ملاحـم جـورج شكـور فـي ضـوء طبيـعة الشعـر الملحـمي نشر الدكتور عمر الطبّاع في جريدة الأنوار، بتاريخ 14/04/2011 دراسة قيّمة عن " ملاحم جورج شكور في ضوء طبيعة الشعر الملحمي ". بدأها بشرح مسهب عن "ماهية الملحمة"، عن "مراحل تكوّن الملحمة الحقيقية"، "أركان الملحمة"، "الملحمة عند العرب" وصولاً الى ملاحم الشاعر جورج شكور. لفائدة الإطلاع، نعمم ما أورده الدكتور الطبّاع في القسم الأخير من دراسته عن الشاعر الصديق. لا بدّ قبل أن نرافق ملاحم الشاعر جورج شكور من الكلام، وفي حدود معيّنة، على ماهية الملحمة:
ماهية الملحمة
الشعر الملحمي، فن من فنون الأدب قوامه القصص البطولي، والاعمال العظيمة الخارقة والسرد الطويل المتشعب، وهو حكاية شعب في نضاله وفي تقدمه عبر الحياة المتطورة، وتاريخ لأمجاده وسجل لوقائعه الكبرى ومآثره بين الشعوب. إنه يعنى بالإنسان كجماعة لا كفرد، ويهتم بالعمل الكلي، على نقيض ما يفعل الشعر الغنائي. وهو يمجد الأمة ويمتدح فضائلها ويتغنى بما يصدر عنها من عمل، مخالفاً بذلك حقيقة الشعر المسرحي أيضاً، لأن قوام المسرحية نقد المجتمع وإبراز عيوبه وتبيان المتناقضات فيه، وإظهار خيره وشره معاً، للموازنة بينهما، بغية الخلوص الى محاربة الشر والقضاء على المعايب.
والشعر الملحمي جماعي المنطلق، بمعنى أن البدء به إنما يسير من الجماعة نحو الفرد، أو قل إن الفرد فيه يذوب في بوتقة الجماعة، وخاصة ذاتية الشاعر إذ تراه متوارياً عن الانظار، يسرد لك أخبار الآخرين، ويتتبع خطاهم، وهو بعيد عنهم، ويترك للأبطال أن يتصرفوا، في حين أن الشاعر الغنائي لا يتخلى عن ذاته، ولا ينطلق إلا منها، فهو ينظر الى الآخرين من خلالها على عكس الشعر الملحمي تماماً.
ولكل هذه الإعتبارات كان الشعر الملحمي من أقدم الفنون الشعرية واسبقها الى الظهور. هو شعر الفطرة والسذاجة في بعض معانيهما، نشأ في طفولات الشعوب، وامتزج بألوان تفكيرها البدائي، وعبر عن حياتها التي لم تكن قد تعقدت بعد، ولم تكن قد داخلتها معطيات التمدن والرقي فجاء مشبعاً بالأساطير والخرافات، التي لا نصيب لها من حقيقة الواقع سوى نزر يسير.
مراحل تكوّن الملحمة الحقيقية
لم يكن الشعر الحقيقي ليستوي في الوجود فناً مكتمل الأجزاء متوافر الشروط دفعة واحدة. وإنه لألزم لقانون التطور أن تكون هنالك مراحل زمنية غير قصيرة، قد رافقت تطور الشعر الملحمي حتى غدا ذا قواعد وأصول. على أن أوضح هذه المراحل ثلاث، تكوّن إبانها جوهر الشعر الملحمي هي: المرحلة الدينية، والمرحلة البطولية، والمرحلة الأدبية:
1- أما المرحلة الدينية، فالمرجح أنها تعود الى الزمن الذي لم يكن فيه الأبطال البشريون قد ظهروا بعد. وإنما كانت البطولة كلها متمثلة في آلهة الخير، والشمس هي التي تمثل الخير والنور، توزعت قواها على عدد من الآلهة تزايد يوماً بعد يوم كما توزعت قوى الشر على عناصر متعددة كالشياطين والمردة والتنانين والعواصف والزلازل وما الى ذلك.
