إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مدخل الى الفلسفة القومية الاجتماعية

يوسف المسمار

نسخة للطباعة 2018-11-27

إقرأ ايضاً


مما لا شـك فـيـه أن وراء كــل بحـث فكـري غايـة . وغـايـة المـفـكـر هي إكتـشاف المـوجـودات والأشــيـاء والنواميس المؤدية الى طريق الحقيقة أملاً بالـوصول الى تحقيق الإرتياح النـفسي الـذي يُـولد الإطمئـنان والأمـان ويطرد عوامل القلق ، ويعالج أسباب الحيـرة التي تـراود العقل والفكر وتتحكم بالمشاعر والأحاسيس .

ومن الطبيعي أنه بإكتشاف طريق الحقيقة يتخلص المـرء من حيرة تراوده ، ويخـرج من دوامـة الشــك التي تزعزع تفكيره ، وينتقل من حالة الغموض والإبهام المربكة الى حال من ا لوضوح وا لجلاء مطمئـِنة .

لكـل ماتـقـدم . نـجـد أنـفسنا ملـزمـيـن باتباع منهج سـوي واضـح يساعـدنا على إكـتـشاف نقطة ا لبداية ، أو قاعـدة الإنطلاق ،إذا صح ا لتعبيـر تـتيح لنا أن نبـدأ بـداية سليمة ذات أساس سـليم ، ننطلق منها بـوعي وفهـم وتصمـيم باتجاه مـدخل الفلســفة المجتمعـية التي نحـن بصـدد التعـريــف بـها والتعـرف اليها ، وا لتي نـرى فيها أفـضل وسيلة لإنقـاذ مجتمعـنا مما يتخبط فيه من الـويـلات والمآسي والمعوقات والأمراض الإجتماعية وا لنفسية.....

وهـذا لا يمكن الـوصول اليه إلا باعـتـماد وإتـباع نهـج عـلمي معرفي وعـملي بـعـيـد عن الأهـــواء والآراء الإعـتـباطـيـة ، والـتـصـورات الـذهـنـية المـريـضـة ، والتكهنات والإستـذواقات والإستـنسابات التي لا تؤدي في النهاية إلا الى التيه والضلال والغموض.

المعرفة أم جميع الحقائق

يُؤثرعن الفيلسوف زينون الرواقي أنه قـال : " إن لنا لساناً واحدا وأذنين ". ومن هـذا نفهم أن علينا أن نســـمع أكـثـر مما نتكلم. وقال أيضا : " إن الفـلاسفة لا يـُجـذبون إلا َّ من آذانهم " .

يستـفـاد مـن هـذا الكلام الحكـيـم أن لأدوات ووســائـل المعـرفة اولـويــات ومراتب وبديهيات . فلا يُقدّم القول على حساب السـمع . ولا يـؤثـرالسمع على حســاب الرؤية والنظر . ولا تُستبـدل حاسـة الـذوق بحاسـة الشــم. ولاحاسة الشــم بحاسـة اللمس . كـمـا لا يليق بنا أن نتكلم حين يتطلب منا أن نصمت ونسمع . وأن لا نصمت في الوقت الذي ينبغي عـليـنا فـيه أن ننطق ونـتـكـلم . وأن لا نتهرب من مواجهة الأمور حين يستلزم منا أن نـواجه ونـتـخـذ موقـفا . بل إن الكلام الحكيم هـو الذي يُعـلـِّم ويـهـدي ويـنـفـع .

وقد قـال الـمـعـلم أنطون ســعاده :" العلم الذي لا يـفيـد كالجهالة التي لا تضر ."

نستطيع إذن بالنعرفة الهادية النافـعة أن نلج باب بحثـنا هذا ونهتـدي الى نقطة البداية والإنطلاق .

بالمعـرفـة نكـون أقــوياء . وبالمعـرفـة يـرقى فكـرنا وتـنجـلي الحـقـيـقة التي نسـعى الـيـها . ونصـل الى حيـث ينـبغي أن نـصل في عالـم يعـج بالغـمـوض والبلبلة والظنون والشكوك .

تستـلـفـت إنـتـباهـنا عـبـارة كـُتـبـت فـوق مـدخل معـبد "عبدارة" الـذي أشــاده الكنعانيون الســوريـون القدماء الـذين عُـرفـوا بالفـينيقيـين الأســم الذي أطلقـه عليهم اليونان ، والذين سُميَّ أتباعهم فيما بعـد " بالسفسطائيـين العـبارة التالـية : " أيهـا الإنســان اعـرف نـفسـك ." وقد نسبها الكثيرون للفيلسوف اليوناني سقـراط اليوناني المولد والسوري الثقافة والعلم والفلسفة الـذي تـتـلمـذ على أيدي معـلميه الكنعانيـين دون أن يكـون لـه ذنب إدعـاء نسبة العبارة المذكورة اليه .

وعلى كـل حـال فإن ما يهـمنا هنا هــو أن المعـرفـة الأنسانية هي ا لوسيلة الوحيـدة الـواضحة التي تعينـنا على اكتـشــاف الحقـيقة ـ القـيمة وتـقـريـرها . ومن المحــال أن تقـوم حـقيقـة إنسانية من غيـر المعـرفة الإنسانية . إن المعـرفــة الإنســانـيـة هي بالفـعـل أم جـمـيع الحـقـائــق الإنسانية.

