شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1942-11-16
 

الصراع الفكري في الأدب السوري : طريق الفكر السوري ج. 6 (1)

أنطون سعادة

إذا قست شفيق معلوف بالمقياس الذي وضعته للشاعر وهو"الشاعر هو الذي يعني بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيز من فكر أو شعور أو مادة" وجدته شاعرا شاعرا. فهو ارتقى بموضوعه إلى أعلى علوه ضمن حيز الفكر والشعور الذي لازمه، وهو حيز نظرة قصيرة، قديمة، جامدة.

إن فهم الحب كما ورد في "عبقر" ليس نظرة خاصة بشفيق معلوف، بل مشتركة بين جميع شعراء اللغة العربية الذين ورثوا خطط الأدب العربي. فالحب المادي المتخذ شكلا في اللذائذ الجسدية هو المطلب الأعلى في الأدب العربي كله. ضمن هذا الحيز الروحي نشأ شعراء اللغة العربية وضمنه أنشأ شفيق معلوف "عبقر" لتكون نصبا فخما، جميلا لنظرة الحياة الباطلة الفانية، فأجاد اجادة كبيرة وأبدع التصور والتصوير. فذهب في فن الشعر إلى أبعد ما سمح له حيز النظرة إلى الحياة والكون والفن المذكور آنفا. وهذا شاهد آخر على أنه لا يمكن رفع مستوى الأدب إلا باعتناق نظرة إلى الحياة أساسية جديدة، توحي عالما جديدا من الفهم والمطالب والغايات وليس كما يقول طه حسين بزيادة الاطلاع في الأدب القديم وفي الآداب الأجنبية القديمة التي أنشأت الأدب الأجنبي الحديث. فشفيق معلوف يكشف في "عبقر" عن اتصال وثيق بالأدب العربي القديم وبشؤون النفسية العربية وخيالاتها ومثلها. وقد أحدث في القصيدة المذكورة أشكالا هي غاية في الإبداع والابتكار في الأسلوب وإذا كان المقصود من تجديد الأدب ارتقاء أساليبه واحداث أنواع من المجاز جديدة فقط، مع بقاء النظرة الى الحياة على حالها، "فعبقر" تعتبر تجديداً هاماً. ولكني أرى المقصود من طلب أدب جديد هو الوصول عن طريقه إلى فهم جديد للحياة يرفع الأنفس إلى مستوى أعلى ويمكنها من إدراك حيز جديد من النظر النفسي مشتمل على مثل عليا جديدة تتبلور فيها أماني الحياة وأشواقها المنبعثة من خصائص نفسيتها الأصلية، وإلا فكل تجديد شكلي لا يحمل تجديدا في الأساس هو من قبيل اللهو الباطل واللذات الزائلة التي لا بقاء ولا استمرار لها إلا استمرار تكرارها الممل.

إن في "عبقر" ابتكارا جميلا في الشكل او الأسلوب، ولكن هل حملت الى الأنفس اتجاهاً جديداً، اعلى مطلباً وأرقى غاية وأسمى نهاية؟ كلا.

قلت فيما سبق ان التناقض بين غاية "تمثيل العصر"، التي طلبها كبار أدباء العصر الخالي من نظرة جديدة إلى الحياة، والحاجة إلى التجديد، هو في بعد الادباء الذين عالجوا الموضوع حتى الآن عن صلبه وعن قضاياه الكبرى التي ليست هي قضايا أدبية بحت.

ان في سورية حاجة الى التجديد الأدبي، ليس لمجرد التجديد وتغيير الأساليب وإظهار أشباح جديدة، بل للوصول إلى التعبير عن نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة، قادرة على استيعاب المطالب والمطامح النفسية المنطبقة على خطط النفس السورية. كل تجديد غير هذا التجديد يزيد في هيام النفس السورية وظلمتها التي اكتنفتها منذ شذت عن محورها الأصلي بعامل الفتوحات البربرية، التي قطعت بين أدب سورية وخططها النفسية. وان من شروط النظرة الجديدة إلى الحياة والكون، الصالحة لتقدم الحياة الإنسانية وارتقائها، أن تكون نظرة ذات "أصل" وإلا كانت عارضا من العوارض التي تلغي الشخصية والنفسية وخصائصهما فتضل النفس وتحار ولا تدري ما هي حقيقتها ولا ما هي أوهامها كقول شاعر "عبقر":

ما الفرق في نومي وفي يقظتي *** وكل ما في يقظاتي رؤى

لا تجد النفس السورية شيئا من خصائصها وأصولها في ابتكارات " عبقر" الشعرية المشتملة على طائفة من الخرافات العربية الخالية من المغزى الفلسفي ومن العلاقات بمجرى الفكر والشعور الإنسانيين الراقيين كما ترسمه الأساطير السورية التي جاءت النظرة السورية القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن تزيل الطبقات التي تراكمت عليها ودفنتها، وتوجد الاستمرار الفلسفي بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد. ويظهر الفرق العظيم في النتائج الروحية بين الاهتمام بالخرافات والمواضيع الغريبة، بدون نظرة واضحة، أساسية، إلى الحياة ولكون والفن، والعناية بالأساطير الأصلية ذات المغزى الفلسفي في الوجود الإنساني، بوعي لنظرة أساسية إلى الحياة والكون والفن، من إيراد بعض الأمثلة:

ليست قصة أدون أو أدونيس مجهولة. وكل متأمل فيها يجد لها مغزى وعلاقة وثيقة بمجرى الحياة. وهذه ليست القصة الأسطورية الوحيدة. ففي اكتشاف رأس شمرا، قرب اللاذقية، التي ورد ذكرها فوق، ظهرت حقائق رائعة عن عظمة التخيل السوري والتفكير السوري في الحياة وقضاياها الكبرى. وهذه الحقائق لا تعلن شيئا أقل من هذا الواقع: أن أهم الأساطير اليونانية وأهم قصص اليهود الأساسية المثبتة في التوراة مأخوذة عن أصول سورية كشف عن قسم كبير منها في روايات وقصائد وجدت في تنقيبات رأس شمرا بين 1929 و 1932 كما كان قد كشف عن قسم هام منها في نينوى وآشور ونمرود وبابل وسواها.