2- وأما المرحلة البطولية فتبدأ يوم عمد الإنسان الى تمثيل الأعمال الإلهية بأعمال بشرية. كانت القبائل البدائية تتنازع فيما بينها من أجل مقومات الحياة، فنشأت عن ذلك فكرة الشخصية الجماعية للقبيلة والمصالح المشتركة بين أفرادها. وفي أثناء هذه الحروب تميز رجال بشجاعتهم، وحكمتهم، ووقائعهم الكبرى، ودهائهم في المعارك، فعمدت مخيلة الأقوام الى التغني بالاساطير وتضاف اليها أساطير أمم أخرى، لتكون منها معطيات ملحمية تنمو نموّاً غير محدود عبر العصور الطويلة فلا يبقى للملاحم سوى مرحلتها الثالثة النهائية حتى تستوي أسفاراً قومية رائعة، وهي ما سميناه المرحلة الأدبية، وهي تبدأ عادة بإستقرار الأمة، وتنظيم شؤونها في كيان موحد، وكلّ قومي وطني. إذ ذاك، يصرف الشعراء همهم الى العناية بجمع الشتات الذي يتكون منه التراث الملحمي، حتى إذا قيض له شاعر عبقري جمعه في كل ملحمي متناسق، متماسك الأجزاء مكتمل الشروط.
اركان الملحمة
من الطبيعي أن يكون لفن الملحمة كما هي الحال في سائر الفنون الأدبية أركان أو قواعد أو أصول ينبغي أن تراعى لدى كل صنيع ملحمي. وهذه القواعد المستمدة من الملاحم الاصلية القديمة هي كما يلي:
1- موضوع الملحمة: يدور هذا الموضوع عادة حول أحداث قوميّة جلّى، تبدأ بوقوع القوم في مشكلة يستعصي حلها، ولكنهم بديل أن ينخذلوا ويسلموا بالأمر الواقع تأبى عليهم كرامتهم إلا أن ينتصروا عليها، لهذا تراهم يتكتلون حول زعمائهم وأبطالهم ويتعاونون يداً واحدة ليدفعوا عنهم ذلك الخطب الوبيل، ويغسلوا العار الذي نزل بهم.
وهكذا يبدو جلياً أن الشعر الملحمي؛ كالشعر المسرحي يقوم على الصراع؛ وكنه في الملاحم صراع بين أمتين، كل منهما تعمل بمجموعها لحماية نفسها من غوائل العدو. ف الصراع الملحمي صراع من أجل الحياة وكل من الطرفين له الحق في الدفاع عن وجوده.
2- عالم الملاحم: هو عالم خاص، يمتاز من عوالم الفنون الأدبية الأخرى بكثير من الخصائص، ومن هذه الخصائص كون المجتمعات في الملحمة الأصلية بدائية تؤمن بالخرافات والأساطير وتسند ما تعجز عنه من أعمال الى قوى جبارة بشرية إلهية في آن معاً، هي من صنع الخيال.
3- البطولة في الملحمة: الملحمة في أساسها شعر بطولي يدور حول أحداث جلى يُبتلى بها القوم؛ فيعانون منها كثيراً، الى أن يظهر بينهم رجل منقذ، وهو البطل في الملحمة رجل متفوق جداً شديد البأس عظيم الهيبة، يمثل العدالة الإلهية وتتجسد فيه قوى الخير. حول أعماله تدور أحاديث الناس، وبه يعتصمون، يتحدى الطبيعة وعناصرها ... وهو فوق مستوى الإنسانية، كثيراً ما يكون نصف إله، يقرر مصائر الشعوب وفقاً لرغباتها وآمالها الكبرى ومن هؤلاء الأبطال اخيل - راما - رولان - هكتور - رستم - سيغورد ... الخ1.
4- العنصر الديني: العلاقة بين الملحمة والدين علاقة وثقى، تتعدى حدود التأثر المتبادل، إلى كون الملحمة وليدة التفكير الديني، وكون الدين يشكل العنصر الأبرز في موضوع الملحمة الكلاسيكية.
5- الخوارق: هي أساس في كل ملحمة قد استكملت عناصرها الفنية؛ يلجأ اليها خيال الشعوب البدائية بفعل العجز الذي يشعر به الانسان تجاه مشكلات كبرى تعترض حياته، وتجاه أمور يشاهدها فلا يفقه لها تفسيراً، أو قوى غريبة لا يدرك كنهها ولا يدري من أمرها شيئاً، فالخوارق الملحمية إذاً هي حلم الأمة الذي يصعب تحققه واقعياً فتسعى الى تحقيقه في الخيال.
6- العنصر القصصي: الاصل في شعر الملحمة ان يكون قصصياً، يعني بسرد حادثة، أو سلسلة من الحوادث والوقائع بشكل إخباري. والأغلب في الملاحم ان تكون الاحداث ذات أصل في التاريخ ولكن مخيلة الشعب تضخمها، وتمزج فيها بين الحقيقة والاسطورة.