الحقيقة هي قيمية انسانية

يقول سـعاده : " إن الحقيقة هي قيمة فكـرية تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط . "

نستنتج من هذا القول أنه لا يكفي أن يكون الشيء غير العاقل موجـوداً في ذاته لتتكون قيمة حقيقته الإنسانية. بل إن إفتراض المجهول حقيقة هو ظن ونوع من التخمين وهـو أبعـد ما يكون عن الحـقيقة الإنسانية التي لا يمكن أن تكون أو تقوم إلا بقـطبـيها:"الوجـود والمعـرفة " "إذ ليس من العقل وا لحكمة أن نمجد أشياء ليست موجودة ". على حـد تعبـيـر الفيلسوف الكنعاني السوري زينون الرواقي . إن كـل وجود خضع للمعرفة الإنسانية وانتقل من المجهول الى حالة المعلوم أصبحت لـه قيمة في وجدان الإنسان العالم به ، وبهذه المعرفة وبهذه الحالة وبهذه القيمة أصبح حقيقة . أما الكـلام عن الأشياء والأســرار والنـوامـيس الخفية الإفتراضية التي لم يتم إكتشافها بعد ولم تخضع لدائرة وعي الإنسان فهـو كلام عن أشــياء لا تـزال في حـالـة مبهـمات وليس كـلام عـن وجـودات مكـتـشفـة ومعـروفة اكـتسبت باكـتـشافها ومعرفـتها قـيـمة الحقائق. وهي لذلك لا يمكنها أن تحـل مكان الحـقائـق لأن أساس المبهمات هو دائـرة المبهـم والغـمـوض بـينما أساس الحقائـق هو في الوضوح والتعيين .

الوضوح هو قاعدة كل حقيقة

كل معرفة لا تستند ولا ترتكـز على برهان عملي، ووجود فعلي ليست بـمعـرفة عـلمية عـملية بل هي تستند الى الإفتراض والتـكهـن . ومهما ارتـقـت مرتـبة الإفـتراض لا يمكن أن تكون أساسا ً لـوعي ســليم ، أو مرتكزاً لمعرفة صحيحة ، أو قاعدة متينة لقيام أية حقيقة ــ قيمة . إن الـوضـوح هـو الحالة المثـلى التي تساعـدنا وتـمكنـنا من الـوقـوف على معنى حـقيقة الفلسفة المجتمعية المادية ــ الـروحية وفهمها فهماً راقيا صحيحا يحملنا على ممارستها حيـاة ونمواً وتقـدماً ورقياً . لا قـيمة إنسانية مطلقـاً لأي مبهـم . ولا معـنى لأيـة حقيقة إفـتـراضية إن لم تُخرج الإنســان من ظـلمات مفاهيم الغـرائـز والأوهام والأهواء الى نـور مفهـوم الـوضوح والجلاء والتحـديد . ولا نفع بالتـالي من كــل القـيـَم والحقائق التي تخرج عن سير وأطـوار نـشـــوء الإنسـان وتـطــوره ومراتـب وعــيـه ومستوى رقيه.

إن الوضوح هو الذي يهـدينا الى بـداية البدايات ، وأولى الخطوات التي نهتدي بوسطتها الى معرفة قيمة الحقيقة الإنسانية وهو ان الوضوح :" معرفة الأمـور والأشياء معـرفة صحيحة . إنـه قاعـدة لا يستـغـنى عنها . ولا بـد من إتباعها في أية قضية للفكر الإنساني . وللحياة الإنسانية. "

وللإفـادة من بحثـنا لا بد لنا من يقـظة روحية تخلصنا من غفـوة تاريخية طـال أمدها ، واستفحل أمرها فحجـبت عنا الـرؤية السليمة الـواضحة والسمع السليم ، وكبّلت العقـل، وبلبلت التفكيـر، فـوجب علينا قبل كل شيء تمزيق الحجب ، وتحـريـر العـقـل ، وإطلاق المواهب ، والتخلص من واقـع التـخلف والإنحطاط لـنـنـتـقـل الى حالـة التـنـور والوعي والـرقي ، وعندها يتعـافى نظرنا وسمعنا وتفكيرنا وتبصرنا فـترتـقي أنماط عيشنا ومستويات حياتنا وخطط فكرنا ، فنرى ونسمع ونعقـل ونتصرف كما ينبغي بالإنـســأن العاقل الراقي المتبصر أن يرى ويسمع ويعقل ويتصرف.

وعندها لا نتيه ولا نقع في الأخطاء التي وقع فيها كثير من الفلاسفة النظريين التجريديـين ، كالتساؤل عن ماهية الكون ، والعـدم ، وما قبل الحياة ، ومـا بعد الموت، وما وراء الوجود ، والمصيـر ، والفناء وغير ذلك . لأنـه ينبغي قبل أن " نـوضح أحجية ما هـو الكون ؟ أن نـوضح سؤالا أسبق ما هو الإنسان نفسه الذي أخذ على عاتقه حل أحجية ماهـية الكون . "*

وبهذا نـنتقل من عهود الإيمان بالأوهام والخوارق الى عهد الوضوح والمعرفة والثقة والحقائق واليقين .

فوضى المفاهيم

مع أن الحقيقة ـ القيمة هي واحدة لا ثنائية فيها ولا تعدد، ومع أنها في المطـاف الأخيـر تمثل التوافق الطبيعي مع واقـع الحياة الإنسانية المادية - الروحية في نشوئها وتطورها وارتقائها ، لا في تجمدها وانحطاطها وتقهقرها، ولا يجوز أن تكون غير ذلك واقعا وتكوينا ، فقد تباينت بصددها النظرات ، واختلفت في تفسيرها النظريات على مرور الزمان ومسارح المكان ومستويات الثقافات ، وتعـدد المفاهيم حتى ظهـرت تحديدات وتعريفات متضاربة ومتعاكسة ومتناقضة تتصارع وتتنازع في مذاهب شتى وكل مذهب فكري يدعي لنفسه صحة وصوابية اعتقاده . أو كـل جماعة تحتـكـر الصـواب لنفسها في التـفسير والشرح والتأويل ومواجهة المشاكل الإنسانية مما سبب وأدى الى فوضى في المفاهيم، وبلبلة في تعيين الحقائق.

