إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أبـنــاء الـمـنـفـي

الأمين نواف حردان

نسخة للطباعة 2010-01-21

الرواية للكاتب الاسباني فرناندو كونساليز. احداثها في بلاد الاندلس العام 1546 وما يليه.

عرّبها بتصرف الامين نواف حردان والشرح يرد في المقدمة التالية:

كنت سائراً ذات يوم في أحد شوارع سان باولو اقصد مكتبة كبيرة معروفة، لاشتري منها بعض الكتب التاريخية التي تستهويني.

وفجأة.. رأيت الى يساري على رصيف الشارع رجلاً يعرض في واجهة مفتوحة، كتباً قديمة وجديدة، مكدسة بدون ترتيب. توقفت امامها، ورحت بعد الاستئذان اقلبها واتفحصها باناة ودقة، علّني أجد بينها ما يهمني، الى أن عثرت على كتاب عتيق أستأثر عنوانه العربي باهتمامي، على كونه بورتغالياً. وكان عنوانه: "أبناء المنفي".

أمسكت الكتاب بلهفة، ورحت اقلب صفحاته الصفراء باهتمام وأقرأ بعض سطوره وأحدق برسومه العربية، الى أن تبين لي بأن مؤلفه الكاتب الاسباني الكبير فرناندو كونساليز، كتبه بالاصل بالاسبانية عام 1840 أي منذ 152 عاماً. والنسخة بين يدي كانت بالبورتغالية مترجمة ومطبوعة في ليشبونية عام 1876 أي منذ 116 عاماً.

ادركت بعد نصف ساعة من التقليب والقراءة، ان الكتاب مدهش فعلاً، وأنه رواية تاريخية تقع في مجلدين من اربعة أجزاء و1453 صفحة تروي من وجهة نظر اسبانية قصة الحروب الأخيرة التي دارت بين العرب والاسبان قبل أن يلقي العرب سلاحهم نهائياً بعد خسارتهم اسبانية، وادركت ايضاً باني وجدت نفسي صدفة أمام تحفة ادبية تاريخية نادرة رائعة كبيرة القيمة.. تعادل كنزاً ثميناً.

اشتريت الكتاب بثمن زهيد، وعدت ادراجي الى حيث عكفت على قراءته. وكنت كلما استغرقت بالقراءة، كلما ازداد اعجابي وتضاعفت دهشتي وما ان انتهيت الا وكانت الرغبة بترجمته للعربية قد استولت عليّ، رغبة كبيرة ملحة ضاغطة لا تقاوم.

ولكن قبل ان ابدأ الترجمة، استدعيت أديباً اسبانياً صديقاً لي، كنت اعرف عن ادبه وسعة اطلاعه وعمق ثقافته الشيء الكثير، واطلعته على الكتاب وسألته عن مؤلفه فأظهر استغرابه ودهشته عندما تصفحه وقال بأنه قرأ الكثير من الادب الاسباني ورواياته التاريخية، ولكنه لم يقرأ هذا الكتاب ولم يسمع به ثم طلب مني ان اعيره اياه لمدة اسبوع لكي يقرأه فنزلت عند طلبه.

عاد الي بعد اسبوع وقال لي ان الرواية من اجمل روائع الادب الاسباني ولا شك وأنه بحث ونقّب كثيراً ليعرف سيرة مؤلفه الى ان اكتشف بأنه كان (راهباً) اشتهر بجرأته وصراحته وانتقاداته اللاذعة وحملاته العنيفة على السلطات الاسبانية ومحاكم التفتيش التي اغرقت اسبانية بالطغيان والمظالم البربرية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً من جهة، وبكونه كاتباً مرهف الحساسية مجنّح القلم، من اكبر وانجح كتّاب الروايات العالمية والكلاسيكية الخالدة من جهة ثانية.

شكرت صديقي الأديب الاسباني وقد ازدادت رغبتي بترجمة الرواية للعربية، عندما علمت ذلك، وبنوع خاص لأنها كانت مكتوبة باسلوب بديع مؤثر أخاذ، وتحتوي معلومات كثيرة مستقاة من مصادر موثوقة لا تزال مجهولة من العدد الكبير منا وتسجل حوادث تاريخية صادقة باسلوب روائي بلغ فيه الكاتب قمة الابداع، وأنصف العرب انصافاً عادلاً شريفاً ودعا الاسبان للتكفير عن الظلم الذي انزلوه بهم والاعتراف بما قدموه لاسبانية من علم وثقافة ومعرفة وحضارة والانحناء أمام ما حققوه واعطوه اعجاباً واحتراماً.

