لحظة يقرأ زائر المكتبة على غلاف هذا الكتاب عبارَتيْ «مقالات ضائعة» و«241 نصاً مجهولاً»، لا بد أن يطرح السؤال التالي: هل يعقل ان تبقى نصوص لسعاده بهذه الكمية خارج الأجزاء الستة عشر من «الآثار الكاملة» والأجزاء الاثني عشر من «الأعمال الكاملة»؟
من حيث الواقع، يمكن القول ان كل الأعمال او الآثار «الكاملة» لأي مبدع، في كل الأمم، ناقصة. لذلك، جمعت الروائية الدمشقية غادة السمان بين الطرافة والموضوعية حين توّجت أغلفة أجزاء نتاجها بالعنوان العام «الأعمال الناقصة».
ويرتفع منسوب النصوص المجهولة عندما يكون صاحبها غزيراً في نتاجه، ويغيب توقيعه عن جزء كبير من مقالاته، أو يُذيل بعضها بتواقيع مستعارة. وربما يكون سعاده، الذي بدأ الكتابة في «الجريدة» وهو في السابعة عشرة، وختمها في «الجيل الجديد» وهو في الخامسة والأربعين، من اكثر الكتّاب المبدعين في لبنان وعموم سورية الطبيعية والعالم العربي، ليس فقط في نتاجه المتدفق كالسيل، بل ايضا في ناحيتين اضافيتين: استعماله لعدد غير قليل من الأسماء المستعارة ومنها بعض الأسماء الحقيقية لعدد من اعضاء حزبه، و...نشره لمعظم مقالاته من غير ان يتوّجها او يذيّلها بأي توقيع. وبالمناسبة، فان الجزء الأكبر من النصوص المعاد نشرها في «الآثار والاعمال الكاملة» كان خالياً من أي توقيع حين نشر للمرة الاولى في احدى الدوريات. وبالمناسبة ايضاً، فقد روى لي مدير مطبعة فضول حيث كانت تطبع جريدة «الجيل الجديد»، الواقعة التالية التي تدل على غزارة نتاج سعاده: «دخل الزعيم هذه الغرفة ليكتب الافتتاحية ويلقي نظرة على بقية المقالات التي لم يشترك يومها في كتابتها بسبب مواعيده. كان الوقت متأخرا بالنسبة لموعد طباعة العدد. قرأ المقالات فلم تعجبه. طلب مني «خربطة» احرفها المنضدة، وراح يكتب المقالات البديلة، بدءاً من الافتتاحية، ولم نستطع أنا وسائر عمال التنضيد من مجاراته. والغريب ان الافتتاحية والمقالات البديلة كتبت من أي حذف او تعديل».
- 2 -
قلت سابقاً ان النقص في الاعمال او الآثار الكاملة ليس منحصراً في نطاق سعاده. ولنأخذ على سبيل المثال ثلاثة مبدعين من لبنان وهم جبران خليل جبران وأمين الريحاني وسعيد تقي الدين. لقد صدرت مجموعة جبران الكاملة اكثر من مرة، وكانت أولاها باشراف وتقديم الأديب ميخائيل نعيمه. ويتولى امين ألبرت الريحاني جمع ونشر نتاج عمه الضائع في عدة كتب. وأعادت «دار النهار للنشر» اصدار نتاج سعيد تقي الدين في ستة أجزاء. ومع ذلك، فقد ضمّنت كتابيّ «عقيدة جبران» و«لكم جبرانكم ولي جبراني» اكثر من مائة نص مجهول لجبران. وسأضمّن كتابي الثالث أكثر من 25 مقالة ضائعة. وأعدت نشر اكثر من خمسين مقالة مجهولة لأمين الريحاني في كتابي الجديد «كشكول الخواطر». أما مجموعة كتب سعيد تقي الدين فقد أصدرت منها حتى الآن 24 كتاباً اي بزيادة عشرة كتب عما تضمنته مجموعته الصادرة عن «دار النهار للنشر». ويصدر الكتاب الخامس والعشرون في العام المقبل. طبعاً، لا يعني النقص في اعمال فتى بشراي وساخري بعقلين والفريكة، عدم استفادة القراء والباحثين من محتوياتها. اما اكتشاف بعض النصوص المجهولة، فيزيد من الافادة. وهذا الأمر ينطبق على «الآثار الكاملة» التي كان من فوائدها شقها للطريق الموصل الى مئات النصوص المجموعة بعد أن كانت متناثرة في بطون الصحف شبه المفقودة، وقد أعيد نشرها في ستة عشر جزءاً. كذلك كان من فوائد «الأعمال الكاملة» انها اضافت نصوصا غير قليلة، وأعادت نشرها في اثني عشر جزءاً.
واذا استدعت الثغرات في السلسلتين بعض الانتقادات، فلا يطال النقد العمل الجليل المفيد الذي قام به كل من قاد ورشتي الآثار والاعمال ومن اشترك فيهما. لذلك يجب على كل من عمل ويعمل في نبش تراث سعاده ونشره، ان يكون متواضعاً فيعترف بحقيقتين: اولاهما ان المهمة الجديدة التي يقوم بها، قد سبقه اليها آخرون واستفاد هو من سابقيه... والثانية ان النتيجة التي يصل اليها، لن تكون الخاتمة. فقد تظهر في المستقبل مخطوطات لسعاده ومقالات له غير معروفة، حيث يعاد طبعها في كتاب جديد يكمل ما سبقه.
- 3 -
ولكن المقالات التي يحتضنها هذا الكتاب - اسوة بمعظم ما نشر في الآثار والأعمال - خالية من اي توقيع صريح، باستثناء قلة منها مذيلة بتواقيع مستعارة. فما هو المعيار الذي ارتكزت عليه حتى أثبت انها من مقالات سعاده الضائعة؟
ثمة معايير اساسية ثلاثة يمكن الاستناد اليها كي يتم تحديد ملكية سعاده لأي نص لا يحمل توقيعه الصريح.
المعيار الاول أن يشير سعاده نفسه في احدى رسائله او في احد خطبه او مقالاته بأنه كاتب هذه المقالة او تلك النصوص المنشورة في احدى الدوريات، المعيار الثاني أن تكون المقالات المنسوبة الى سعاده منشورة في احد ركنين او بابين من ابواب الجريدة التي يصدرها الحزب: باب الافتتاحية، او «المقال الاول» وركن السياسة الخارجية. ذلك ان سعاده، وهو الصحافي منذ العام 1920، والمعروف بتحريره لأبواب السياسة الخارجية في «المجلة» و«الجريدة» البرازيليتين و«اليوم» الدمشقية، قد عاد وحرر موضوع السياسة الخارجية في صحف الحزب الاربع وهي «النهضة» البيروتية، و«سورية الجديدة» و«الزوبعة» و«الجيل الجديد». ولأنه كان، عملياً، رئيس تحرير تلك الصحف، فقد حرر ايضاً «المقال الاول» فيها، اسوة بسائر رؤساء التحرير الذين يحررون الافتتاحيات. المعيار الثالث: لا بد أن يحمل مقال سعاده المنشور في حيّزي الافتتاحية والسياسة الخارجية، أو في حيز آخر من الجريدة، بصماته، بدءاً بمضمون النص المصاغ بمنهاج سعاده المتمحور على مبادئ عقيدته الأساسية والاصلاحية، ومروراً بالعبارات والكلمات والمصطلحات التي ترد باستمرار في كتاباته من مثل «الرسمال»، «الثورات الاعتباطية»، «السلم المسلّح»، «طول سورية وعرضها»، «المجد»، «الفشل الباهر»، «دعاوة»، «دونكيخوت»، «من يعش يرَ»، «لا مشاحة»، «الأحزاب الشخصية الضيقة»، «السياسات الشخصية»، «الانترنسيونية»، «اميركانيا»، «يناير اكتوبر مايو» – بدلاً من كانون الثاني، تشرين الأول، أيار – «النظام والتنظيم»، «الدكتاتورية الديمقراطية»، «الصنّاع والزرّاع»، «سورية الجنوبية»، «المتَّحد»، إلخ.
- 4 -
هنا تجدر الاشارة إلى أن بعض الكلمات والعبارات من مثل «من يعش يرَ» التي وردت بكثافة في العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي، قد غابت في النصف الثاني من الثلاثينات، والأربعينات، من القرن نفسه. في حين تغير بعض المصطلحات كأسماء الأشهر في مقالات «الجيل الجديد» الصادرة في أواخر الأربعينات فأصبحت: كانون الثاني وتشرين الأول وأيار إلخ، بدلاً من يناير واكتوبر ومايو إلخ.
