ترتفع أصوات المطالبين بمشروع قانون عصري للانتخابات النيابية وسط موازين تجزم بأنّ قوى الطوائف هي سيّدة الساح بلا منازع.
فيبدو المشهد كاريكاتورياً مثيراً للسخرية: مجموعات من المثقفين تُطلق اقتراحات تغييرية تتبنّاها وسائل الإعلام، فيشعر المواطن أنّه قاب قوسين أو أدنى من العلمنة مقابل «ماكينات» من قوى الطوائف تحاول التوصّل إلى قانون طائفي يخفّف فقط من حدّة التقاتل بينها.
الملاحظة الأولى بديهية، وتتوجّه إلى المثقفين لتسألهم كيف يعتقدون ولو للحظة واحدة أنّ بإمكان القوى الطائفية إنتاج قانون يقلّص دورها أو يقتله. فليس بإمكان «التنك» أن يتحوّل ذهباً إلا بتلوين يسقط في وقت سريع.
أمّا الملاحظة الثانية فمصوّبة نحو وسائل الإعلام التي توحي للناس بإمكانية التغيير، وتشجّعهم على النوم بثقة. علماً أنّ وسائل الإعلام نفسها ملكٌ لقوى الطوائف، لذلك تبدو جهودها في الحديث عن النسبيّة والعلمنة محاولات لاستقطاب المشاهدين، وتقديم نفسها إعلاماً ديمقراطياً تغييرياً يضحك على المشاهدين ببراعة إعلامية لا علاقة لها بالتغيير على الإطلاق، وتذهب الملاحظة الثالثة في اتجاه السؤال عن الأسباب التي تحول دون إمكانية تبنّي قانون نسبي للانتخابات!
لقد تمكّنت قوى الطوائف الأساسية من الاستفادة من أجواء الفتنة المندلعة في العالم الإسلامي، فتمحورت حول قوى الإقليم ونالت فيها شرعيّتها، وأمسكت بالدين والإعلام وإدارات الدولة. ونجحت في العقود الثلاثة الماضية في تقليص أدوار قوى التغيير الحزبيّة، فاعتقلت النقابات وأمسكت بالإعلام وأصبحت المؤسسات الدينية من أدوات هيمنتها… لم يبقَ شيء في المجتمع يمكن المراهنة عليه لتحسين شروط التغيير، وكلّ من تمرّد نال عقابه مهما علا كعبه.
تنطبق هذه الصورة على المذاهب والطوائف كلها في لبنان بشكل أصبحت فيه قياداته تشبه ملوكاً غير متوّجين… إنما على مذاهبها فقط، وتتحكّم بمصير المواطن من الولادة حتى الممات.
وأشكال الهيمنة متشابهة في المناطق… سيطرة على التعليم والصحة والتوظيف، فينمو اللبناني رجلاً طائفياً غير قابل للحوار يعيش في غيتوات مذهبية تعزله عن الغيتوات الأخرى بمعدّلات كبيرة، ما أدّى إلى إنتاج ولايات مذهبيّة وطائفيّة، لا حدود قانونية لها، إنّما تمتلك حدوداً في ديموغرافيا الطوائف.
قد يسأل مراقب: لماذا إذاً هذا الصراع على قانون انتخابات جديد بين قوى الطوائف؟ وهو سؤال على درجة عالية من الوجاهة. أمّا الجواب فيذهب للقول إنّه صراع بين قوى الطوائف على النفوذ بينها.. ويتغيّر هذا النفوذ مع تبدّل مراكز القوّة في الإقليم أو على المستوى الدولي. فبعد سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن الماضي، صعد النفوذ الغربي في المشرق العربي عموماً ولبنان خصوصاً، فازداد النفوذ المسيحي الذي عبّر عن نفسه باستيلاد قانون انتخاب جرى تفصيل دوائره على قياس السيطرة المسيحية، فأمسكت القوة المارونية الطائفية بالمجلس النيابي ردحاً طويلاً من الزمن، إنّما في الإطار الطوائفي…
ومع تحسّن العودة العربية الناصرية السورية، تحسّن وضع القوى الطائفية الإسلامية في قانون الانتخاب مع استمرار تفوّق القوة الطائفية المارونية. وبقي الوضع على هذا المنوال حتى 1990، الذي كرّس هيمنة السنيّة السياسيّة بزعامة المرحوم رفيق الحريري على البلاد مع مشاركة الشيعية السياسية والدرزية السياسية.
لقد تمكّن المرحوم الحريري من إنتاج قانون للانتخاب يؤدّي تلقائياً إلى هيمنته على البلاد، فزاد من عدد النوّاب في مناطق يسيطر عليها ـ اثنان في طرابلس علوي وماروني وعلوي في عكّارـ وضخّ في بعض الدوائر آلاف الأسماء من مؤيّديه زحلة والدائرة الأولى في بيروت والكورة .
