إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الفداء التّموزيّ في الأدب القوميّ قصّة «حدّثني الكاهن الذي عرّفه» أنموذجاً

د. لؤي زيتوني - البناء

نسخة للطباعة 2015-07-09

إقرأ ايضاً


عند البحث في الأدب القوميّ، لا يمكننا إلاّ أن نقف مطوّلاً عند سعيد تقيّ الدّين الذي احتلّ أدبه مكانةً مرموقةً في الأدب المكتوب بالعربيّة من ناحيةٍ، وفي الاتّجاهات الأدبيّة الحديثة من ناحيةٍ أخرى. فقد كان صاحب قلمٍ جزلٍ شديد الصّرامة، يتّسم بالسّخريّة حيناً، وبالجديّة التّامّة حيناً آخر يحمل رؤية واعية إلى الحياة والكون والفنّ ينطلق منها كي يشكّل منارةً للمجتمع وللأمّة. ولعلّ هذا ما جعله يكون مقترباً من فكر سعاده قبل أن ينتمي فعليّاً إلى الحزب في خمسينات القرن الماضي.

غير أنّنا لا نستطيع أن نمرّ على أدبه من دون الدّخول مليّاً في عمق قصّته المعنونة: «حدّثني الكاهن الذي عرّفه» المنشورة في كتاب «سيّداتي سادتي»، وذلك لسببين: الأوّل يعود إلى الموضوع الحيويّ الذي تتناوله، والثاني يرتبط بما تمتلكه من مميّزات تقنية محكّمة في فنّ السّرد، وقد يكون هذان السّببان هما ما أعطيا تلك الأهمّية التي احتلّتها.

فعند الخوض في قراءة القصّة، تظهر خصوصيّة الموضوع التي تتعلّق باستشهاد أنطون سعاده وكيفيّة اقتياده المؤثّرة لتنفيذ الحكم الملفّق ضدّه، ومدى تماسكه وصلابته حتّى آخر لحظات حياته. وعلى هذا فإنّ الموضوع بحدّ ذاته يملك اختلافاً موضوعياً عمّا هو معروف في الأعمال الأدبيّة السّائدة فمحور العمل أو البطل، وأعني سعاده، ليس شخصيّةً مألوفة المواصفات في النّتاج السردي السّائد حتّى ذلك الوقت.

للقصّة أبعاد دلاليّة متنوّعة تخرج عن الإطار الدّلاليّ المباشر فحسب، وهو المتمثّل في القيام بإظهار الظّلم الذي عانى منه سعاده. وهو الذي يمكن فهمه حين نجد ردود فعل رجال الأمن تجاه امتناع الكاهن بدايةً عن تعريف سعاده قبل الإعدام، وإلحاحهم في استعجال امتثاله بعيداً عن أيّ التزام بالقوانين الكنسيّة، وكذلك نراه من خلال رفض طلب سعاده أن يقابل زوجته وبناته ثلاث مرّات.

على أنّ بعداً دلاليّاً محوريّاً في النّصّ يمكن أن نلاحظه من خلال حضور شخصيّة الكاهن نفسها، إذ أنّ رجال الأمن أصرّوا على وصف سعاده بـ«الكافر الملحد» عندما قال مدير السّجن على سبيل المثال: «كافر ملحد يبشر بالكفر والإلحاد، إنه لن يأبه لك يا أبانا هذا الملحد الكافر»، غير أنّ الكاهن نفسه أظهر تعاطفه معه لا سيّما حينما يبادر سعاده إلى إلقاء التّحيّة عليه بقوله: «يا محترم»، وحين أبلغ عن ردّ فعله تجاهه: «وكان الزعيم يبتسم صامتاً هادئاً مجيلاً عينيه من وجه إلى وجه وكأنه يودّعنا مهدّئاً من روعنا. هنا انفجرت أنا بالبكاء». وهذا ما يُسقط تهمة الإلحاد والكفر التي وُصف بها أنطون سعاده، وبالتّالي الإيحاء بضعف الحجّة تجاهه، ووهن مبرّرات إعدامه.

البعد الآخر، … ما نقله الكاهن عن لسان سعاده… لا سيّما حينما يقول: «يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أنّ الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد». فاستناده إلى التّاريخ والأحفاد والمغتربين والأجانب، كما حديثه عن الاستقلال الذي أتى بالتّضحية، يظهر أنّه أبعد ما يكون عن الخيانة، وأقرب ما يكون إلى الانتماء الحقيقيّ.

أمّا المفارقة الأخيرة، فتتجلّى في مفارقةٍ أخرى، إذ نجد الموقف العامّ يتمحور حول الإعدام، بينما الشّخصيّة المعنيّة تواجهه برباطة جأش وبكلّ هدوء، نراه من قوله: «ومشينا إلى حيث انتظرنا السيارات، والزعيم ماشٍ بخطى هادئة قوية يبتسم، إنه لم ينفعل، كأنّ الإعدام شيء نُفّذ به مرات عديدة من قبل. إنّه لم ينفجر حنقاً أو تشفّياً. إنّه لم يتبجّح شأن مَن يستر الخوف». ويعني هذا القول انّه يقهر الموت لأنّه لم يره نهايةً، إنّما وجد فيه طريقاً لاستنهاض ضمير المجتمع، وتأكيداً لمصداقيّة رسالته.