وتداول سعاده عبارات «المسألة الفلسطينية» و«المسألة الشامية» و«المسألة اللبنانية» حين يكون بصدد الكلام عن فلسطين والشام ولبنان منفردين. أما عندما يتناول هذه الكيانات السورية مجتمعة، فيتداول عبارة «القضية السورية». ومع ذلك، فقد حلّت كلمة (القضية) محل (المسألة) في عدد قليل من مقالاته عن فلسطين في باكورة الدوريات الحزبية. أما عبارة «بلاد الشام» التي يتداولها المصريون وغيرهم على أساس انها تشمل لبنان والأردن وفلسطين والجمهورية السورية، فيستعملها سعاده مرادفاً للجمهورية السورية فقط. فإذا قرئت عبارة «القضية الفلسطينية» في بعض المقالات، فلا يجوز القول انها ليست لسعاده. كذلك، إذا تضمنت بعض الافتتاحيات المنشورة في جريدة «النهضة» رفضاً لتدخل العراق وسياسييها أمثال نوري السعيد، في المسألة الفلسطينية، لأن الأخيرة، برأي سعاده، شأن سوري لا يجوز الخوض فيه من خارج سورية، فإن كاتب المقالات يمكن أن يكون سعاده، باعتبار أن تعديل حدود سورية حيث باتت تشمل بلاد ما بين النهرين، لم يتم قبل العام 1946. أما مصطلح «سورية الكبرى» الذي ورد في احدى افتتاحيات «النهضة» فلم يكن دخيلاً على أدبيات سعاده وإن يكن مقلاً في تداوله. لعل مقاله «سورية الكبرى» الذي نشره في العدد 62 من «الزوبعة» بتاريخ 1 تموز 1943، والمعاد نشره في الجزء السادس من «الأعمال الكاملة» خير دليل.
- 5 -
أعود إلى المعيار الذي حددت به ملكية سعاده لمقالات «رأي النهضة» المنشورة في جريدة «النهضة» بين 14 تشرين الأول 1937 و17 أيار 1938. في الواقع، ان المعايير الثلاثة تؤكد منفردة ومجتمعة على أن المقالات الضائعة مكتوبة بنهج سعاده وأسلوبه. فهي تعج بالكلمات والمصطلحات السعادية. وهي ايضاً منشورة في حيز افتتاحية «النهضة» التي تولّى سعاده، عملياً، رئاسة تحريرها، وحرر، تالياً، مقالها الأول. أما تأكيد سعاده نفسه بأنه كاتب المقالات المعاد نشرها في الكتاب، فقد ورد مرتين في رسالتين منه للأديبة ادفيك جريديني (شيبوب). في الرسالة الأولى المذيّلة بتاريخ 2 تشرين الأول 1937 يقول سعاده ما حرفيته: «أبشرك بأننا نجحنا بالحصول على تصديق الرخصة لجريدة (النهضة) وهو اسم الجريدة التي ستكون لسان حالنا، وإذا لم يعترض سير تجهيزها مانع قاهر، فستصدر في مجرى الأسبوع القادم. وسأكتب فيها مقالين كل يوم، مقال السياسة الخارجية، والمقال الأول تحت عنوان (رأي النهضة)». رسائل حب - من انطون سعاده الى ادفيك جريديني - 1937 - 1938، الطبعة الأولى بيروت - 1997 - ص25.
ويكرر سعاده في الرسالة الثانية المؤرخة في 24 تشرين الأول 1937، المعلومة نفسها، حيث يقول «قد حررت معظم العدد الأول والعدد الرابع، واني اكتب لها - أي النهضة - كل يوم مقالين، الواحد في السياسة الخارجية والثاني هو المقال الأول تحت رأي النهضة». المرجع السابق ص31. والمقطع الأول من العبارة يفيد ان سعاده كان أحيانا يحرر مقالات أخرى في العدد الواحد، اضافة إلى تحريره الافتتاحية والسياسة الخارجية.
وقد نشرت أحد المقطعين بخط سعاده على غلاف الكتاب الأخير، نقلاً عن احدى الرسالتين المنشورة صورتهما في كتاب «رسائل حب». وبالمناسبة، فقد اتبعت ادويك - على حد تعبير سعاده - منهجاً علمياً في نشرها للرسائل وهي مكتوبة بخط يد كاتبها المميّز. ذلك ان خط اليد الظاهر في صورة الرسالة هو الدليل الوحيد على هوية صاحبها، لذلك، كان من الضروري نشر صور رسائل سعاده في الآثار أو الأعمال الكاملة، أو إيداع أصول الرسائل أو صور عنها في احدى المكتبات العامة، ليس فقط للتأكد من ملكية سعاده لها، بل أيضاً للاطمئنان إلى نشرها دون زيادة أو نقصان.
ان قول سعاده في الرسالة الأولى بأنه سيكتب افتتاحيات «النهضة» البيروتية القومية الاجتماعية، وقوله في الرسالة الثانية أنه بدأ بكتابة تلك الافتتاحيات، لدليل كافٍ وحاسم على ان تلك النصوص المعاد نشرها في هذا الكتاب، هي لسعاده. وهكذا، لم يعد الباحث بحاجة الى البرهان على أن مقالات «رأي النهضة» هي لسعاده، وإذا كان لا بد من برهان، فلاثبات ان بعضها ليس لسعاده.
- 6 -
إذا عدنا الى الآثار والاعمال الكاملة لسعاده، نجد ان كل مقالاته في «السياسة الخارجية» أعيد نشرها، في حين ان معظم مقالات «رأي النهضة» غُيبت عن السلسلتين بحجة انها ليست لسعاده. ومن أغرب ما جرى في هذا المجال، ان الذي تولى اعادة نشر مجلد «النهضة» للعام 1937، توّج العديد من الافتتاحيات غير الموقّعة، بأحد أسماء الفرسان الثلاثة الذين تألفت منهم هيئة تحرير الجريدة، وهم: يوسف الخال، فريد مبارك، وفؤاد سليمان. وبذلك ارتكب خطأين: أولهما عدم اتباع منهج الأمانة في نشر أعداد «النهضة» كما صدرت. وثانيهما عدم تتويج المجلد بمقدمة تتضمن رأيه بأن هذه الافتتاحية أو تلك ليست لسعاده، وإنما لأحد معاونيه في مطبخ التحرير، مع إيراد البرهان العلمي على ذلك. هنا، لا بأس من فتح هلالين على ما تضمنته رسالتا سعاده لادفيك جريديني عن هوية كاتب المقال الأول في «النهضة» البيروتية. حين فتحت ورشة «الآثار الكاملة» بقيادة جبران جريج الذي تولى إدارة الجريدة في مرحلة لاحقة من حياتها القصيرة، لم تكن ادفيك شيبوب قد أفرجت عن رسائل سعاده لتنشرها في كتاب «رسائل حب». لذلك لم يعتمد جريج وسائر فريق العمل على هذا الدليل الكافي والقاطع الذي يحدد هوية كاتب مقالات «رأي النهضة». فصدر الجزءان الثالث (1937) والرابع (1938) ولم يتضمنا إلا مائة وثلاثاً من تلك المقالات.
ولكن، عندما افتتحت ورشة «الأعمال الكاملة»، كان كتاب «رسائل حب» قد صدر. وبدلا من أن تستفيد «لجنة الجمع والتحقيق» من المعلومة الواردة في رسالتي سعاده الخاصة بـ«المقال الأول»، فتعيد نشر جلّ تلك الافتتاحيات في الجزئين الثاني والثالث من «الأعمال الكاملة»، اكتفت بنشر 62 مقالا فقط بعد أن حذفت عشرات المقالات التي نشرت في «الآثار الكاملة» بحجة أنها ليست لسعاده. والطريف ان اللجنة أكدت في الصفحة 28 من المجلد 12 استفادتها من «رسائل سعاده الى ادفيك جريديني».
- 7 -
ثمة معلومة يتداولها بعض مثقفي الحزب القومي وخلاصتها ان سعاده لم يكتب في الموضوع الاقتصادي سوى بضع مقالات نظرية أبرزها النداء الذي وجهه «الى منتجي ثروة الأمة وبنّائي مجدها»، ونشره في جريدة «الجيل الجديد» العدد الصادر في غرة أيار 1949. وحين سألت مرددي المعلومة عن سر تجنبه لهذا الموضوع، أجابوا ان الاقتصاد شأن مرتبط بالأحداث المتغيرة في حين خاض سعاده في المبادىء الثابتة. ولكن بعض مقالات «رأي النهضة» تنفي صحة المعلومة الشائعة، حيث عالج سعاده في قسم منها الناحية النظرية في الاقتصاد، وتناول في القسم الباقي المعضلات الاقتصادية في لبنان والشام بصورة خاصة، ورسم لها حلولا عملية على ضوء فلسفته الاقتصادية التي ضمّنها المبدأ الاصلاحي الرابع.