ومع زيادة جرعات الشحن الطائفي عند القوى كلّها، أصبحت البلاد ولايات طائفية بزعامة الحريري، إنما بتوزيع مقبول للثروة على زعماء الطوائف المسيحيّين والسنّة والشيعة والدروز، وبتحالف مع القوى الدينية لا مثيل له من قبل.
وكلّما ارتفع منسوب الشحن الطائفي في الإقليم، ازداد بدوره في لبنان، فاحتكرت مصادر الثروة القوى الأساسية في الطوائف… ولأنّ لا مصادر ثروة لدينا، فقد استعاض السياسيّون عنها بالدَّين العام الذي لامس حدود الـ80 مليار دولار، وأعملوا فيه نهباً وتقاسماً من دون أيّة ردود فعل من اللبنانيّين المنوّمين في أحضان التسعير الطائفي.
والنتيجة أنّ لبنان محروم من الكهرباء والماء والبُنى التحتيّة والأمان والاستقرار والعمل، ليس لديه إلّا اللغة الطائفية التي تجعله لا يهتمّ بالعيش الكريم، مكتفياً بحملات شعوذة طائفية تسلب منه مقدرات العيش الكريم، وهذا معمّم على الطوائف كلّها.
ولذلك، فالسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: هل يمكن لقوى الطوائف إنتاج قانون انتخاب نسبيّ؟ هل تستولد قوى الطوائف قانون انتخاب عصريّاً؟ أكان أكثريّاً، أم أقلّويّاً مختلطاً.. وهو بدعة البدع… والله أعلم إلى أين نحن ذاهبون! وهناك إجابة واحدة على هذه التساؤلات كلّها، تقول إنّ استمرار هيمنة قوى الطوائف على التوظيف والتعليم والصحة والأمن في مناطقها، كفيل بإعادة إنتاجها في ظلّ أيّ قانون للانتخابات…
المطلوب تحرير «هذا المذهبي» الصغير ليتحوّل مواطناً.. وباللغة الشعبية، تعني ضرورة استيلاد ظروف صحية وتعليمية وتوظيفيّة غير مسيّسة لتحويل الانتماء المذهبي ولاء وطنياً.
هذه هي الأسباب التي تؤدّي تلقائياً إلى إنتاج قانون طائفي يؤمّن مصالح قوى الطوائف، وليس أبناء الطوائف.
وما يجري اليوم هو محاولات لتحويل قانون «رفيق الحريري» قانوناً جديداً للانتخابات، يعترف بالتغيّرات التي حدثت في الإقليم، إلى جانب الصعود «الصاروخي» لبعض القوى الداخلية، فالأمر لم يعدْ كما كان عليه قبل ثلاثة عقود، فقد تراجع الدور السعودي وتقدّم الدور الإيراني، واستعاد النظام السوري مصادر قوّته على إيقاع عودة القوة الروسية إلى مسرح التفاعلات في المشرق العربي، والانكفاء النسبي للنفوذ التركي.
ولأنّ لبنان السياسي عاكس لمواقع القوى في الإقليم، فلا بُدّ لقوى الطوائف أن تعاود إنتاج قانون انتخابات يحافظ بالحدّ الأدنى، كما تقضي أعراف الطوائف، على أوضاع المذاهب المتّصلة بالمنتصرين في الإقليم مع تراجع قوى المذاهب المرتبطة بالخاسرين في المنطقة.
وهذا منطق مرفوض، لكنّه الوحيد القابل للتطبيق في ظلّ سيادة المعايير الطائفية. وما تبحث الطبقة الطائفية عنه، هو قانون جديد يعيد للمسيحيّين بعضاً من حقوقهم التي ابتلعها الطائف في عباءة المرحوم الحريري، وهي حقوق موجودة في عهدة المستقبل والاشتراكي… وتحافظ على الوضعية الشيعية . هذا ممكن… الصراع كبير ورئيس الوزراء قال بصراحة إنّ حزبه لن يقبل بأيّ مشروع ينتزع أيّ جزء من نفوذه، وكذلك فإنّ النائب وليد جنبلاط يرفض التنازل عن قسم من نوّابه الذين يفوق عددهم عدد نوّاب الطائفة الدرزية بكاملها…
هذه هي أجواء التغيير… وهو تغيير يقضي بالعودة إلى القرون الوسطى حتى يبقى اللبنانيون تحت عباءات قيادات تسعى إلى اقتسام البلاد على جثث المخدّرين بأساطير دينيّة يرفضها الله ويأباها…
والمأمول أن لا يستمرّ المثقفون في دغدغة أحلام الناس جزافاً، فليقولوا الحقيقة لأنّها الوسيلة الوحيدة التي تؤدّي إلى بناء نظام مدني لبناني يُطيح الطائفية وقواها…
|