من ناحيةٍ أخرى، نجد للأسلوب الذي اتّبعه سعيد تقيّ الدّين دوراً محوريّاً في جعل القصّة على هذه الأهمّيّة. فالسّرد يطالعنا على مستويين: المستوى الأوّل امتلك فيه الكاتب نفسه زمام الرّواية، فكان بذلك الرّاوي الأوّل مع بداية النّصّ وعند اختتامه، وقد كان دوره أن يعرّفنا على الرّاوي الرئيسيّ وينقل لنا الحقائق التي عاشها، ولذلك فإنّ السّرد داخليّ لجهل الرّاوي بالحقائق التي يسعى إليها، ولعلّ هذا ما دفعه إلى استنطاق الكّاهن.

أمّا المستوى الثّاني، فيرتبط بالرّاوي الآخر الذي شكّل المصدر الأساسيّ لتطوّر الأحداث، وأعني الكاهن، وهو ما نستشفّه من عنوان القصة الذي ركّز على حديث هذا الرّاوي بالذّات. وكون المنظور السّرديّ منطلقاً من زاوية الرّؤية هذه فينبغي أن تتّسم بالمصداقية لدى المتلقّي، كما أنّه يشكّل راوياً عليماً، وبالتّالي فإنّه والحال هذه يمتلك الحقيقة حول المؤامرة التي حيكت ضدّ سعاده، وعليه فإنّ عمليّة السّرد خارجيّة نظراً لكون المعرفة التي يمتلكها الرّاوي تفوق معرفة المتلقّي وحتّى الرّاوي الأوّل.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ الكاتب اعتمد تقنية الاسترجاع بوصفها الأسلوب المهيمن على عمليّة السّرد، إذ أنّ الأحداث وتطوّرها ترد على لسان الكاهن الذي يسترجع ما جرى معه بعد استدعائه لتعريف سعاده قبل إجراء عمليّة إعدامه. وبذلك يكون تيّار الوعي مرتكزاً لتأدية الدّور الرّئيسيّ في القصّة، نظراً لكونه مكّن القارئ من الإحاطة بتفاصيل ما حدث يومها.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى صوتٍ قصصيّ ثالث يحدث من خلال الاسترجاع نفسه، وهو صوت سعاده من خلال المقطع الذي أورد على لسانه. ونلاحظ أنّ ما يغلب على لغته صيغة المقابلة البلاغيّة التي تظهر في سياق توضيح موقف صاحبها تجاه الأحداث والمؤامرات التي تحاك: «أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة». نلاحظ ورود العبارات المتقابلة وهي تعمل على إثبات عدم جدوى الفعل الذي تقوم به السّلطة، لأنّ حياة سعاده لا تنتهي بإعدام، وفي هذا يصبح قتله عملاً ثانويّاً عابراً أمام ما قام بإنجازه في الحياة، وعرضيّاً قياساً على نفسه التي أبت الاستسلام.

يمكننا أيضاً أن نجد حضوراً فاعلاً للحوار الذي استطاع أن ينقل الصّراع بين القوى الظّلاميّة من جهةٍ وبين الحضور السّعاديّ من جهةٍ أخرى، ومنه هذا الحوار: «فقال: إنّ لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ. فصرخ به أحد الضباط منذراً: «حذار أن تتهجّم على أحد، لئلا نمس كرامتك» فابتسم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمسّ كرامتي، ما أعطي لأحد أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه»، وأردف يكرّر: «لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ، وأن يسجلها التاريخ«« وهو حوار قرّبنا من الشّخصيّة محور القصّة أكثر، وأبرز عمليّة الظّلم المتعمّدة تجاهها.

في المحصّلة، نرى أنّ قصّة «حدّثني الكاهن الذي عرّفه» عمل سرديّ شديد النّضج تميّز بإتقان اللّغة الأدبيّة وعناصر التّشويق في إيراد الأحداث، وباستخدام التّقنيات الحديثة في عمليّة تطوّر السّياق القصصيّ. وهذا ما جعلها تستطيع إيصال الهدف الذي أراده الكاتب ليبرز مؤامرة الثّامن من تمّوز التي أدّت إلى استشهاد أنطون سعاده.

الجدير ذكره هنا أنّ هذه القصّة شكّلت أنموذجاً عن الأعمال الأدبيّة المتأثرة باستشهاد الزّعيم سعياً لإيقاف نهضته، إذ أنّ هذا الاستشهاد قد حمله العديد من الأدباء بوصفه فعل تضحيةٍ وانبعاث، ومن وحيه نشأ ما يُعرف بالقصيدة التموزيّة وغيرها من النّتاجات التي لما تزل وستبقى تولد من فعل الحياة بتمّوز الفداء.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024