إن حقيقة الإنسان هي واحدة في كل مكان وزمان وفي جميع الشعوب،أما المختلفون في فهم هذه الحقيقة فإنهم كـُثـُر. وكثرة المختلفين في مستويات معارفهم وعلومهم ومفاهيمهم أدت وما تزال تـؤدي الى تعـدد التـعـريفات وتضارب المفاهيم. والحقيقة أن هـذا التضارب والإختلاف هو شيء طبيعي لا يجوز التـنكر له . وبتقـديـرنا فإن هـذه الحالة من فـوضى المفاهيم وتضاربها وصراع الأفكار سوف تستمر كما كانت في الماضي الى أمـد بعيد ليس له أفق منظورإلى أن يستكمل التـفاعل مـداه في قلـب المجتمع ، والى أن يـتم فـعـل الـدورة الحياتية التامة في وحدة ألأمة وتكتسب شخصيتها الإجتماعية في وجدان قومي عام يتجلى في ثقة الجماعة بنفسها وفي وحدة مصلحتها ، ووحدة ارادتها ، ووحدة النظر الى مـُثـُلها العليا ، ووحـدة الصراع من أجـل تـقـدمها وارتـقائها على الصعيد القومي الإجتماعي الانساني . سوف يستمر الصراع أيضا الى ان ينتهي تصادم مصالح ألأمم في انتصار تفاعل ثقافاتها لما فـيه خيـر الإنسانية جمعاء فتـصل البشرية بحضارات وثقافات أممها وشـعـوبهـا ومفاهـيمها الـروحية ـ المادية الى المستـوى الـذي يـؤهلها الى إقامة وبناء عالم جـديد تـتـشارك وتـتعاون في إشادته وتـرسيخ دعائمه جـميع الأمم والشعـوب التي نشأت وتطـورت وتمـدنت ونهضت وارتـقـت على هذا الكوكب الذي نعيش عليه.

العالم الجديد خلاصة تفاعل المعارف

إن قيام العالم الجـديـد هـو نتيجة واقعية وطبيعية وعملية لتفاعل حضارات ومعارف وثقافات الأمم، ورقي صراع أفكار وخواطر عباقرتها ونوابغها، وليس نتيجة لحروب الشعـوب واقتـتالها وتصادم ثقافاتها وتخلف معـتقـداتها وطقوسها ، وتخريب ودمار عمرانها .

وانطلاقا من مسـؤولية إقامـة عالـم حـضاري جـديد راقي تكـون فـيـه أمـتـنا عـنصـرا أسـاسـياً فاعلاً في تكـويـنه وتـركيـبه وقـيامه ونهـوضه وتـقـدمه . نـرى أن من أولى واجباتـنا أن نـنهض بمسؤوليتـنا، ونقـوم بدورنا على أحسن ما يكون في إغناء فكر الإنسانية الجديدة ، وإيـضاح أبعـاد

فـلسفة التـفاعل المـوحد الجامع لقوى الإنسـانية التي تـقـول بالإنســان ـ المـجـتمع وليـس إنسان ـ الفــرد أو إنسان ـ الطـبقة أو إنسان ـ الطائـفـة او إنسان ـ الفـئة أو إنسان ـ الـروح أو إنسان ـ المادة. وهي الـتي تعـتـبـر أن أساس الإرتـقاء الإنساني هوأساس مادي ـ روحي أو روحي ـ مادي أي مدرحي دون ثنائية . وتقول أيضا أن " المجتمع معرفة والمعرفة قوة "* .

وتعتبـر أن العالم الـذي ينبثـق وينشأ ويتكـون ويتـركب من مجتمعات المعـرفة ورقيها هـو حتماً غيـرالعالم الذي ينبثق وينشأ ويتكـون من مجتمعات الجهالة والإنحطاط النفسي والفكـري .لأن تفاعل المعارف هـو غيـر تصادم الجهالات . ونتاج التفاعل المعـرفي هـو غير انتاج التصادم الجهالي .

لقـد استفحل خطـر الفلسفات الجزئية المادية منها والـروحية واستفحل بالتالي خطـر المفاهيـم والنظريات المتضاربة المنبثقة عن تلك الفلسفات الجزئية ، وأصبحت تنـذر وتهـدد بكارثة حقيقية ستكون من أعظم الكوارث إذا لم تـتداركها وتقـوم العقول النيّرة ، والمـواهب الخـيّـرة بمساهـمة جـدية في وضع حـد لخطـر تلك الفلسفات والمفاهيم على حياة الأمم ومصير العالم الإنساني .

نظرتـنا الفلسفية الشاملة

أولاً - وجودية الفلسفة القومية الإجتماعية الدنيوية

إن نظـرتنا الى الحياة والكون والفن هي نظـرة دنوية بالمعنى الإجـتماعي الحـياتي ، وليس نظـرة أخـرويـة بالمعنى الماورائي الغيـبي .

إنها تقرر من البداية: اننا لسنا من الذين يصرفـون نظـرهم عن شــؤون الوجود الى ما وراء الوجود بل من الـذين يرمون بطبيعة وجودهم الى تحقيق وجود سام جـميل في هـذه الحياة ، والى استمرار هـذه الحياة سامية جميلة . " وهـذا يعني بما لا مجال فيه للشك أننا لا نتنكر لعالم الغيب أو عالـم الماوراء بل اننا نفضل أن نصرف جهودنا ونركّزها على تحسين وجودنا وترقية مستـوى حياتنا لنتمكن بتطـورنا وتقدمنا من الإطلال على مشارف أعلى وأرقى من الكون الماثل أمامنا، لأننا نعتقد جازمين أن من لا يستطيع ان يتعرف على دنيـاه بما فيه الكفاية لا يتمكن مطلقاً من التعرف على عالم الغيـب الماورائي السابق لوجوده أو اللاحق لإرتحاله عن هذا ا لوجود .

إن نظرتنا الدنوية لا ترفض النظرة الأخروية، بل تتـرك شؤون ماوراء الوجود الإنساني للذين يعملون في هذا المجال . وتعتبـر نفسها من حيث عملها في تحسين الـوجـود الإنساني. إنها تسـير بخطى حثيثة نحو إكتشاف المزيد من النـواميس الكـونية التي ما تـزال محجوبة عن دائرة وعي ونشاط الإنسان وفاعليته . وهي في الـوقت نـفسه تساهم مساهمة كبـرى في تهيـئة واعـداد الناس وتعميق وترقية مفاهيمهم لأدراك المسائـل الكبـرى التي تختـص بـما قبل الحياة الإنسـانية وما بعـدها ، فتـتـفهم حكـمة الله في الخلق والبعث والنشور على غيرما استذوقه واستنسبه ودعا اليه الجاهلـون المعانـدون . فالله الـذي وهبنا العقل لم يهبنا إياه عبثاً لنلهـو، و نتسلى، ونلعـب . وانما وهـبنا العـقل لنعمل به ونـرتقي ونسمـو" وهـل يستـوي الـذين يعلمون والذين لا يعلمـون ؟"* إننا نـدرك تماما أهمية عـدم الفصل بين مسائل الوجود واللاوجود. ومسائل الماقبل ومسائل الـراهن ومسائل المابعد . ولأننا ندرك ذلك فينبغي علينا أن لا نخلط الأمـور فيما بينها .علينا أن نتجنب ما أمكن خلط الـوجـود باللاوجـود ، وخلط الماقبل بالمابعـد لئلا تختـلط علينا أمور الدنيا بأمور ما بعدها . وأمـور الغـيب بأمورالعلن ، فنتيه في صحراء السراب ، ولا نصل أبداً الى ما ينفعنا لا في هذه الدنيا ولا في ما بعدها .

النظرة الى الحياة والكون بالمعنى الإجتماعي شيء . والنظرة الى ما بعد الحياة وما وراءها بالمعنى الديني الغيـبي شيء آخر .

إننا نرى انـه لا يضيـر النظـرة الإجتماعية الى الحياة والكون أن تقتصر على شؤون الحياة الدنوية أي شيء ، كـما أنه لا يقـلـل من أهـميـة النظـرة الماورائية أن تـنصـرف الى شـؤون الآخـرة ومصيـر النفـوس . بل إن النظرتان النظرة الوجـودية الحياتية والنظرة الماوراء- وجـودية الغيـبـية ضروريتان ومهمتان للكائن الإنساني ليعيش في هـذه الـدنيا عـزيـزاً كـريماً وعلى مصيـره الذاتي بعد موته مرتاحا ومطمئناً .

على ضوء هـذه الحـقيقة نفهم موقـف النظرة القومية الإجتماعية الى الحـياة والكـون والفـن حين اعتبـرت ان حـرية المعـتـقـد حـقاً مـقـدسـاً للأفـراد . يجـهـرون بـه ، ويمارسونـه بكـل حـرية شــرط إحترام عـقائد الآخرين وعـدم الإضرار بهم . لأنها تـرى أنـه ما أعطيَ لأحد أن يهين كـرامة أحـد ، وليس من حق أحد من الناس كائنا من كان أن يـُكـره أحـداً على حـب شيء أو يجبرَأحداًعلى بغض شيء . فالنظـرتان يمكنهما أن تكـونا، بـل يجب أن تكونا جنباً الى جنب في تناغم وانسجام وليس في عـداء لأنهما تلامسـان وتـتـناولان أعـماق الكائـن الإنســاني رغـداً وطمأنينة .

فإذا كانت النظرة المجتمعية القومية الإجتماعية تهتـم بحياة الانسان- المجتمع في هـذا الـوجـود، وتحسين هـذه الحياة وتـرقيتها. فإنها لا تتناقض أبـداً ، ولا يجوزأن تتناقض مع نظـرة غيبية دينبة تهتم بمصيـر الإنسان بعد الموت ، وتجتهـد بـزرع المباديء المناقبية من أجـل راحة النفـوس ، وربح الحياة الأبـدية الأخروية . لأن لكل نظرة من النظرتين دائرتها وآفاقها.

أن النظرة الدينية ما كانت، ولم تكن لتـناقض واقع الحياة بل كانت لتشريف الحياة ، ولتحسين الخليقة ، وتعميم العدل والإحسان والخير بـين الناس ، ومحاربة الظـلم والباطل والشر. لقد فصلت وميزت بين ماهو ديني وما هــو دنيوي ، ولم تحكم على مسائل الـدنيا بمنظار الدين ، ولا مسائل الدين بمنظار الدنيا، بل حكمـت بالقـســط والعدل فكان تحسين الحياة للناس ،وكانت طهارة الدين وقدسيته لله. و وحسمت الأمر على لسان السيد المسيح بالقـول السديد :" أوفـوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. " ليأتي بعد ذلك القول الحكيم في الآية القـرآنية:"وابتغِ فيما أتـاك الله الدار الآخـرة ، و لا تنسـى نصيبك من الدنيا. وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ ِالفسـاد في الأرض .إنَّ الله لا يحب المفسدين . "

فإذا وجـدنا اليـوم الكثيـرين من المتـدينين ينعتون أصحاب النظـرة الإجتماعية القـومية الى الحياة والكون والفن بالكفـر والإلحاد ، فلأنهم لم يضطلعـوا على حـقـيـقـة تلك النظـرة ، ولا على حقيقة الواقع الإجـتـماعي ـ الإقـتصادي ـ السياسي ، ولم يفهموا رسالة دينهم الحقيقية التي تقوم على المحبة والـرحمة ، وتهـدف الى تطهيـر نفوس الناس من كـل فساد .

وما الأنبياء بحسب ما ورد في القـرآن إلا رحمة للعالمين.

ومَثـَلُ أولئك المتدينين هو تماماً كمَثَل المتمخرقين المتفذلقين المـدعين العلمانية والتقـدمية زوراً وباطلاً الـذين يتهمـون كـل من يصلّي لله ويناجيه ، ويعمل بتعاليم رسله، بالتخلف والجهل والمسكنة والغباء .

إن سبب ذلك هـو ان الفـئتين لم يفهموا جيداً حقيقة الـواقع الإجـتماعي ولاحقيقة رسالة الدين . إنهم حكموا على الدين بمنظار السياسة والإقتصاد ، وحكموا على العبـاد الصالحيـن الممارسيـن لتـعاليـم ديـنهـم بمنـظار الجهـل والحزبية الضيقة الخانقة ، فضلوا ضلالاً بعيداً . فلا هؤلاء ولا اولئك كانوا من العالمين المهتدين الصالحين. والويـل كـل الويـل لمجتمع يحكمه ويتحكم فيه الجهلة والمـتجاهـلـون ومـرضى العـقـول والنـفـوس والقـلـوب والضمائـر." ولا تهدي من أحبـبت إن الله يهدي من يشاء."

بكلمة موجزة نقول: انه لا غنى لطلبة الآخرة عن الدنيا ، فالدنيا هي الطربق الى الآخرة. فمن أراد آخرة كريمة فليعمل ليكون كريماً في دنياه ، وليكن صادقا مع نفسه ومع الآخرين ، وليقم بواجبه نحو نفسه ونحو مجتمعه أيضاً .

فمن أحيا نفسه، فقد أحيا مجتمعه ومن أحيا مجتمعه فقد سار على طريق إحياء الإنسانية جمعاء وكان من الذين ظفروا بحب ورضى رب ا لعالمين .

ونقول أيضاً : انه لا مهرب لطلبة الدنيا من الآخـرة. فالآخرة هي ما لا يستطيع الهرب منها أحد " ويدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيـَّـدة . "

ولأن الآخرة كذلك ، فإن الحكمة البالغة تقضي بأن يختار المرء آخـرتـه بنفسه وهوعلى قيد الحياة قبل أن تفاجئه آخرته فيخسر الحياتين : حياة الوجود وحياة ما بعـد الوجود .

فوجودنا الإجتماعي وحياتنا الأخروية هما ما نحن، وما نكون ، وما سنكون بأعمالنا وممارستنا وانتاجنا وصراعنا في هذا الوجود الذي هو نقطة البداية والإنطلاق لأي وجـود آخر يمكن أن يكون بعده أو وراءه . فهذا الوجود هو ساحة عملنا ، ومختبر صلاحنا وفيه نترك أرثـنا وتراثنا لأجيالنا. وفيه أيضا تكون شهادة رضى الله أو سخطه علينا .

إن الوجود بالنسبة للنظرة الإجتماعية القومية الإنسانية الى الحياة والكون والفن هو على ثلاثة أنواع:النوع الأول هو الوجود الظاهـر المكشوف للإنسان . والنوع الثاني هـو الـوجـود الممكن إكتشافه ومعرفته والإطلاع عليه. أما النوع الثالث فهو الوجود المستحيل اكتشافه ومعرفته والإحاطة به من قبل الإنسان لأنه أبعد وأعمق وأشمل من أن يحيط به عقل بشر. هـذا هـو الـوجود الماورائي او الماوراء وجودي الذي لا يخضع لعلم مخلوق ، بل يخضع فقط لعلم الله الخالق العليم القدير الذي أوجد هذا الكون الماثل أمامنا ولا يعلم خفاياه ونواميسه وأسراره إلا هـو .

إن نظرتـنا الإنسانية الإجتماعـية تـنحصر بالنوعين الأولين : الوجود الظاهر المكشـوف ، والـوجود الذي لم يتسن لنا اكتشافه بعد ، ويمكنـنا اكتشافه .أما النوع الثالث الذي يتعلق بالوجود المستحيل اكتشافه من قبل الإنسان فإنـنا نُقّـر ونعترف أن قدرتنا الإنسانية وأهليتنا وامكانيتنا غير جديرة بتناوله ،وفك رموزه . بل إن تناول هذا النوع من الوجودهوضرب من المحال ونوع من التكهن والتخمين والظن لايجني الخائض فيه إلاالمزيد من التخرص والوهم والضياع. وهل أصدق من القرآن الحكيم حين قـال:

" يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو..." .

وقد أوضح كاشف هذه النظرة الى الحـيـاة والكـون والفـن أن العـقـيـدة القـوميةالإجتماعية المنبثقة عن تلك النظرة:"لم تتعرض للدين وعقائده الدينية التي غرضها خلود النفس بعد ارتحالها من هذه الدنيا في مقامين مختلفين :

المقام الأول مقام النعيم . والمقام الثاني مقام الجحيم .

فمن أراد النعيم ابتدأ ممارسة الإيمان الذي يعتقد انه يوصله اليه وهو بعد في هـذه الدنيا ، فيهيء بهذه الطريقة خلوده في النعيم . ومن أراد الجحيم ابتدأ يمارس المعاصي والكفر. فلا المؤمنون يذهبون الى الجحيم بكفر الكافرين. ولا الكافرون يذهبون الى النعيم بإيمان المؤمنين . وأما الذين لم يؤمنوا ولم يكفروا ، فالبعض يقولون انهم يذهبون الى الجحيم والبعض يقول ان حساب الله يقرر لكل واحد منهم حسب أعماله إن خيراً فخيراً. وإن شراً فشراً. وما دام الحساب بيد الله، فلنخفف قليلا ً مـن غلوائنا فلعل الله يريد غير ما يراه عباده."*

وقال ايضاً :

"إن حركة العقيدة القومية الإجتماعية لم تمنع أحـداً قـط من إظهار معتقــداته الفلسفية من أي نوع كانت في كتاباته. فيمكنكم ان تنشروا أفكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحساب، وليوافقكم على ذلك من شاء وليخالفكم من شاء. "

ثانياً – مجتمعية الفلسفة القومية الاجتماعية

فضلا عن وجودية الفلسفة القومية الإجتماعية وواقعيتها الدنيوية يعنى إهتمامها بما في الوجود وليس بماهو خارج الوجود ، فإنها تقـول ب " إنسـان ـ مجتمع " وليس ب " إنسـان ـ فرد " باعتبار أن الفرد في حد ذاته جزء من المجتمع، إنوجد بوجود المجتمع . ويعيش ويحيا ويمارس حياته ويكـتسب شخصيـته في إطـار المجـتمع ومـداه ، ويستحيل عليه الإستمرار والبقاء خارج المجتمع . وإنـنا نجزم أن كـل ما توصلنا اليه من معارف يبـرهن ويـؤكد على أن الكوكب الذي نعيش عليه هو من حيث تكويـنه وجـريانه واقـع بـيئات جغـرافية . وأن البشــر متـوزعـون في هـذه البيئات بشكل جماعات وشعـوب . وأن أتم متحـد إجتماعي بشــري هـو متحد الأمــة التي نشأت بتـفاعل الجماعات والمجموعات البشرية في مابينها وفي ما بين الأرض التي تعيش عليها في بيئتها. وقد كونت هذه الجماعات بفعل تفاعلها على مرور الزمن لكل جماعة شخصية إجتماعية، ووجدانا َ اجتماعيا َ. وعقلية َ اجتماعية، ونفسية ً اجتماعية أكسـبـتهـا بمرور الـزمـن صـفـات وميـزات وخصائص مـيَّـزتهـا عن غـيـرها من الجـماعـات باستـثـناء الصفات الانســانية العامـة التي تشترك بها مع غيرها من أبناء نوعها الإنساني . إن الإنسان ـ المجتمع أو مجتمع الأمة هو الإنسان الكامل الأتم الذي هـو الشعب المتولد من تاريخ ثقافي طويل يعود الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي،وليس عصابة هنا، أو فئة هناك، أو طائفة هنالك ، أوعدد من أفراد في ناحية أخرى.

إن إنفراد كـل جماعة أو فئة أو طائفة أو مجموعة في البيئة الواحدة هو من الأمراض المعرقلة والمعطلة لعملية الإنصهارالمادي- الروحي التي تجعل للمجتمع الواحدةعدة قضايا متضاربة متناقضة بدل قضيتها الواحدة التي ينبغي أن تكون قضية سلامة وجودها، وصلاح حياتها ، وقضية استمرار نموها وتقدمها وارتقائها من جميع الوجـوه النـفسية والفكريـة والإقـتصادية والسياسيـة والفنية، ليتمكن المجتمع بكامله من التعامل والتعاطي والتفاعل والتواصل مع المجتمعات الأخرى،لتوليد مجتمع النوع الإنساني الذي هوفي الحقيقة مجتمع مركب من مجتمعات الأمم الناهضة التي بلغت المستوى الذي يؤهلها من الإشتراك في نشوء الإنسـان ـ العالمي ويجعلها عنصراً أساسيا في تكوينه .

إن الإنسان ـ العالمي الذي تكشف في الفلسفة المجتمعية القومية الإجتماعية والذي تسعى هذه الفلسفة وتعمل وتصارع من أجل نشوئه ونموه هو إنسان- المجتمعات الناهضة المعافاة ، وليس إنسان- المجتمعات المتخلفة المريضة .

إنـه إنســان- المجتمعات الطبيعية . إنسان ـ الأمم الراقية وليس إنسان- الحكومات والـدول والمنظمات والتكتلات الطغيانية .

لقد رفضت هذه الفلسفة التكتلات الفئوية التجزيئية داخل الإنســان ـ المجـتـمع - الأمة ، ورفضت أيضاً التـكـتـلات التجزيئية الفئـوية الطغيانية داخـل الإنسان ـ المجتمع ـ العالمي لأنه يؤدي الى خراب العالم ودماره .

إنها رفضت مجتمع الأسياد والعبـيد داخل مجتمع الأمة ورفضت أيضاً مجتمع الطغـاة والخانعين داخل مجتمع ـ النوع الإنساني . والذي قبلته وتبنته وقالت به هو صراع العقائـد والأفكـار والثقافـات والعبقـريات المجـددة حيوية الجماعات والشعـوب والأمـم بالمعارف الفاضلة ، والعلوم المفيدة ، والفنون الجميلة ، والمناقب الأصيلة ، والفضائل الراقية التي تبني ولا تدمر ، وتُوحّد ولا تُفرِّق وتُعـِز ولا تُذلّ، وتُرَقي ولا تُحِط ، وتهدف الى تـلاقي وتعاون المجتمعات الناهضة على مساعدة غيرها على النهوض من أجـل ولادة ونشـوء عـقـل بشـري ممتاز قـوامـه عقليات الأمم الناهضة المتمدنة. وذلك لمواجهة الكون الماثل أمامنا وسـبرأغـواره واكتشاف ما يمكن اكتـشافه من النـوامـيس والقـوانين الطبيعية ، بعقـلٍ مـركب بشري بديع يعرف كيف يتعامل مع الأرض والجـو والمناخ والبيئة والبحار مع المحافظة على سلامة الكوكب الذي نعيش عليه، وصلاح الكون الذي نحن جزء منه وفيه، ولا وجود لنا ولا حياة ولا استمرار خارج نطاقه .

ثالثاً - الفلسفة الوجودية المجتمعية نقطة بداية وانطلاق.

إن بداية الوعي واليقظة هي الأساس الذي ترتكز عليه

نقطة البداية والانطلاق . فلا بداية سليمة وواقعية وعملية بغير وعيّ . وكل فكر او قول أو عمل او حركة أو سلوك أونهج أو تصميم بدون الوعي هراء في هـراء ، وهباء في هباء، ومضيعة للوقت والجهد .

ولأن هذه الفلسفة هي وعي جديد لم يكن مألوفا من قبل فإنها تشكل نقطة البدا ية والإنطلاق ، وهي في الوقت ذاته حلقة من حلقات الفكر الأصيل وخطط النفسية الراقية في أمتـنـا التي تُعَبـِّرعن حيوية العقل المنفتخ الخلا َّق الذي لـم يقف مشلولاً عاجزا مشدوها أمام عظمة الكون ، بل تعاطى معه بنبوغ وعبقرية فأبدع الشراع والشرع , والدين والتمدن واستنبات الأرض وتدجين الحيوان وعمار المدن وكتابة الأساطيـر والشعـر والـرسم والمـوسيقى والغـناء والرقص وكل فن جميل يساعد على سمو الحياة . فكان شعبنا بكل هــذه الابداعات أول من فلسف ألأسطورة قبل أن تتأسطر الفلسفة . وأول من وضع حـداً لزمن الخرافات والجهالات وفتح لنفسه وللناس أبواب النور والمعرفة على مصاريعها .

إن هذه الفلسفة التي تقول بأنه : " كلما صعدنا قمة تراءت لنا قمم كثيرة يجب أن نصعدها . " عـيـَّنـت وقررت بشكل لا لبس فيه ولا شبهة أن لا سقف لها تقف عنده ، أو نهاية مطاف تستريح عندها ، بل هي أعلنت النهضة المتجددة أبداً.والثورة التي لا تقف عند حد . والمسيرة المتـصاعدة الى أبعد ما تستطيعه وتتمكن منه عبقرية الإنسان ونبوغه وإبداعه ، بحيث يصبح ملكـوت السموات بنعيمه ونعمه محطة لإنطلاق جديد متجددً " حيث لا أذن سمعت ، ولا عين رأت، ولا خـَطـَرَعلى قلب بشر . " كما ورد في الحديث الشريف .

وهناك بالذات ، ومن تلك المحطة حيث تلتقي وتتعانق نظرتنا الى الوجود بنظرة ما وراء الوجود الانساني تتراءى للناهضين الصالحين من الذين فهموا دينهم ودنياهم كما ينبغي أن تُفهم الدنيا ويُفهم الدين منارات تجعـل الوجود أكثر سموّاً ، وأكثر جمالاً ، وأكثر بهاءً حيث العظمة التي لاتنتهي ، والسناء الذي لا يُحد.

رابعاً - حياتية الفلسفة القومية الإجتماعية

إن أهم مبدأ للوجود المجتمعي هو مبدأ الحياة،وبدونه لا حياة ولا قيمة لأي شـيء . فإذا إنعدمت الحياة إنعـدم كـل شـيء . فَـقَد َ الـوجود قيمته. وفقـد الإنسان ـ المجتمع حياته . وسـقـط الفكـر . وتلاشــت النظرات والنظريات ، وانهارت عمارات الفلسـفة والعلوم والمعارف والفنون، ولم يعد للوجود أية قيمة تذكـر.

لقد إرتكزت النظرة القومية الإجتماعية منذ البداية على مبدأ أساسي متين قـوي حقيقي هـو الإنسان ـ المجتمع كحقيقة أساسية كلية طبيعية موجودة ومعروفة وحيـَّـة ونامية ومتطـورة متفاعلة مع بـيئتها الحاضنة لهـا كما هي متفاعلة مع نفسها وبذاتها بحيث لا تبقى هي ذاتها إذا فقدت حركتها الدينامية المتفاعلة التي أثمرت خلال تطـورها ونمـوها إنسـان الشخصية الفـردية وإنسان الشخصية الإجتماعية اللتين لا تستغني الواحدة منهما عن الأخرى، ولا تستـقـيم شخـصية الإنسان ـ المجـتمع إلا بتفاعلهما وتناغمهما وتوحدهما بحيث لا رقي حقيقي لأيٍ منهما بدون الأخرى. ولا تقدم إلابتوحدهما في دورة الحياة الإنسانية النامية .

المجتمع هو الكل. والفرد خلية حية في كـل . الفرد إمكانية إجتماعية وهو فعالية إجتماعية إنسانية في الوقت ذاته .

إنه عين بصيرة في جسم حيّ ، وعمياء حين تقتلع . فإذا زُرعت في جسم حي آخر قبل أن تموت عادت لها فعالية النظر والرؤية. وإذا ماتت فلا نفع من زرع ، ولا فائـدة من كـل العقاقير . المجتمع كائن كلي حيّ . والأفـراد إمكانيات إحتماعية حيِّة وفعاليات خلايا فاعلة في دورة حياة المجتمع . تتجدد خلاياه بتجدده ، ويتجدد بتجدد حركة خلاياه الحيَّة المتجددة أرواحاً في روحية . وعقولاً في عقلية . وأنفسا في نفسية. الأفراد يولدون ويتزاوجون. يتوالدون. ويموتون وبقدرمايفعلون في ترقية مجتمعهم يكبرون ويخلدون. انهم بمـوتهـم يـولدون ويتجـددون . انهم في ضميـر أجيال أمتهـم مستمرون نبوغاً وإبـداعاً وعبقـرية ً وقيَـماً وفضائل وأفعال وذكـرى عاطـرة تـدفع أرحامهم الى ما يـرفـع النفوس الى كل ما هو أجمل وأحسن وأسمى. وبنسبة ما يعطـلون ويخربون من طاقات مجتمعهم يصغرون ويتناثرون ويتبخرون.

هذا الكائن الطبيعي الحيّ الذي نسميه الإنســان ـ المجتمع هو الذي يـُعَبـِّرعن الحياة وماهيتها. هو تعبيرها الأسمى في هذا الوجود. ولأن الحياة هي التي تنمو، فإن الإنسان الذي هو تعبيرها الأسمى هو ألإنسان النامي المستمر في نموه. إنه إنسان متجـدد في البيئة. في الأرض. في الكون. ومتواصل في الزمان عبر المراحل والأطوار والمستويات جيلاً بعد جيل .إنه كلٌّ وليس جزء . إنه الأجيالُ منذ كانت الى ما هي كائنة وما سوف تكون ، وليس جيل أو عدة أجـيال . إنه حركة التاريـخ المتـواصلة الـدائمة في المـاضي والحـاضـر والمستقبل . بدأ منذ فجر الخليقة وليس من حيث يستذوق البعض أن يبدأ. إنه ليس مجموع أفراد. ولا مجموع أجيال .و لا مجموع فئات ولا طوائف. بل إن جميع هذه التجمعات لا وجود لها ولا كيان إلا في المجتمع . وهي في حال تشرزمها وانغلاقها واقتتالها فيما بينها تشكل بثور أمراض خطيرة تـؤدي في أحيان كثيرة الى تفتت المجتمع ودماره وهلاكه . أما المجتمع الصحي الحيّ ، فإن من أهم ميزاته ميزة بروز شخصية الفـرد، وظهور شخصية الجماعة اللتين تعبران عن طاقة الحياة ، وحيوية النموّ في ألإنسان ـ المجتمع .

وبقد ر ما تتوهج الشخصية الفردية موهبة وعبقرية وإبداعا ً من جـهـة . وتتألق شخصية الجماعة رفعة ورقيا ًوتمدنا ًوسموا ً من ناحية ثانية ،فإن الإنسان ـ المجتمع يبرهن ويفصح عن حيـوية أكبـر وجدارة أقوى ، وأهلية أعظم تـُهـيـئه لبلوغ طور التنوع المنسجم المتـناغم في تكوين ونشوء الإنسان ـ العالمي الإنساني المتطلع الى أرقى ما يتصوره العـقـل البشري، وتطمح اليه النـفـوس الجميلة الخـيـّرة .

الفلسفة القومية الإجتماعية بالمفهوم المتقدم هي فلسفة حياة حـيّة حيوية عملية نامية متسامية لا سقف لها في النموّ ، ولا حـدود تقـف عنـدها . فهي تنطلـق من ألأرض نحـو السماء التي تصبح بدورها قاعـدة انطلاق بإتجاه سماوات لا تنتهي لتحقيق مـُثـُل عليا لا نستطيع تـصـورها الآن .

إنها فلســفة متجددة بتجدد حيوية الإنسان . ومنفتحة بنسبة تفتح قواه العقلية . وشاملة ومتوسعة بنسبة توسع واتساع آفاق معرفته. ومتسامية على قـدر تسامي تصوراته وخططه في تحسين مستوى حياته المـدرحية.

هذه بعض الأضـواء نسلّطها على فلسـفة حياتـنا الجديدة السورية القومية الاجتماعية التي توقظ فينا عوامل النهوض ، وتـفجـِّر

كل ما تحويه نفـوسنا من عزيمة الصراع ومـواهب الإبداع لنظل الأمة الجديرة باحتلال مكانها بين ألأمم .

ملاحظة :

" هـذا ملخص لأول محاضرة القيت ارتجالـا في حلقة اذاعية اعدت للطلبة القوميين الإجتماعيين بعد المحاولة الإنقلابية في لبنان في منزل الرفيق جوزيف رزق الله في الشياح ـ بيروت الذي كان مكلفا برآسة اللجنة المركزية في الحزب السوري القومي الإجتماعي آنذاك ، وقد حضر تلك الحلقة أكثر من أربعين طالبة وطالب نذكر منهم أليدا سـالم، جيزيل رزق الله , جان نادر يـوسـف ســالم، ومحمد أمهز شقيق ألأمين محسن أمهز . وذلك في العام 1963 وقد نشرهذا الملخص في العام 1964 في مجلة الجامعة في بيروت . وقـد علق على هذه المقالة الصحفي والأديب غسان كنفاني يومها بالقول التالي على ما نذكر : " بعد ان فشل الحزب القومي الإجتماعي في محاولته الإنقلابية فإنه يعود الى حرم الجامعة عن طريق الفكر والفلسفة ليضلل الطلبة . أين هي الدولة ؟ وأين هم المسؤؤلون ؟ وتجدرألإشـارة الـى أن الدكتور كمال يوسف الحاج أستاذ الفلسفة في الجامعة

اللبنانية قال بعد قراءة هذا المقال " لقد قلت وأكرر أننا مع أنطون سعادة عرفنا الفلسفة وصـار لنا فلسفة ... "وقد نصح الدكتور كمال يوسف الحاج الرفيق يوسف المسمار بقراءة مقالين كتبهما عن سعاده المقال الأول : " سعاده ذلك المجهول " و والمقال الثاني : " سعاده الفيلسوف "

من كتاب : " مفاهيم قومية اجتماعية " للرفيق يوسف المسمار الذي صدر في البرازيل بتاريخ 16 / 11 /2009 ، وصدر بعد ذلك في طبعة ثانية بتاريخ 01 / 01 / 2016

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024