7- صورة الشعب: في كل ملحمة صورة للشعب، بأخلاقه، وعاداته، وتقاليده، ونظمه، وحاجاته، وفنونه وعلومه، والوان الثقافة فيه، وطرق المعيشة، وكل ما يتضافر في سبيل تكوين لوحة كاملة لهذا الشعب، في مرحلة معينة من مراحل حياته.
8- الموضوعية: ومن مزايا الأدب الملحمي انه موضوعي يتحدث فيه الشاعر عن أبطال بعيدين عن ذاته، فيعرض أحداثاً قد جرت لهم، ومحناً قاسية قد اجتازوها، ويصور حياتهم أو أعمالهم وعواطفهم وأهاواءهم وكل ما يتصل بهم تصويراً موضوعياً. ولا تظن ان الملحمة تخفي كل أثر من شخصية الشاعر، أو تقضي على كل ظاهرة فردية له؛ فالواقع أن هنالك مجالات عديدة في الملحمة تبرز فيها العناصر الشخصية الخاصة بالشعراء، وأن أنيّة الشاعر التي تتوارى وراء الأبطال، تظهر في تنظيم الملحمة. وأكبر الظن ان الملاحم الطبيعية لم تصلنا مكتوبة إلا بعد أن مر عليها زمن طويل كانت تتناقل ابانه بطريق الرواية والحفظ، حتى يسّر لها في يوم من الأيام من يدونها، بعد أن مرّت قرون كانت خلالها تنمو وتحاك الاساطير حولها.
9- الاسلوب الملحمي: اسلوب الملحمة هو أسلوب القوة والبطولة الرائعة، ومصدر هذه القوة ما يأتيه البطل من أعمال عظمى، وما تنفعل به نفوس الجماعات ونفوس الشعراء من عواطف جياشة، فمن وصف معركة وسلاح، إلى حث على القتال، وتحدّ لوجه الموت، الى وصف وشجاعة وبلاء في الحروب، الى فخر بالإنتصار، وتغنّ بنشوته، الى ندب للبطولات وصبر على الشدائد، وامتداح لكبار القواد، الى هجاء للأعداء، ووصف للخوارق، إلى تغنّ بالفضائل السامية الخ...
الملحمة عند العرب
ومن المفيد أن نشير إلى أنّ العرب في تاريخهم القديم قبل الإسلام، عاشوا في مجتمع قبلي متفاخر، ولم يشعروا بقومية تجمعهم إلا في أواخر الجاهلية، بعد موقعة ذي قار كما هو مشهور والغرض من هذه الإشارة القول بأن طبيعة بيئتهم ومجتمعهم لم تكن لتتوفر فيها مقوّمات الصنيع الملحمي، وخيالهم كان قاصراً محدود الأفق، ولذا ذهب النقاد إلى أن شعرهم قد تتوفر فيه بعض المظاهر الملحمية، وليس يصلح للنفس الملحمي.
صحيح أنه غني بالبطولات الفردية وقصص الفرسان، كما في سيرة عنترة إلا أنّه بعيد عما في الملاحم الطبيعية كالإلياذة وشاهنامة الفردوسي من الخوارق والوقائع العظيمة.
وتوالت عصور الأدب العربي، وشعرهم على هذه الوتيرة من الغنائية والفردية، بوجه عام، ولولا سليمان البستاني وتعريبه الإلياذة، ولولا ملحمة الغدير لبولس سلامة، لظلّ أدبنا يفتقر الى هذا اللون من النظم.
جورج شكور
ومن الأهمية بمكان أن شاعرنا المعاصر جورج شكور هو صاحب الفضل في تجاوز واقع تاريخنا الشعري إذ طلع علينا في الحقبة الأخيرة، وعلى نطاق أوسع مما في ملحمة الغدير، بالعديد من النماذج الملحمية، كانت موضع الإحتفال في مناسبات أدبية مشهودة، وهذه النماذج جميعاً مستوحاة من سيرة الأئمة والسيرة النبوية، عنينا بهذا ملحمة الإمام حسين، وملحمة الإمام عليّ، وملحمة الرسول والأخيرة وحدها تتجاوز الخمسمائة بيت جامعة لأكثر التفاعيل والأعاريض في أوزان الخليل, في إيقاعات غنية بكل رويّ، بعيدة عن الرتابة والصنعة، تعانقها عاطفة جيّاشة مغرنة بكل ما هو صادق من المعطيات الدينية.
وقد كان عرض الشاعر شكور للسير النبوية، عرضاً لواقع السيرة كما رواها مؤرخو هذا اللون من القصص الديني، وقد اعتمد في ذلك على عدد من المصادر الموثوقة من مثل الرحيق المختوم، وحياة محمد لمحمد حسنين هيكل ومعروف أن مثل هذه المصادر مستقاة أصلاً من القرآن والسيرة النبوية لإبن هشام، وقد أحاط الشاعر بتاريخ السيرة والأحداث التي رافقتها بمنتهى الدقة والأصالة وتحقق من كل حادثة أو خبر وأشفعه بالمصدر المؤيد. حتى غدت ملحمة الرسول كما ساقها جامعة للقصص الديني، وتاريخ الإسلام والحديث النبويّ، متضمنة ما في السيرة من خوارق رافقت نشأة النبي، وزمن النبوة ومن مولده صلعم حتى وفاته، لا تجد فيها عوجاً ولا أمتاً، وقد ذهل الذين تتبعوا تسلسل هذه الملحمة إلى أمانة الشاعر في سرد الوقائع، وإلى إعجاز شعره لإحاطته بتلك الوقائع جميعاً وهي في مجموعها تكاد تكون تاريخاً وجيزاً لظهور الإسلام وحياة الرسول، وغزواته وعبقريته ...، تضمنها نحو ست وستين مقطوعة شعرية متفاوتة الأطوال بين ست أبيات وعشرين بيتاً وهي في مجموعها نحو من خمسمائة بيت من أبيات الشعر ... كما حدّد عروضه وأبحره الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهي بعيدة عن الحشو، والإسهاب غير المنطقي، والهلهلة تواكبها الطلاوة، والإيقاع، وحلاوة الجرس، والإيجاز البليغ، وأي إيجاز أروع من أن تقف على الحقيقة من حياة الرسول، في نحو مئة وسبعين صفحة، فتتعرف الى مولده، استسقائه الغمام ورعاية الأغنام، والتقائه بالراهب بحيرا وتحكيمه في بناء الكعبة، وتعبّده في حراء، ونزول الوحي وزواجه بخديجة، وتقبّل الوحي، والدعوة سّراً الى الإسلام، ورفضه كل مهادنة مع قريش، وإسلام حمزة وعمر، وتهديد قريش، وهجرة صحبه الى الحبشة، ومحاولة إغتياله، وهكذا إلى هجرته إلى المدينة، وغزوة بدر، ومعركة أحد وفتح مكة ...
صحيح أن ملحمة الرسول لجورج شكور ليست بحجم الإلياذة والأوديسة وانيادة الرومان وانشودة رولان، إلا أنها وهي من نتاج العصر الحديث، عصر التكنولوجيا وارتياد الفضاء، لا تقلّ في المضمون والأسلوب عمّا في الملاحم من مواقف القوّة والبطولة ولمحات الخيال الآسر، والسرد الشيّق، فهي ملحمة تاريخية بطوليّة تضاف الى ماضي شعرنا القديم والحديث من أدب الفروسية وأجوائه في الكرّ والفرّ والأقوام والأحجام والتضحيات الجسام.
إني أهيب بأبناء الضاد، وكل ذي اهتمام بالفكر العربي، وتاريخ الإسلام أن يعكف على ملاحم الشاعر والناقد المؤرّخ جورج شكور التي أومأنا اليها، وبوجه خاص ملحمة الرسول دارساً مثقفاً متحرياً ما في السيرة النبوية من معالم العظمة، وما في شعر جورج شكّور من طاقة فريدة على استيعاب حياة الكبار وتاريخ كبراء الرجالات والقادة الأشاوس بكل ما فيها من عِبَر الأيّام وعِظاتها، ليتلمسوا عطاء الشاعرية وموهبة الشعراء الجديرين بالألقاب التي لا تليق إلا بالأمراء منهم والنوابغ والذين يخطون بما في شعرهم من ذوب القلوب وروعة الإبداع، وإيحاء عرائس الشعر والأدب، مما يؤهلهم أن يلجوا بمواكبهم إلى أروقة الخالدين.
(1) أخيل: بطل الإلياذة، هكطور في الإلياذة: بطل طروادة وخصم أخيل، راما: بطل الرامايانا، رستم: بطل الشاهنامه، رولان: بطل أنشودة رولان، سيغورد: أو سيغفريد بطل النبلونجن.
|