في سنة 1929 اكتشفت بعثة التنقيبات في رأس شمرا، التي رأسها كلود ف.ر. شيفر، شكلا قديما من الحروف الهجائية لم يكن معروفا من قبل. الشكل هو أقدم ما عرف، وهو أيضا فينيقي (كنعاني) إلا أن الحروف ذات خصائص مسمارية. وهذا دليل جديد قاطع على نشوء الحروف الهجائية في سورية التي حاول عدد غير يسير من المؤرخين المغرضين حرمانها من فخر اختراعها. بناء على أهمية هذا الاكتشاف العظيم وما جلاه من الحقائق العلمية الرائعة سأل معهد النقوش في باريس ومتحف اللوفر ودائرة التهذيب العمومي. الفرنسية، بالاشتراك فيما بينها، السيد شيفر، بين سنة 1930 وسنة 1932 قيادة بعثة جديدة إلى رأس شمرا للبحث عن أصول حرفية غير التي اكتشفت أولا وعن بقايا أرخيولوجية. ويقول رئيس البعثة في مقالة عن أعمالها نشرتها مجلة "ناشنل جيوقرافك ماقزين" الأميركانية في عددها الصادر في يوليو 1933: "ان نتائج هذه الحفريات الجديدة فاقت جميع التكهنات وجعلت رأس شمرا من أهم الرسوم الأرخيولوجية في الشرق القديم".

ما يعنينا في هذا الموضوع، من اكتشاف رأس شمرا، هو القصائد والملاحم الرائعة التي تثبت بدون شك أن الشعر الكلاسيكي ابتدأ في سورية وعنه نقل الاقريك الذين تعاونوا هم والرومان على غمط سورية حقها في الإبداع الفني وقيادة الفكر الإنساني. يقول المكتشف:

"لم تكن خطورة أوقاريت (يرجح المكتشف أن رأس شمرا هي التي كانت تعرف في المدونات القديمة المكتشفة في مصر باسم أوقاريت) قائمة على التجارة والسياسة فحسب. ففيها حي مؤلفون وفلاسفة عظام لثلاثة آلاف وثلاث مئة سنة خلت. وقد وجدنا فصولا كاملة من مخلفاتهم في مكتبة الهيكل في رأس شمرا. هم أيضا كتبوا بالعلامات المسمارية للأحرف على ألواح كبيرة فوق المعتاد، قاسمين كتاباتهم إلى أعمدة متعددة.

"كثيرا ما كان يحدث للمؤلف أن لا يقدر تقديرا صحيحا طول الكتاب الآخذ في كتابته فيضيق مجال الفصول الأخيرة. فيضطر إلى تقريب السطور الأخيرة بعضها من بعض كما يفعل الكاتبون العصريون على الآلة الكاتبة حين يستعملون "الفسحة المفردة الدرجة"، وإلى تصغير حروف هذه السطور. وقد تجمع لدينا عدة فصول من مؤلف واحد تزيد على ألف كلمة، ويحتمل أن يكون عدد عبارات المؤلف كله أكثر من ثلاثة آلاف بيت. وهذا المؤلف هو ملحمة بطولية.

"قبل إلياذة هوميروس الخالدة بزمان طويل أنشأ المؤلفون الفينيقيون (الكنعانيون) في أوقاريت الملاحم في مغامرات غريبة لبطل أسطوري يدعى طافن (أو طافون). كان هذا البطل هو المصطفى عند بعض الآلهة الذين كانوا كثرا في دار الآلهة الفينيقية. ونص رأس شمرا المكتشف يروي أنه كان هنالك لا أقل من خمسين إلها وخمس وعشرين الآهة. فلم يكن طافون يقدر أن يتجنب جلب عداوة بعضهم على نفسه بسبب تحيزه في مشاحناتهم. هذه الآلهة الفينيقية تظهر بروح حربية منتقمة وقاسية.

"ايل (أو ال - يعني الإله)، أب الآلهة الكبير جدا، الذي يسميه المؤلف "ملك السوم"، ملك أو مولوخ، أي "ملك السنة" يبذل الجهد عبثاً لحفظ السلام بين ولده وهو، مع ذلك، ليس كلي القدرة، لأنه كثيراً ما يضطر لقبول رغائب زوجته الإلهية عشيرة أو أشرة، الآهة البحر، التي لها سبعون ولدا تفضل بعضهم على بعض. هذا التشخيص هو سبب المشاحنات في مملكة الآلهة.

"المقاوم الأكبر والألد لأيل هو بعل، المستبد منذ ولادته، الطامح إلى الملكية المطلقة. ورواية العراك بين ملك السنة، الشيخ العادل وبعل، هي رواية ذات جاذبية نادرة وغينة بالمواقف المثيرة الشعور. وبعل ينتصر في الأخير، والشباب بكل قسوته وظلمه يغلب حرمة السن. وهذه هي العبرة التي يريد المؤلف إبرازها.

... يتبع

"الزوبعة"، العدد 56، في 16 نوفمبر 1942.



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه