إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

فخامة العميل

نضال القادري - البناء

نسخة للطباعة 2016-11-29

إقرأ ايضاً


اعترف ابن الرابعة والعشرين بدون تردّد أو خوف. لقد قتلت بشير الجميّل. وصفه بالخائن. اتهمه ببيع البلاد لـ «إسرائيل». قال «القاتل» حبيب الشرتوني: «لقد أُعطِيت المتفجرات من قبل نبيل العلم الرفيق المحامي ، وأسترسل: «أنا حبيب الشرتوني أقرّ وأنا بكامل أهليتي القانونية بأني نفّذت حكم الشعب بحق الخائن بشير الجميّل. أنا لستُ نادماً على ذلك، بل على العكس، إذا أتى مرة أخرى فسوف أقتله، وستصحّ مقولة لكلّ خائن حبيب، وأبشركم أنّ هناك ألف ألف حبيب لكلّ خائن عميل في بلادي».

إنّ انتهاك السيادة، والاحتلال «الإسرائيلي»، واستغلال فائض الوجود الفدائي الفلسطيني في الداخل، وصفقات إنعاش للاقتصاد والسياسة لم تفلح، واستغلال جماعي للكرامة الوطنية، واستباحة العدل الناقص المبتور، وتحوير ساحات الدولة ومفاصل قوتها، وإضاعة مستقبل أجياله التائهة، وانقسام الجيش اللبناني، وتمذهب ألويته، والخوف السوري الدائم من استدامة تفشي الفوضى، وانعدام قرار الدولة المركزي. هذه هي بعض مفاصل مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي في لبنان. ولكن، ماذا يقول قانون العقوبات اللبناني في الجرائم التي تطال أمن الدولة ورموزها وسلطتها؟ إليكم أبرز 4 مواد منه: 273، 274، 275 و 276 . هذه المواد ليست حصراً، هناك بعض المواد الأخرى المعطوفة عليها.

المادة 273: «كلّ لبناني حمل السلاح على لبنان في صفوف العدو عوقب بالإعدام. وبذلك، إنّ كلّ لبناني وإنْ لم ينتم إلى جيش معادٍ، أقدم في زمن الحرب على أعمال عدوان ضدّ لبنان عوقب بالأشغال الشاقة الموقتة، وإنْ يكن قد اكتسب بتجنيده الجنسية الأجنبية».

المادة 274: «كلّ لبناني دسّ الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى مباشرة العدوان على لبنان أو ليوفر لها الوسائل إلى ذلك عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. وإذا أفضى فعله إلى نتيجة عوقب بالإعدام».

المادة 275: «كلّ لبناني دسّ الدسائس لدى العدو أو اتصل ليعاونه بأيّ وجه كان على فوز قواته عوقب بالإعدام».

المادة 276: «يُعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كلّ لبناني أقدم بأيّ وسيلة كانت قصد شلّ الدفاع الوطني، على الإضرار بالمنشآت والمصانع والبواخر والمركبات الهوائية والأدوات والذخائر والأرزاق وسبل المواصلات وبصورة عامة بكلّ الأشياء ذات الطابع العسكري أو المعدّة لاستعمال الجيش أو القوات التابعة له. يُقضى بالإعدام إذا حدث الفعل في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها».

برأينا، إنّ من نفّذ نصوص المواد القانونية أعلاه باسم الشعب اللبناني بكلّ دقة وأمانة وإخلاص وجب تقديره ومنحه أوسمة الشرف من الرتب العالية والاستثنائية. وفي الحالة التي نناقشها، مَن ذا الذي تتوجّب محاكمته؟ فخامة العميل أم «القاتل» المقاوم؟ القصة ببساطة تامة، أنّ أميراً مقامراً بشعبه من أمراء الحرب اللبنانية، جاء بأصدقاء عائلته من «إسرائيل» إلى قلب عاصمته بيروت، لقد قُتل مرة واحدة في قلب مشروعه. وإنّ ارتفاع الأصوات المنادية المتمادية بمحاكمة قاتله «المجرم» لن تغيّر في المعادلة. لقد التصق نصيب العمالة «باب أول» بمن يُسدي عطشها للموت فدخل «القاتل» من الباب الرئيسي لوطنه الأول مقاوماً، والذي اختفى وخفي من الحقيقة الكثير الشهي من التفاصيل. لماذا لم يحاكموا الشرتوني يومَها؟ أجزم، حتى لا يحوّل المحاكمة إلى سياسية وطنية بامتياز، وبالمختصر المفيد إلى قضية رأي عام قومي جامع، فيدين بفعلته وأقواله المرحلة السوداء بكاملها من تاريخ لبنان. ولو فعلوا، ستصيب الإدانة بشظاياها «الإسرائيلية» كلّ الأحزاب المترنّحة والعميلة، وستزيل المؤمنين عن بعض الطوائف والمذاهب البائدة التي رضخت لبندقية الفاشي «أبو صليب مشطوف»، وسترفع الحصار عن سياسيين خضعوا للذلّ والهوان فصوّتوا لفخامة العميل بالاتجاه الذي تمنّى مشغلوه أن يكون عليه في رئاسة الجمهورية إلى أن شاءت أقدار الوطنيين أن تزيحه بالموت الرحيم.

بعض أيتام فخامة العميل، يعتبرون أنّ القتل مهنة وطنية. وهواية قاتلة مارسوها جريمة متمادية بحق بلادهم إلى أن أصابتهم في مقتلهم لاهثين في أحضان الاحتلال اللعين عن فيء من فوق سخونة دباباته القابضة على عنق البرلمان اللبناني وأنفاس نوابه «الناخبين». إنّ «الجريمة» فخر لكلّ من أذلّته حواجز ميليشيات «الأسرلة» وسكتة أصابت قلب المشروع. هي انتقام لكلّ عائلة فرّ منها دم شهيد أو معوق أو جريح، ممن شارك الاحتلال «الإسرائيلي» في إشعال فتائل القبح والجريمة. لقد قالت إحدى أيتام فخامة العميل: «إنّ ميتنا لا يموت». هوذا، ميتكم قد مات. فلا تزعموا أنّ «ميتكم لا يموت»! لقد شبع الميت موتاً، ولن تقوم قيامة لمشروعه الاحتلالي، ولن يجد له رسولاً واحداً، وليس له من شفيع.

إذا كان لنا أن نتصوّر الواقع المرير المقبل لاستباحة الساحة القومية الوطنية سياسياً وإعلامياً وثقافياً المتمثل بالخارج، سنرى تفوّق الفريق الواحد ذاته على نفسه. باختصار، سيتوّج فريق الكذب والنفاق والخداع في تلميع قضايا الفساد والتبعية والعمالة والانحياز للمشغلين! حتماً، هذا سيحصل إذا بقيت ماكينة اختزال القضايا الوطنية تعمل تحت طبقة من الخجل والتملق والتلوّن والخفاء، وتنحو باتجاه مسارات الاستفراد والاستضعاف، وتخضع نفسها للصغائر لاهية بالامتيازات الصغيرة، وفي ظلّ نكرانها لواقع الأحداث الكبرى واستراتيجيات المواجهة الشاملة، تتنازل عن عناوين مهمة بكلّ مفاصلها الأساسية من حياة المقاومة الوطنية والقومية الشاملة. أجزم أنّ الكثير من المشاريع المدعومة خارجياً لتفسيخ بنية المجتمع، وتلميعها بأنواع «البويا» الخارجية، ونفخ بعض ميليشيات الحرب وقواها الهشة بأجود أنواع «السيليكون» و «البوتوكس» لن يجعلها تدخل في نادي الأقوياء. باختصار شديد، لا بدّ من يد مشدودة على زناد البنادق، وعقل يحاور، وإرادة تبني، واستراتيجة تبقي مفاعل القوة شاهقة ناهضة بجباه مرفوعة وعصبية حية وأهداف واضحة. وإنْ كان لا مفرّ من المواجهة، فلنواجه بكرامة وأخلاق، ومعرفة وقوة. في محراب المواجهة لا أنانية، ولا شخصانية، كلنا جماعة واحدة، وقدر الحق أن ينتصر كاملاً، ولو تأخر فخير له أن يأتي مولوداً واحداً، نرعاه بلا تشويه أو ضجة أو أهازيج. وإنْ تأجلت بعض جولات الحق لأسباب نعرفها ويجهلها أعداؤنا الخارجيون والداخليون، ستكون المواجهة متفوّقة بكلّ عناصرها. لا خوف بعدها على أوطان بنوها قبلنا من السكر تذوب تحت سماء ساطعة شمسها التموزية، تواقة لرؤى الخالدين.

حبيب الشرتوني! إنّ مسرحية محاكمتك بطريقة غيابية تزامنت مع عيد استقلال لبنان عن استعمار فرنسي لا يختلف عنه احتلال «إسرائيلي». إنّ سلطة الدولة فالتة من عقالها، وكلّ شخوصها يتقافزون على المقابر لتمجيد «أبطال» ذكرى الأرزة التى نخرتها العمالة وأيتامها من الشهود الزور بزيف كثير من التشويه والتراكم الظالم، وإمعان في اختصار مهين للتاريخ، وقصّ ما يحلو منه، وتلزيق ما تيسّر به، ونفخ وجهه بمساحيق الثرثرة، و «ميكياجات» الأمر الواقع، ودسّ وجبات متتالية من أكاذيب الإعلام حتى تغمر وجه القتيل كله، وتمحو من تاريخة عاراً أصابنا في الصميم، وتوشم ضلال مرحلة سوداء بالفرح المؤجّل، وتمرغ بالماء الملوّن بعض الوجوه لإخفاء أوحال «التهويد». المحاكمة أمام المجلس العدلي، بصورة غيابية، هي تلميع لصورة فخامة العميل الذي قضت البطولة على أحلامه الفاشية. المحاكمة تجميل لخيانة العميل الفاضحة، ولفعلته الشنيعة، وخيانته لتطلعات شعبه! المحاكمة شهادة حياة للبطل الذي خطط، وللبطل الذي نفذ، ودفع في شرايين قوميته نبضاً إضافياً، وسار في نهضته على نهج مقاومة ناهضة شاهقة ملتزمة بصحة العقيدة التي تفعل لتغيّر وجه التاريخ. ربما تجوز المحاكمة لهذا النظام اللبناني الذي حكم بالإبرام على واحدة من صداقاتة القديمة بأنّ «الأسرلة» هي دائماً خيار الفاشلين. هذا النظام الذي لم يجرؤ لتاريخه على إنصاف أنطون سعاده من مظلومية أسقطت عارها على محاكم العدل، فلم تعد صفحته الأولى ممهورة بقول: «العدل أساس الملك». الإدانة وحدها لا تكفي. القليل من العيب يكفي، وكذلك القليل من العار قبل كلّ هذا الانتحار.

بعد كلّ ما تقدّم، ذات يوم سُئل الإمام علي بن أبي طالب، ما يفسد أمر القوم؟ فقال ثلاثة: «وضع الصغير مكان الكبير. وضع الجاهل مكان العالم. وضع التابع في القيادة». المعرفة هي التزام قضايا الأمة الحية بقوة القول والعمل، فكلّ الويل لأمة سيوفها بيد جبنائها، وصغارها ولاتها. ولأننا ندرك أنّ «الشعب مصدر السلطات»، نحن لسنا نعاجاً إذا ما هوجمنا، فلم نردْ لأنفسنا أن نحيا بين من يصبحون على جمهورية «الموز» المحلّى بنكهة العمالة! وأختم بقول المفكر أنطون سعاده: «إنّ العبد الذليل لا يمكنه أن يمثل أمة حرة لأنه يُذلها». لقد ارتضينا لأنفسنا أن نترفّع عن صفّ العبيد. حيَّ على خير العمل. قضي الأمر، واقتضى التنويه.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024