع المهندسون في تصميم سقوف القصر على شكل سقف منحدر مزدوج شكلت صفوف الأعمدة الخشبية المتقاربة دعائم معلقة له تستند إلى عوارض خشبية لتخفيف التوتر والضغط عن الجدران المبنية من الطين. وإضافة إلى البناء والعمران كان للطين وظائف ثقافية أخرى مثل تدوين اليومية على الرقم الطينية المكدسة في المكتبات وأهمها الأرشيف الملكي التابع لقصر زمري ليم. وأضاف شوحان أن تراكم الخبرات عبر العصور أدى إلى تمكن الإنسان من إدراك الطبيعة الكيميائية للطين وكيفية استخدامه والتعامل معه وحدود استعماله وظهر ذلك في صنع قساطل فخارية استخدمت كقنوات جر مياه عذبة إلى المنازل والمنشآت وقنوات أخرى للصرف الصحي وبإضافة بعض الحجر المسحوق إلى الطينة العضارية تم تصنيع القرميد واستخدامه في بناء الحمامات وأهمها حمامات دورا أوروبوس المبنية من القرميد واستخدم الاسمنت الروماني كـ ملاط لاصق بين القطع وهو عبارة عن خليط من الجص الأبيض والأسود ومسحوق الجبس والفحم وبقايا الروث الحيواني ليكتسب بذلك الصلابة التي تقارب صلابة البيتون. ولا يزال استخدام اللبن شائعاً في محافظة دير الزور وخاصة في الأرياف ومناطق البادية لكون هذا النوع يلائم طبيعة المناخ الجاف والحار صيفاً والبارد شتاء كما أنه قليل التكلفة ومن خلال تجربة الأقدمين أثبت إمكانيته في تصميم أبنية شاهقة وضخمة صمدت أمام عوامل الزمن عبر آلاف السنين وشكلت معلماً حضارياً بارزاً. تقرير: ثائر الفرحان
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024جميع المقالات التي تنشر لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع |