إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أي عقل له الصدارة في علمانية عادل ضاهر؟

د. ربيع الدبس

نسخة للطباعة 2005-12-04

إقرأ ايضاً



لعلّ أول مرة وقع فيها نظري على تعبير ( ولا أقول فكرة ) "أولية العقل" The Primacy Of The Intellect كانت في كتاب وضعه "جيلبرت رايل" الذي كان أستاذاً للفلسفة الميتافيزيقية في جامعة أكسفورد(1) وفي هذا الكتاب يرى رايل أن العمل الفكري هو ذو أولية ثقافية ـ حضارية، وأن ثمة نزوعاً لدى علماء المعرفة وعلماء الأخلاق إلى الادعاء أن وجود العقل يستلزم ـ بالحقيقة لا بالقوة ـ وجود واعظ أو واعظين داخل الإنسان، يتمثـّل أحدهما بالمعقولية ( أو المنطق )، والثاني بالضمير ( أو الوجدان ). ويستنتج: إن معقوليتي هي ما لم أصره بعد من المعقولية الكاملة، ووجداني هو ما لم أصره بعد من الوجدانية الكاملة(2).


بعد ذلك بسنوات، أي العام 2001، استرعى انتباهي صدور كتاب للمفكر العلماني الدكتور عادل ضاهر بعنوان "أولية العقل: نقد أطروحات الإسلام السياسي"، وفي هذا الكتاب الذي شكّل مجرد صدوره حدثاً فكرياً يستحق الرصد، يلخّص ضاهر أطروحات الإسلام السياسي التي تثير أسئلة فلسفية في خمس هي:


أولاً: النقل ذو أسبقية على العقل.


ثانياً: الإسلام دين ودولة.


ثالثاً: لا يمكن للإنسان أن يتدبر شؤون دنياه بدون توجيه إلهي.


رابعاً: لا إجتهاد في موضع النص.


خامساً: لا تعارض بين قيام دولة إسلامية والديمقراطية في بعض جوانبها(3).


ثم يذكر ضاهر، في المقدمة، أنه يختصر النتائج التي يتوخّى الوصول إليها في القسم الثاني من الكتاب في أربع:


أولاً: لا يجوز النظر إلى علاقة الإسلام بالسياسة، أو للدولة، على أنها شيء في صلب ماهيته العقدية.


ثانياً: من المتناقض أن نفترض الإنسان عاجزاً عن تدبّر شؤون دنياه بدون توجيه إلهي في الوقت الذي نفترض عدم عجزه عن معرفة الله.


ثالثاً: لا يجوز تعطيل الدور الاجتهادي للعقل بأي نصّ ديني.


رابعاً: الكلام على دولة ديمقراطية ما هو إلا إرداف خلفي(4).


ولكن ما العقل الذي عرض له ضاهر؟ ما هو العقل النظري أو العملي؟ وما العقل وأوليته؟


يخيّل لقارئ الكتاب، عنواناً ومضموناً، أن فيه شبهاً بكلام دوكاسّيه العام عن العقل،.. عندما وصف ذهنية الفلاسفة الكبار في القرن السابع عشر، فقال:


".. الطبيعة خالية من كل قوة غامضة ومن كل عقم منظـّم: إنها تذوب عندما تنقصها وصاية العقل وقاعدته في الوحدة.


وعلى الإنسان أن يعرف هذه القاعدة، وأن يخضع لها كي يساعد على بسط سلطانها، وعليه أيضاً أن ينسجم دائماً مع العقل"(5).


وكأن الكلام العام عن العقل شبيه أيضاً بملحوظة فلسفية لضاهر نفسه على بعض المقاطع الشعرية التي قال فيها أدونيس: "ما سمّاه العالم عقلاً سأسمّيه رمية نرد" "لم يجبني عقل الكواكب لمّا سألت: أجابت قناديلها".


فيجزم ضاهر أن أدونيس يرى بأن التأويل العقلي، بصرف النظر عن الصورة التي يتخذها، ليس البديل الوحيد لتأويل العالم، ثم يقول: "ليست الطبيعة المعقلنة هي مطلبه ( يقصد أدونيس ) على المستوى الأبستمولوجي، بل الطبيعة كما تتكشف له بعد تعليقه كل العمليات العقلية. ما ينير له، في هذه الحالة الطريق إليها ليس نور العقل، بل نورها ( "قناديلها" )، هي، الذي لا يسطع سوى خارج عمليات العقلنة"(6).


في الفصل الأول من كتابه "أولية العقل" يؤكد المؤلف على تبنّيه أطروحة أولية العقل ولو لم تكن جديدة عليه كما يقول "فقد قال بها مفكرون عرب كشبلي الشميّل وفرح أنطون وأنطون سعادة من مفكري النهضة، ومفكرون كصادق جلال العظم وفؤاد زكريا ومحمد عابد الجابري وناصيف نصّار وسواهم من مفكرينا الحاليين"(7).


وواقع الأمر أن طرح ضاهر حول مفهوم العقل بعامة يوحي للقارئ أن العقل يحدد مفهومه!! وهو هنا عقل المؤلف الذي أغفل أن الكلام على أولية العقل يفترض موقفاً إعتقادياً إيمانياً مثل القول بأولية الله، أي العقل المطلق. من هنا أقول ـ وأنا الذي حبوت ونشأت على قيم العقلنة ـ إن محاولات ضاهر البرهان على صحة الأطروحة الفلسفية التي يتبناها هي محاولات منحازة Biased. والمفكرون العرب الذين أشار إليهم ضاهر في المقطع السابق طرحوا ـ بمعظمهم ـ مسألة العقل من الجوانب التي رأوها الأصوب. فشبلي الشميّل قال بالعقل العلمي البحت، وأنطون سعادة قال بالعقل القومي الاجتماعي شرعاً أعلى. وناصيف نصّار طرح مسألة العقل من موقع المتقصي المحايد الذي يسائل ويتحرّى قبل أن يحكم. هوذا يطرح سؤالاً، في مطارحته الخامسة للعقل الملتزم، عن مقومات العلاقة بين العقل والايديولوجية من حيث أنها علاقة نظرية، بأن المقصود بها "العلاقة الناتجة عن زعم العقل وادعاء الايديولوجية الكشف عن الحقيقة. فالعقل بطبيعته يزعم أنه هو القوة القادرة على الوصول إلى الحقيقة، وأنه الحكم الصالح في القضايا المعرفية، وأن نمو المعرفة الانسانية يتم بفضله، لا بفضل قوى الظن والاعتقاد. والأيديولوجية بدورها تدّعي امتلاك الحقيقة، وتؤكد أن النظرة إلى الانسان والعالم التي تنطوي عليها هي نظرة صحيحة، بل هي النظرة الصحيحة وكل ما عداها ناقص أو خاطئ. ومن هنا تنشأ علاقة دقيقة بين العقل والأيديولوجية ـ علاقة يبدو للوهلة الأولى أنها تنافس وتنازع بين قوتين منفصلتين حول امتلاك الحقيقة واحتكارها. لكنها في الواقع أكثر من مجرد تنازع خارجي حول الحقيقة. إذ أنها لا تترك العقل منفصلاً عن الأيديولوجية، ولا تترك الأيديولوجية منفصلة عن العقل"(8).


ثمّة علاقة إذاً بين العقل وطرائق التفكير، إلاّ أن ثمّة تمييزاً كذلك، إذ لا يمكن مثلاً مطابقة العقل بطرائق الفكر ذاتها،.. أو بعضها أو حتى إحداها. إن الدكتور ضاهر اعتمد الاستنتاج Deduction، ومن طرائق التفكير الاستقراء والاستدلال. وطرائق التفكير تختصّ بفرع من فروع الفلسفة، أي بعلم طرائق التفكير أو مناهج التفكير Methodology.


إن الدكتور عادل ضاهر جزم أن للعقل أولية، ونحن نسأل مثلاً هل العقل هو الذي نقل أو أوحى إلينا الخبر عن الملاك جبريل؟ إذا كان الأمر كذلك فكيف؟ وإذا كان المؤلف قد قرّر أن للعقل أولية فهل استشار عقلاً آخر، أو هل أجرى دراسة لعقول البشر قبل أن يصل إلى هذه النتيجة التي جعلها عنواناً لكتابه؟ ثم، ألا تفترض الأولية تراتبية؟ فماذا يقع في المرتبة الثانية والثالثة والرابعة، إلخ؟ ونخشى أن يكون هذا الكتاب ذاتياً Subjective أكثر منه موضوعياً Objective ولقد قال لي أحد المفكرين المتابعين للشؤون الفلسفية في بيروت: أن المحصلة الأخيرة لكتاب ضاهر كأنما هي قرار، بل أمر صادر عن المؤلف، وما على القراء إلاّ الامتثال.


وربما كان المطران المفكـّر جورج خضر يتناول، بالنقد، المنهج العقلي الذي عاد الدكتور عادل ضاهر فاتبعه، حيث يتناول خضر اتهام رجال الدين أو اللاهوتيين بأنهم غير عقليين، فيطرح الأسئلة المشروعة التالية: "هل هناك عقل واحد مطلق لا يتزحزح يكره العقول كلها؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تهافتت العقول وأبدعت فلسفات مختلفة ومتناقضة؟ كل هذه العقلانية الباردة، المصبوبة اسمنتاً مسلحاً أين تجدها؟ وهل من عقل خارج عقلي وعقلك؟ وهل عقلك مثل عقلي ولا يتأثر بما هو خارج عنه؟ وأي عقل يقول لك أن سمفونيات بيتهوفن هي الأجمل أو أنّ " أراك عصّي الدمع " ألطف قصيدة حب في الشعر العربي؟ ومن قال أنـّك كنت على حق لما أحببت زوجتك؟ الكثير من أمور الوجود لا تدخل في المبحث العقلي..."(9).



غنيّ عن التفصيل إذاً أن الأمر ليس بهذه البساطة، بل إنه لا يقبل التبسيط والأحكام الفكرية التعسفية. فها هو كاتب آخر يطرح مجموعة من الأسئلة الجديرة بالتأمل: "هل يرتبط مولد العقل في تاريخنا العربي، بحالة مأساوية كالشهادة ـ بوصفها كاشفاً لمعنى حياة أو لما وراء حياة ـ أم يرتبط بالاسلام، بوصفه دين ثقافة ودولة؟(10) أم أن عقل الفرد/ الشاعر/ النبي/ الفيلسوف/ العالِم إلخ، هو الذي يولـّد ذاته من عين معاناته، من لعبة دمه، فيعقلن عادات الجماعة وتقاليدها ويمنحها عقلاً جامعاً في زمان المكان؟"(11).


هذه الأسئلة، برغم طغيان الأسلوب الأدبي عليها، تبدو أسئلة كبرى محتاجة إلى أجوبة بحجمها، لكن خليل نفسه لم يقدم في كتابه أجوبة بحجم أسئلته.


أما عادل ضاهر فيحاول الاجابة على أسئلة كبرى برغم الخطأ المنهجي الذي يسم مؤلـّفه الجاد. وها هو ينبئنا بأن القدرة على تعقل الأشياء لا تنمو أو تنضج باستقلال عن الشروط الاجتماعية، وأن على الانسان أن يلقـّن خلال نشأته، كيف يتعقل، إذ أن امتلاك العقلانية أو امتلاك عقل، بالمعنى المراد، يأتي نتيجة لاخضاع الكائنات التي تمتلك الطاقة على تعقل الأشياء، للشروط المناسبة لتنشئتها اجتماعياً، إلى أن يقول:" إن الحاصل الأخير للتنشئة الاجتماعية هو كائن عقلاني بالفعل، أي كائن مكتمل العقل"(12).


بدورنا نحن نسأل: أليست التنشئة الاجتماعية متغيّرة زماناً ومكاناً؟ فهل يعني ذلك أن العقل مانع يتخذ صورة الاجتماع البشري؟ ويتجدد سؤالنا بالنسبة لما عناه ضاهر، متأثراً بجيلبرت هارمان، من أن العقل النظري هو محكمة الفصل في الاعتقادات! والعقل العملي محكمة الفصل في الغايات! كذلك القول بالنسبة لرأي ضاهر حول العقل النظري والتماسك في تفسيراته لعالم الوقائع حوله، وحول كون وجود نقص أو عدمه في العقلانية النظرية يتوقف كلـّياً على مدى تماسك الاعتقاد المعني تفسيرياً مع اعتقادات أخرى صدقها معروف. فهل التماسك مثلاً هو القدرة على التفسير من قبل الفرضية؟ أم عدم التعارض مع فرضيات أخرى جرى قبولها؟ أما كلام ضاهر، على " الطابع غير الوتيري للاستقراء مقابل وتيرية الاستنباط" وكلامه عن " التماسك السلبي والايجابي" فيبدو لنا تكراراً شبه حرفي لكلام هارمان(13).


حتى الحديث عن " الاعتقادات المنطقية " يتطلب تحديداً لأن المنطق أنواع. صحيح أن ضاهر يدافع عن منطق أرسطو ـ المنطق الصوري ـ ولكن ماذا لو كان هو المنطق الرياضي أو المنطق الهيغلي؟(14) أما تأييد ضاهر الواضح للتأويل الابستمولوجي لأطروحة أولية العقل فتأييد محصّن بحيثيات أربع(15)،



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024