لا تنتهي قصص ما بعد الحرب لعسكريين مسرّحين ناجين من العنف الماضي، ومصابي الحرب ومختطفين محررين. كل سوري لديه حكاية عن العبور من الموت نحو الخلاص الفردي، وما يرافقه من هواجس وذكريات وطموحات وعقد ذنب. ويختلف كلٌّ بحسب درجة تأقلمه مع رتابة الحياة الحالية عام جديد يمرّ على عمر الحرب التي تنحسر تدريجياً عن البلاد، كاشفاً الستار عن قصص لا تنتهي حول ما خلّفته الأحداث الدموية على من عايشها واكتوى بنارها. الآثار المباشرة تكاد تكون مدمِّرة على الصعيد الإنساني والاجتماعي، إذ إنها أدت إلى تغييرات جذرية في نسيج المجتمع ونفوس أبنائه. فمن تفكك أسري بنتيجة النزوح واللجوء، إلى فقدان أفراد من الأسرة كانت قد اعتمدت عليهم سابقاً في إعالتها، وصولاً إلى تغييرات نفسية لا يمكن أن يلحظها المرء بسهولة، غير أنها أخطر بكثير مما يمكن توقعه. فكرة النجاة بدت هاجساً لكثير من السوريين الذين عانوا أهوال الحرب وأخطارها، ولا شك أنها كانت أملاً صعباً لبعضهم، حيث كان الموت يرافق أبناء البلاد في كل مكان.
«أبطال» يحسدون الشهداء!
يظهر شخوص من مرحلة العنف السابقة وقد تخرّجوا من الحرب بمرتبة «أبطال»، وفق تسميات الشارع الموالي في سوريا، فهم عناصر الدورة 102 في الجيش الذين تسرحوا قبل أشهر. من بقي منهم حياً بعدما أمضى سنوات الحرب على خطوط التماس، خرج إلى الحياة الجديدة منكوباً من الحزن على رفاقه الشهداء، ناسياً أو متناسياً آلية العودة إلى اليوميات الروتينية التي يعيشها البشر العاديون. منهم من ينظر إلى عيون الفرحين من حوله بالكثير من الدهشة: «إن في البلاد أفراحاً وليالي ملاحاً، فيما أمضى سنواته السابقة بين الأنقاض ورائحة الدماء!». وبأي حال لم يتوقع أي منهم استقباله مع رفاقه الناجين من المَقتلة الكُبرى بأكاليل الغار. ولم يتوقعوا أن ترش النساء الأرز والورد على رؤوسهم «المظفّرة» العائدة بالسلامة. نهاية عادية انتظرتْهم، وأحياناً حزينة وقاسية وبصورة غير متوقعة من الجحود. أحد هؤلاء الناجين، حيدر عيسى، الشاب الذي تخرج من كلية التجارة ومضى إلى الحرب مخلّفاً وراءه عائلة تنتظره طيلة ثماني سنوات، وعاد منها وقد توفيت والدته التي أنهكها المرض والحزن والخوف عليه. «الحرب جعلتني أعرف قيمة الأشياء أكثر. إنما هُناك خسائر لا تعوّض. أمي التي رحلت في غيابي ورفاقي الشهداء، فأين العزاء؟»، يقول. يعمل الشاب حالياً في مجال التسويق الدوائي، غير أنه يعترف أن الطموحات ليست كبيرة، إذ صارت «الأيام مثل بعضها»، بالنسبة إليه، ولا ثقة لديه أن القادم أفضل. التفكير في تكوين عائلة وإنجاب أطفال أضحى خارج تخيّلاته، فهو الذي ما زال يستيقظ ليلاً على كوابيس المعارك، منادياً على وجوه من رحلوا من رفاقه. وهو الذي يعيش على ذكريات الأصدقاء الشهداء، يحسدهم لأنهم أقلّ منه حيرة حيال التأقلم مع الواقع الجديد الذي يعيشه في مدينة طرطوس الساحلية الهادئة.
178 ألف ليرة... ودور في طابور الغاز
التقاطعات ذاتها يمكن للمرء أن يلحظها حين يتابع واقع جرحى الحرب المسرّحين بداعي الإصابات الجسدية. واقع مأسوي لا يمكن تجاهله، وسط حاجاتهم التي لا تنتهي على الصعيد الصحي والنفسي. غير أن الإهمال الرسمي حيالهم، وعدم اعتبارهم أولوية البلاد التي تتجاوز أهمية إعادة الإعمار مثلاً، والتي ينقب المسؤولون رؤوس المواطنين فيها ليل نهار، يزيد وضعهم سوءاً. في محل صغير ضمن مدينة اللاذقية يجلس فراس سلمان، الجندي المسرّح بعد فقده إحدى عينيه الخضراوين، جراء إصابته بشظية قذيفة هاون. نال الشاب تعويضاً وقدره 178 ألف ليرة، وجمع مدخرات والديه القليلة، إضافة إلى سحبه قرضاً شخصياً، ليفتتح محله. «تزعجني أحياناً تعليقات الأطفال الذين يسألونني عن سبب اختلاف إحدى عيني عن الأُخرى. أحزن لأن أهلهم لم يشرحوا لهم أن هناك من دافع عنكم ودفع الثمن. مع أني لا أهتم إجمالاً بآراء المحيطين حيال إصابتي»، يقول فراس. يحمل الشاب ذكرياته عن أسره في إحدى المعارك وتعرضه للضرب والتعذيب داخل سجون أحد الفصائل المسلحة. يروي: «كان في السجن عنصر يتبع لفصيل مسلح آخر مُعادٍ للسجّانين. الوجع والخوف جمعني معه، فصرنا أصدقاء مع أننا أعداء بالضرورة. أحياناً كان يتلقى الضربات بدلاً مني عندما أكاد أسقط مغشياً عليّ. إنها من مفارقات الحرب ومبادئها المتناقضة». ويضيف: «ترافقني، اليوم، ذكريات عن لحظات موت رفاقي بين يدي. وأتوتر عندما أسمع أصوات مفرقعات». تشاؤم الشاب يجعله يتخيّل حاله لولا الحرب، إذ لن يكون إلا «عاطلاً من العمل أو باحثاً عنه». يروي حادثة عن تكريمه بوقوفه في الدور للحصول على الغاز، خلال أزمة الغاز الحالية. الإصابة سمحت بأن يوضع مع زميل له أول طابور المنتظرين، وحتى قبل الضباط. غير أن حادثة فردية كهذه، بحسب تعبيره، لا تعبّر عن وضع الجرحى الصعب ومعاناتهم المهولة. أو لعلّ مجرد اضطرارهم للوقوف في الطابور، على رغم إصابتهم، للحصول على عبوة الغاز المعدنية التي افتقدها السوريون مؤخراً، يعبّر عن رداءة أوضاعهم فعلاً.
مجرد الحياة... معجزة
وللمختطفين المحررين أوضاعهم المُشابهة أيضاً. هؤلاء الذين كافأتهم الحياة بالحرية والبداية الجديدة، لم ينتظروا أكثر من هذا التسريح من الذلّ والعودة إلى الأهل ونيل حق الحياة. غير أن الحياة التي ناضلوا لاستعادتها لم تكن بهذه الوردية من التعويض عن أيام الأسر والحرمان. ومع ذلك تبدو الصبية يارا محمد إحدى المختطفات المحررات من مدينة دوما أكثر المتأقلمين مع الحياة التي كُتبت لها مجدداً. في ظاهر الأمر، فإن الصبية لا تعبّر عن التجربة الأليمة التي مرت بها، عقب أحداث عدرا العمالية الدامية. تتابع دراستها الجامعية في الهندسة في محاولة لتعويض ما فاتها من علم. تقيّم الوضع بقولها: «لولا هذه التجربة لكنت الآن متخرجة وأخطو أولى خطواتي في الحياة العملية. التجربة أثرت في صحتي بالدرجة الأولى، ثم في حياتي الاجتماعية». تغيّرت وجهة نظر يارا في الناس والأقارب والطائفية، ولا سيما بعدما وحّدها الألم مع الكثير من الأصدقاء من مختلف المناطق وتبادلوا المساعدة لتخطّي الأزمة، بالتزامن مع افتقادها الدعم من أقرب الناس. طموحات الشابة لم تتأثر، على رغم ظروف الحرب وصعوبة المعيشة التي باتت عراقيل تواجهها، غير أنها لا تتوقف عندها. كما أنها لا تستسلم لذكرياتها، حتى مع استحضارها في مواقف معينة، فتواصل حماستها لإتمام دراستها وتعلُّم شيء جديد كل يوم. تقول: «بعد هذه التجربة انتفت مخاوفي من أي شيء. عندما أعود بذاكرتي إليها، أشعر أن حياتي الحالية معجزة، على رغم أني لم أكن أرى نهاية لقسوة التجربة. وعندما تحررت وبقي أهلي قيد الاحتجاز كنت أرجو خلاصهم وأخشى فقدهم. عودتهم قبل أشهر كانت نهاية سعيدة لرحلة طويلة من الألم». وتنضم قصة يارا إلى قصص آلاف السوريين الآخرين الذين حاولوا اجتياز نكباتهم، فانتهت نهاية عادية لا تليق بهول المأساة، أو نهايات حزينة حملت نكبات إضافية.
|