ولأن الرواية أيضاً تنبش، من زوايا التاريخ تفاصيل المقاومة البطولية التي قادها يحيى بن الاحمر، آخر الامراء العرب في اسبانية وتلقي الأضواء على الاسباب التي أدت الى فشله واندحاره وأفول المجد العربي عن الاندلس. ولعل أكثر ما استحث رغبتي بترجمة الكتاب الى العربية كانت تلك النفسية العالية النبيلة النزيهة التي تحت تأثيرها نظر المؤلف الاسباني الى الامور، وبحث وقارن وحلل وخرج بحكمه العادل الشريف على الاحداث، وقال كلمته الكبيرة الحقة للتاريخ ولاسبانية وللعالم.

أكتفي لكي أعطي برهاناً للقارئ على روح المؤلف العالية وتجرده ونزاهته وحكمه العادل على الاحداث، أن اسجل في هذه المقدمة كلمة له جاءت في أحد فصول الكتاب رائعة كبيرة داوية ما تزال ولا شك تقرع ضمير الاسبان وتلامس قلوبهم كما ستنال اعجاب قراء العربية وتزيد شعورهم بالفخر والاعتزاز.

قال المؤلف:

"يشعر المؤلف باشمئزاز كبير من الهول والوحشية اللذين تجسدا في تلك الحقبة المصبوغة بالدماء من تاريخ اسبانية لأن ما سيكتب عنه المؤلف لم يخلقه خياله العاطفي الثائر، بل كان وقائع مخيفة، نتيجة الضغط المخيف من سلطة طاغية أثيمة على العرب".

خلال هذه الحقبة من الزمن، التي دامت 97 عاماً في مملكة غرناطة لم يعامل العرب كبشر، ولكن كأشياء كان يتصرف بها الفاتح المتوحش بحسب ارادته.

كل المظالم التي يمكن أن ترتكب، كل التجاوزات والاعتداءات على كرامة الانسان، كل الاهانات والاضطهادات تعرّض لها العرب في اسبانية.

لم يشاء الفاتح ان يترك لعامل الزمن الفرصة اللازمة لكي تساعد على ان يهضم الاسبان العرب باعتدال وتساهل، بمعونة الدين والشرائع والعادات، لم يحاول أن يخفف عنهم ثقل النير كما كانت تقضي شروط التعامل الشريف وشروط السياسة، ولماذا لا نقول شروط الرحمة؟

منذ البدء، منذ اليوم الاول لفتح غرناطة، بدأ السعي لتدمير العرب.

اسبانية التي افقرها الرهبان، اسبانية المتعصبة العمياء، كانت تجهل تمام الجهل كم هي مدينة للحضارة العربية. فاذا كان لديها صناعة ما في تلك الايام، فهي صناعة العرب. اذا كانت نفسيتها الغوتية القاسية قد ارتقت، فبفضل احتكاكها بهم. واذا كانت زراعتها قد ازدهرت، واذا كانت اراضيها التي كانت قبلاً قفراء بائرة تحولت الى حقول خصبة ترويها أقنية الري، فتلك الاقنية حفرها العرب. اذا كان اطباؤها ومثقفوها يعرفون شيئاً ما، فلانهم شربوا المعرفة من مدارس قرطبة وسلامنكا، أو قرأوا الكتب التي طلعت من تلك المدارس أقباساً من النور.

ان روح الحضارة العربية تغلغلت بعمق في الشعب الاسباني. منها سمع الكاستلياني أصواتاً لا تحصى، ومن قوانينها أخذ عدداً كبيراً من الشرائع. حتى نفس نظامها المالي والاداري استعمله. حتى ألقاب قضاته وألقاب الموظفين الكبار في الدولة.

في الحقبة القليلة التي سيطر فيها العرب على اسبانية، كان رئيس القوات البحرية الاسبانية يدعى أمير البحر (اميرال) والقاضي يدعى (القاضي) والقائد كان رئيس الجند (والوالي) كان المحافظ، (والوكيل) كان موظفاً كبيراً.

