شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2010-01-21 |
أسد بابل |
الرواية التاريخية الرابعة للأمين نواف حردان بعد "حفيد النسور"، هاني بعل رسول حضارة، زنوبيا العظيمة- قضية وسيف وكتاب. الرواية تحكي عن حفيد نبوخذ نصر الكبير، البطل- الانسان نادينتو بعل، وعن حقبة هامة في تاريخ سورية. مقدمة الكتاب للأمين د. ربيع الدبس، وهي تضيء بعمق ووضوح على رواية تعد من بين الاروع، وفيها كنوز من المعلومات التاريخية صيغت بأسلوب روائي أخاذ "ينقلك بأجنحة من الخيال إلى بابل وفينيقية وقبرص، إلى المدى السوري كله". مقدمة الكتاب للأمين الدكتور ربيع الدبس ثـلاثـة أيـام هـي الـدهـر كـلـه ومـا هـي غـيـر الأمـس والـيـوم والـغـدِ (أبو العلاء المعري)
كنت قد بدأت الجنوح نحو الفكر المركّب يوم أسرني قول نيتشه المبسط على لسان زرادشت: "انني أستعرض جميع ما كتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الانسان بقطرات دمه"، فأيقنت أمرين: أولهما أن الفكرة الواضحة أهم من كونها مركبة، والثاني هو أن الفعل أصدق من القول بما لا يقاس.. بذا تكون الثقافة الحقيقية جسر عبور متيناً من الشعار إلى المراس، وتكون هي التطبيق العملي والمعرفي للمقولة التي جاء فيها أن الثقافة هي ما يعوز المرء بعد أن يتعلم كل شيء. ولكن ما الثقافة التي نحن بها معنيون خصوصاً مع أمثال المؤرخ النوعي نواف حردان وفي هذا العمل الثقافي بالذات؟ لعلنا- على سعة مدلولها- نستطيع تعريفها بما يلي: الثقافة بمعناها الرحيب هي مجموع الانطباعات المكتسبة التي تنفعل بها شخصية المرء من حيث هو فكر وشعور وتخيل و كائن اجتماعي يتصرف في بيئة معينة وزمن معين، ويستمر نفاذها اليه من نشأته الاولى إلى آخر دهره، يستمدها شأن كل كائن حي، من البيئة وعوملها، ومن الحياة الخاصة والعامة وفقاً لأستعداد مزاجي فيه. وهي بمدلولها الفردي والطبقي والقومي والانساني الشامل تتضمن ما ذوبه العصر في الأمة من الوان دخيلة أواصيلة. وأهم مقوماتها المعرفة عقيدةً وأدباً وفناً وحساً تاريخياً وذهنية وتقاليد ومشاعر، واللغة مدونة ومحكية، والنمط التربوي الذي تمت فيه المقابسة.. وبعد، فهي حصيلة المعارف العقلية والذوقية و تشمل نوع العاطفة وطبيعتها. ومن شأنها أنها ليست كدساً من العلوم المخزونة في فرع من فروع النشاط البشري أو في غير فرع. وانما شرطها فناؤها في آخذها، لتغدو طاقة بديهية مركوزة فيه وقوة مبدعة. وفي قول غوستاف لوبون: "الثقافة هي ما يتبقى بعد أن يُنتسى كل شيء. بهذه الرؤية المعيارية ننظر إلى المؤلف، وبهذه الخلفية نضع "أسده البابلي" في الميزان، فيتكشف لنا أن لها جلال الخالدات- هذه التحفة الموضوعة بين أيدينا. فلعل أول ما تؤكد عليه هذه الرواية التاريخية أن الوعي بالانتماء القومي يظل ضعيفاً وأقرب إلى الاحساس الغرائزي أن لم تنهض به ثقافة. ولعل أول ما يلفتك في واضع هذه الرواية – الأديب والمؤرخ المنتج نواف حردان – ثقافته العلمية والاجتماعية والتاريخية... فالتاريخ نفسه ثقافة وهذا ما وصفه المؤلف نفسه في الكتاب بـ"فضيلة العطش إلى المعرفة". تستطلع تاريخه- في الحقائق التاريخية الثابتة أو في الحوار التاريخي المصطنع – فتخاله مسرحاً قائماً بذاته. والمسرح في التحليل النقدي المكثف هو إعادة بناء الحياة من قلب الحياة، حتى في مستحكم الضرورة النفسية والفعل المأساوي... هكذا يمسي، لدى الهادف من المؤرخين، أحداثاً عينية لا تقص وتسرد بمقدار ما تخفق بالحياة. وها هو المؤلف الراصد يستحضر تلك الأحداث بالحوارات المتخيَّلة الحية أحياناً، وحيناً آخر يجعل الوقائع التاريخية مذكرات محفوظة في سجلّ واحد من شخصيات الرواية. وفي كلتا الحالتين تستوقفك تلك القدرة على إحياء التاريخ وتلوينه بالوجدان القومي، ثم على تطعيمه بزاد الرواد المصارعين، وتعميقه وعياً أمثولياً في ذاكرة الأجيال. نبوخذ نصَّر- نابونيد- نادينتو بعل- نبودار- إيتامار- بيلشصر- بيتاغور- قدموس- زينون: كلها وكثير غيرها أسماء وامضة في تراثنا القومي الخصب، من بابل وفينيقية وقبرص إلى المدى السوري كله. يجمعها المؤلف في إطار من الجدية والطرافة مميز، يؤلّقها التكنيك الروائي وينفحها الَّنَفس الجهادي الطويل المؤمن بالصراع محوراً مركزياً في حركة الحياة الناهدة إلى الأفضل. يلفتك في هذه الرواية المعقودة لحفيد نبوخذ نصر/ البطل الإنسان نادينتو بعل، كيف تُستعذب الشهادة، وكيف يشكل الشهداء النوعيون متكآت نهوض، ومنعطفات أساسية في مسيرة الترقي، ونقاط إرتكاز في البناء الحضاري قومياً وإنسانياً. "لماذا يموت الاشراف الأوفياء الصادقون المؤمنون، قبل الأوان"؟ سؤال يطرحه المؤلف على لسان واحد من الشخصيات المركزية في الرواية هو الطبيب ايتامار... هكذا تجد نفسك وأنت تطالع مؤلفات نواف حردان أمام مهام أربع هي: القراءة والاستقراء والتأمل والاستنتاج... هكذا تنخرط في عمله الروائي التاريخي مشاركاً من الداخل لا قارئاً من الخارج... تهزك نفحاته القومية وكلمته القوية، ويذهلك الثراء في المعطيات والمعلومات، والصخب الملحمي الذي يبقى هادراً في الكتاب بعد أن أهدرته- بامتياز- المرويات المبتذلة للتاريخ. في الختام لنتعرف مع العظيم سعاده بأن التاريخ هو "المحكمة العليا" وأن من أتعس حالات هذه الأمة أنها تجهل تاريخها... لنتعرف بأن قلائل هم الذين يوقظون فينا حس التاريخ ويشدوننا إليه تراثاً وحضوراً وفلسفةً وبصمات وتفاصيل.. نادرون هم هؤلاء حقاً، وأندر منهم نموذج مؤلفي الرواية التاريخية الذين لا يرون أنفسهم معنيين إلا بكتابات من سوية "حفيد النسور" و"أسد بابل"، روايتيّ نواف حردان الخالدتين
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |