بالطبع، إنّ استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية بما يرمز إليه من إعادة تشكيل السلطة السياسية في لبنان، وانتظام المؤسسات، يشكّل مفصلاً هاماً في الحياة السياسية اللبنانية بعد شغور رئاسي دام أكثر من سنتين، وترك فراغاً كبيراً وثقيلاً في مفاصل الدولة والنظام، وأدّى إلى شللٍ في المؤسسات أرخى بثقله على الحياة السياسية، وعلى حياة وقضايا الناس المعيشية، وأدّى إلى تدهور في نوعية حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ومستواها نتيجة القصور والتجاذبات والمماحكات السياسية التي عطّلت عجلة الاقتصاد والنمو والتطور على المستويات كلّها.
إنّ انتخاب رئيس للبنان سيفتح كوة في جدار الجمود الحاصل، وسيخلق دينامية جديدة ستعيد حتماً خلط الأوراق محلياً، وسيعيد هذا الانتخاب هيكلة الدولة في سياق التأكيد على مرجعيتها في قيادة المرحلة مما سيخلق شبكة أمان وطني ومظلة حماية للكيان في هذه المرحلة التاريخية الصعبة. ووسط هذا الكمّ من «التعقيدات» في المنطقة والجوار، في ظلّ الصراع المتشعّب والمتعدّد الأبعاد في سورية الذي يأخذ أشكالاً مختلفة، ستترك حكماً انعكاساتها سواء السلبية أو الإيجابية منها على لبنان وبكلّ المقاييس.
إنّ وصول العماد ميشال عون الى سدة الرئاسة له دلالات في لحظة إقليمية ودولية حرجة في سياق معطى خارجي متفجّر، ومحلي داخلي يكتنفه الكثير من التعقيدات والتداخلات وحالة من انعدام الوزن السياسي لم تشهده الساحة اللبنانية منذ قيام الكيان حتى تاريخه.
في المعطى الإقليمي، هناك توازنات قوى أفضت إلى هذه النتيجة بانتخاب الجنرال عون لها دلالاتها في تقدّم قوى المقاومة في المنطقة ولا سيما في سورية. وهذا بالضبط ما أدّى إلى حصول تسوية رئاسية لبنانية لم تتضح بعد ملامحها ومضامينها كلّها، خاصةً أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية في لبنان ليست صلاحيات مطلقة، حيث إنّ مركز الحكم الحقيقي في لبنان هو مجلس الوزراء مجتمعاً، ولكن هوية الرئيس تدلّ على اتجاه ومسار سياسي يرتكز على ثوابت العهد ومنها مسألة «المقاومة».
ولعلّ معادلة الجيش والشعب والمقاومة ستصبح أكثر رسوخاً، وهذا ليس تفصيلاً في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الصراع في المنطقة.
بعيداً عن طبيعة النظام السياسي المقفل، والذي تشرنق طائفياً ومذهبياً في السلوك السياسي، وبدل المسار الذي سلكته الأمور بعد الطائف في الاتجاه الذي عزّز الطبيعة الطائفية والمذهبية للكيان، هناك أمل أن يشكل إنجاز الاستحقاق الرئاسي المنصة للانطلاق نحو الدولة المدنية وإنتاج قانون انتخاب على قاعدة النسبية والدائرة الانتخابية الواحدة وخارج القيد الطائفي، بما يحقق التمثيل السياسي الصحيح للقوى السياسية والشعبية في لبنان، وتعزيز مفهوم المؤسسات وآليات الرقابة وترسيخ مفهوم المواطنة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين.
التغيير والإصلاح عنوانان كبيران يفترضان وجود خارطة طريق للعهد الجديد في لبنان تنطلق من واقع ما يُسمّى «إعادة التوازن» إلى الحياة السياسية اللبنانية باتجاه تعزيز البعد المدني المواطني، والانتقال من مفهوم «الشراكة» المرتكزة على توازنات مفترضة طائفية ومذهبية باتجاه مفهوم «الوحدة الوطنية» الحقيقية المرتكزة على تيار شعبي لبناني عريض يستطيع «العهد الجديد» التأسيس عليه في خطوته الأولى المفترضة الجدية على طريق بناء الدولة الحقيقية التي يرنو إليها غالبية اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم.
بالطبع، المهمة ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة إذا ما اقترنت بالتصميم والإرادة والعمل لتحقيق تقدّم في هذا المسار الإصلاحي والتغييري الحقيقي الذي ستكون له مفاعيل مهمة قد تتجاوز الواقع اللبناني إلى المحيط.
باختصار، هذا ما يحلم به كلّ لبناني صادق وشريف، ولكن تبقى العبرة بالأفعال!
|