إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

موت التعرجات الجميلة

أحمد حسين

نسخة للطباعة 2011-04-24

النهر الإبدي الذي كانت تتبادله الضفاف

وتتناوب سواحله الغابات

يقطع الأن بلاد الهنود الحمر

كحبل مشدود من طرفيه

يتوتر فيه الماء

متجها إلى البحر

كرمية صياد ماهر.

هجرته التعرجات

صانعة الصدف الجميلة،

كأن الإيدي الخفية للعبث

أدركها الندم

لأن كل الصدف الساحرة

التي أطلقتها

تحولت إلى هباء.

الكوخ الذهبي كان شبحا،

والهندية الجميلة

التي كانت تلون الضفاف بابتساماتها،

تطلق النسائم المعطرة على العابرين،

وتزف أساطير السمك الملون في القاع،

تحولت إلى عجوز من الإسمنت.

إكتسح الضباب

غموض الضوء الأخضر

فتحت الأشجار خلواتها للناظرين

وفقد الهندي العاشق

مخدعه السريّ

بين النسائم المبللة بالعطور

تحت سماء خضراء

تتدلى سحبها الملونة كالأثداء

لترضع العشب.

تبعثرت الغاية كباقة من الأزهار

ولم يبق من الفصول سوى الخريف

صانع الجنازة.

في ساعات الصباح اللينة

التي ما زالت أنامل النعاس

تشد اجفانها الذابلة

تهرع الأصوات من الغابات المعطلة

كأنها عربات من الصفيح

محملة بالضجيج.

يجمع الصمت أشلاءه ويهرب إلى الماء

كملاءة مزقتها العاصفة :

هؤلاء الحوذيون المتوحشون

يقرعون التراب بأحذية من الحديد

من أين أتوا ؟

هل نسيت الغابات طقوسها المقدسة

حينما تعصر الشمس ضوءها صباحا

على ملابس الشجر المبتلة

فيهرب الندى

حاملا معه استغاثات العبير

إلى نافذة الساحرة

وشال من النغمات الغامضة

بخيوط نسجتها المناقير ورفيف الأجنحة

على تنهدات الأوراق التي تعشق البراعم،

كأنه نهر من الموسيقى

يعلقه الهواء فوق مسيرة الماء

قداسا لرحلته المجيدة.

حين تدوس شمس الخريف

بأقدامها الثقيلة على العشب

يحضر الضجر متسللا كالغبار

يجلس على الضفة الرمادية

يقصف اعواد الوقت اليابسة

ويلقيها في الماء :

أين ذهب الهنود مقلدو النسور

بوجوههم المشفرة كالتمائم

وأسما ئهم الصاخبة كالشلالات

مكسوة بصهيل الخيل

وفراء الدببة

ورائحة البوفالو،

تقتحم جسد الكينونة الكسولة

كأنها السهام المجنحة

حاملة رسائلها الشديدة اللهجة

إلى أعداء القبيلة ؟

لم تعد نوافذ الماء

تفتح صباحا على اليابسة

ليس هناك ما يُري الآن،

البيوت المدببة

المقلوبة على الأطفال،

قذفتها الألهة الشريرة

بالصخور التي أحضرتها من البحر،

والرائحة الكريهة

التي أحضرها الهندي الأبيض

تثقل على براءة النسمات

فلم تعد تاتي إلا نادرا.

لم يعد للنهر أصدقاء

في البلاد التي مزقتها الشوارع المعبدة.

بعيدا عن النهر

تحت شجرة

لم تعد تذكر طوطمها الأخير،

يجلس الأخيرون

من الذين رفضوا تعلم الضحك

حتى الآن،

يعلق الأطفال الحمر

طواطم كاثوليكية وأرثوذكسية سوداء

على أغصان الشجرة

صنعوها بأنفسهم.

يشيرون إلى الرجل المصلوب

الذي افتدى بدمه

خطايا الهنود الأوائل،

ولكن الرجال يرفضون الضحك،

لأن القصيدة لا تستطيع

تصور هندي يضحك.

وأنا كاتب هذه السطور

أتمنى لو رايت هنديا أحمر

لأري أولئك الناس

الذين كانوا يرتدون دمائهم

فوق بشرتهم البيضاء

لآنهم لم يكونوا يحبون لون الضحك.

ولكنني سأواصل القصيدة

لأن هنودا كثيرين بألوان متعددة

في بلاد أخرى

يهربون الآن عن ضفاف الماء الأسود

إلى الغابات والكهوف الجبلية.

الكاوبوي الشديد البياض

يركب الأن حصانه الحديدي الطائر

ويطارد الهنود الملونين

في كل بقاع الأرض.

لم يعد للون أية قيمة

ألشهوة تصنع اللون.

رغما عني تدخلني القصيدة

لم يعد هناك من يعبأ بالشعر،

ولكن علي القصيدة

أن تبلغ رسالتها كما تظن

تمسك بتلابيب الشعراء

الذين قتل الضباب الملون

شوارعهم النحيلة

وأخفى عناوين حبيباتهم

وتهمس :

غنوا !

هذه الأرض لا تحب البكاء.

لا !

لن أغني أيتها القصيدة الماكرة !

لست شاعرا لقبح العالم.

أنا شاعر لأجمل النساء على الأرض.

ولدتني من حبي على كبرياء حزنها الكرملي.

سأمسك بتلابيب هذا العالم الأمريكي

وأبصق في وجهه قبل أن أذهب

فهذه هي قصيدتي الأخيرة.

أمريكا

حديقة الدم المسفوح عبثا

صدفة الغرق

مصنع الثعابين والقتلة والقتلى

حفارة قبر العالم ومرضعة الشياطين.

أمريكا شغف الموت بالأحياء

خائنة السماء والأرض.

من يحب أمريكا لا يحب أحدا.

أيها الهندي النائم في مزولة الدم

أنت آخر رسائل الحب في الأرض

أرسلك إلى حبيبتي.

أيها النهر المتكسر في أضلاع البشر

وخشب الغابات

والأنهار البعيدة

وقصائد الحب الأخيرة

أنا أنت.



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024