عمارات الاسبان، ملبوساتهم، وأسلحتهم تلونت باللون الشرقي الذي كان يميزها عن عمارات وملبوسات وأسلحة الشعوب الاوروبية الأخرى، حتى في طقوس دينهم يوجد تأثير عربي على القداديس الموزارايية. حتى في الوظائف الدينية العربية للرابط والمرابط، تأثرت الوظائف الدينية- السياسية الاسبانية.

ومن أعيادهم العامة تركوا لنا (لعبة السيف والترس) و(سباق الخيل) ومصارعة الثيران.

في الشعر كما في الموسيقى أعطونا ميزاتهم وآلاتهم. الشعر الاسباني الجيد في أيامنا هذه لا يزال يحتفظ بالايقاع الجميل والشكل المقفى المقطع للشعر العربي.

لا نزال نحتفظ بالقيثارة كآلة طرب مفضلة.. والصنوج والطبول كآلات تستعمل في الحروب. شارات وعلامات الشرف، الاعلام التي رفعناها مرات عديدة في الحروب والانتصارات، ليست الاعلام والنسور الرومانية، ولكنها الأعلام ذات الجناحين التي نقلد بها الاعلام العربية التي كانت تخفق في قرطبة وطليطلة وغرناطة.

ولكن لماذا نجهد النفس لكي نبرهن على تأثر حضارتنا بالعادات العربية؟

يكفي أن تطأ قدم غريبة ما الأرض الاسبانية حتى يجد صاحبها آثار ذلك الشعب الذي مر من هنا: الحصن، الكنيسة، المدينة، الحقول، تدل بوضوح في كل اسبانية على الاثر العربي.

اللغة، العادات، الاغاني الشعبية، الاعياد، لا تزال تحفظ حية روح ذلك الشعب الذي مر من هنا كالشهاب، مع طيران الفتح السريع الذي امتد من اليمن حتى جبال البيرنيه، زارعاً في كل مكان آثار مروره التي لا تمحى.

وبدون اي خشية من ان يكذب القول، يمكن التأكيد بان نصف دماء الشعب الاسباني هي عربية.

وبكلمة مختصرة: اذاً كان اجدادنا هم المتحدرون من بيلاجو وتيودورويمو، فأجدادنا هم أيضاً المتحدرون من طارق بن زياد وموسى بن نصير.

أتريدون أن تروا امرأة عربية أصيلة؟ اذهبو الى الاندلس وفالنسيا. اتريدون أن تروا هذه المرأة بكل صفاتها وكل اشعاع جمالها الرائع الاخاذ؟ توغلوا في جبال البوخراس، وسيروا على شواطئنا من حويفلة إلى جبل طارق، وعلى شواطئ البحر المتوسط من جبل طارق الى فالينسيا. اختلطوا بسكانها، تعرفوا على لغتهم ولهجاتهم، ولاحظوا عاداتهم، وادرسوا عواطفهم، عندئذ تتأكدون بانكم ترون بين أولئك السكان، المرأة الشرقية التي أتى بها العرب الى اسبانية.

واصغوا للانشاد الشعري عند ذلك الشعب.

تجدون الخيال العربي بكل حقيقته واتساعه وشموله وكل احاسيسه. شعر حب، شعر ألم، شعر أمل، بأربعة أبيات مقطعة شعر غير مكتوب يرتجله القلب وتنشده السعادة طوراً وطوراً ينشده اليأس وأحياناً يغنيه الشرق العارم.

وتفرجوا على الرقص يرافقه الغناء والقيثارة. لاحظوا التنورة الطويلة التي ترتديها الراقصة بكل طياتها وألوانها الزاهية، والصدرية المشدودة الى قد أهيف، والكتفين المتحركين والصدر البارز والذراعين البضين الشهيين، لاحظوا ذلك المنديل الجميل ذي الالف لون الذي يغطي شعراً أسود كاليل تنحدر جدائله لتلامس وجهاً ضاحكاً أسمر أو أبيض نقياً، ذا عينين سوداوين ترشان نظرات تبرق حباً، وذا شفتين توزعان الابتسامات كي تساعد العينين في معارك الحب الكبير.

حدقوا جيداً بذلك الشاب الذي يرافق الراقصة في رقصها، وبزناره العريض الملون، وسرواله المشدود العريض، وجزمته اللامعة أو حذائه الأبيض. لاحظوا سكينه أو موساه يطل من جيبه الداخلية، واصغوا جيداً الى اصوات الفقاشات وتصفيق الحضور يرافق القيثارة والأغاني والرقص والمشهد الجميل الذي يبدو امامكم وارفعوا عيونكم لتروا فوقكم سماء صافية تغمر ذلك المشهد بأنوار حارة فتتأكدون عندئذ بانكم تشهدون رقصاً عربياً..

ترك ذلك الشعب في الارض الاسبانية جذوراً عميقة، فامتزجت دماء الغالب بدماء المغلوب، حتى أنه لم يبق فرق بينهما سوى كتابين، كتابين متشابهين جداً لا يتعارضان هما القرآن والانجيل.

اذا نزعتم القرآن من ايدي عرب اسبانية واعطيتموهم الانجيل، واذا نزعتم الانجيل من الاسبان واعطيتموهم القرآن، عندئذ لا يبقى أمامكم سوى شعب واحد، شعب ممتاز.

يقول البعض بأن العرب أخذوا كثيراً من اخلاق الاسبان. أما نحن فنقول بأن الاسبان أخذوا من العرب، كل ما تمكنوا من أخذه حتى أنهم صاروا وكأن لا فرق بينهما".


هذا بعض ما قاله الأسباني الكاتب فرناندو دي كونساليز مؤلف هذه الرواية في أحد فصولها: كلمات صادقة حارة كبيرة، نابعة من وجدان كبير، أنصف العرب فيها، كما أنصفهم في سرده لحوادث الرواية، وسلط أضواء ساطعة على وطنيتهم واخلاصهم وشجاعتهم، وتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم وتشبثهم بايمانهم وتعاليم دينهم، واستبسالهم في الدفاع عن حقهم بالحرية والكرامة والاستقلال والسيادة والمعتقد وممارستهم البطولة، حتى ليكاد يتراءى للبعض أن البطولات العربية التي تصفها الرواية تشبه البطولات الاسطورية. وما هي باسطورية بل واقعية تاريخية القواعد والاسس أضفى عليها قلم الكاتب الكبير تلك المسحة السحرية البديعة التي لونتها بالجمال والشعر والحماس والحب والقوة والفروسية والشهامة والعز وببعض الخيال الرائع أحياناً، وبألف لون ولون من العواطف الانسانية العديدة التي يتصارع فيها الحب الشامل الغامر الناكر الذات الذي لا حدود له، مع الحقد العنيف الجموح الطاغي، والبخل الشديد الحقير، مع العطاء السمح الذي لا يقيس التضحيات، والقومية المدافعة الصامدة المجابهة المتفانية، مع الرغبة النبيلة بالسلامة الشخصية والراحة وانقاذ الذات، والطموح الفولاذي المجنح الذي لا يرتد ولا يلتوي، فيدوس مشاعر النفس النبيلة الشاعرة المتألمة ويسحق نزعاتها الشريفة أحياناً في سبيل بلوغ الأهداف والغايات المرسومة.

لم يكتف المؤلف بذلك بل تغلغل بثاقب نظره وحدة ذكائه الى اغوار النفس العربية فسبرها وخبرها ورسم بريشة الفنان المبدع كبر تلك النفس وعزتها وكبرياءها شموخها وقوة جلد العربي وصبره وقدرته على تحمل الشدائد.. كما اقتلع من اعماق التاريخ الكثير من الاسرار التي كانت مدفونة منسية في زواياه، فأخبرنا مثلاً كيف امتدت ايدي آخر المحاربين العرب (المنفيين) الى العالم الجديد المكتشف عندئذ، أميركا، تنتزع منها الذهب والكنوز وتغذي بها حربهم الاخيرة. وكيف كانت عيون أمير (المنفيين) يحيى بن الاحمر لا تعجز حتى عن النفاذ الى قصر الامبراطور الاسباني عدوه اللدود تراقبه وتحصي عليه الانفاس.

لماذا أخفق العرب في دفاعهم الاخير عن وجودهم في اسبانية؟ تعطي هذه الرواية الجواب التاريخي الاسباني على السؤال. ومن واجب العرب كما من حقهم الاطلاع على هذا الجواب وعلى رأي الاسبان فيهم وفي حضارتهم وفي أسباب فقدانهم اسبانية.

ومن أجل ذلك قررتُ ترجمة هذه الرواية للعربية.

ولأنها علاوة على ذلك كما قلت في بدء هذه المقدمة: تحفة ادبية تاريخية رائعة كبيرة القيمة



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024