وبخلاف شبه الاجماع حول المعلومة الخاطئة الخاصة بالاقتصاد، فإن الآراء ازاء موقف سعاده من الانتخابات وبخاصة النيابية منها، قد انقسمت بين القائلين بأنه دعا الى الديموقراطية التمثيلية، والمؤكدين بأنه من دعاة الديموقراطية التعبيرية. ولكن بعض افتتاحيات جريدة «النهضة» - وغيرها من افتتاحيات الصحف الحزبية التي حررها سعاده - المعاد نشرها في هذا الكتاب، تؤكد على أن مؤسس المنظمة القومية الاجتماعية وواضع عقيدتها قال بالديموقراطية التمثيلية شرط أن يكون النواب معبّرين عن رأي الأمة. وحيث ان نتائج الانتخابات النيابية ليس فقط في لبنان، وانما في أعرق الديموقراطيات كبريطانيا، لن تكون تعبيرية، لأن قانون الانتخابات مصاغ بطريقة يأتي بنواب لا يعبّر معظمهم عن الشعب الذي انتخبهم، فقد وضع سعاده الحل المرحلي التالي: يتولى الحكم في سورية الطبيعية - وفي أية دولة أخرى - قائد نهضوي من مستوى سعاده إبداعاً وعدالة ونزاهة ومناقبية وكاريزما وعلمانية وعداوة للصهيونية، فيؤجل الانتخابات لفترة معينة، حتى إذا رسخ النظام الجديد، يصبح بالامكان اجراء انتخابات تأتي نتائجها معبرة عن رأي الأمة، وليس عن رأي فئة فاسدة من رجال السياسة والاقتصاد والدين أيضاً، المرتبطين بالأجنبي.
وإضافة الى السياسة والاقتصاد، لم يترك سعاده موضوعاً إلا وخصص له اكثر من مقال. شرح رأي النهضة في التاريخ وعلم الاجتماع والموسيقى والأخلاق والتسول والقمار والانتحار والتربية والتعليم والأدب والهجرة والصحة، ودائما على الصعيدين النظري والتطبيقي. وكانت مقالاته التطبيقية مترافقة مع الأحداث كما تقضي القواعد الصحفية. لذلك حين وصله خبر مأساة الأديبة مي زيادة، كتب عنها عدة مقالات في «رأي النهضة» وفي الصفحة الأولى من الجريدة. والجدير ذكره ان سعاده كتب سلسلة مقالات عن مي في «الجريدة» البرازيلية عام 1922.
- 8 -
نادراً ما اقتصرت افتتاحية «النهضة» على مقالة واحدة. والواقع ان معظم الافتتاحيات تألّفت من ثلاث مقالات. ولما كانت كل مقالة تتناول موضوعاً مختلفاً عن سائر مقالات الافتتاحية الواحدة، فقد أعدت نشر كل مقالة بصورة مستقلة، طبعا مع تذييلها برقم العدد وتاريخه.
أما عناوين المقالات، فمعظمها توّج في الأصل بالعنوان العام «رأي النهضة» والعنوان الخاص المتراوح بين الكلمة الواحدة كـ«الهجرة» المتوج بها مقال العدد 71 الصادر في 8 كانون الثاني 1938، أو عدة كلمات كـ«الحرب على الأبواب: ماذا تفعل الحكومة؟ وماذا يفعل الشعب» الذي هو عنوان مقال العدد 83 الصادر في 23 كانون الثاني 1938. ورغم ان العناوين الطويلة قد اقتضتها الصناعة الصحفية، فلم أشأ اختصارها، انطلاقاً من منهج الأمانة في النشر. ولكن قلة من الافتتاحيات وردت من غير عناوين خاصة، وأحياناً تُوجت مقالاتها بالأرقام، من مثل مقالات الأعداد 88، 90 و100. ولأن لائحة محتويات الكتاب – وأي كتاب – تتألف من عناوين لا أرقام، فقد وضعت لكل تلك المقالات عناوين اقتبستها من النص، فغدت مقالة العدد 90 بعنوان «شهوات نفوس النواب الصغيرة» ومقالة العدد 155 «مسكينة هذه الحكومة» وإحدى مقالات العدد 88 «الجزء الجنوبي من الوطن السوري». وبالمناسبة، أعترف بأني تهيبت الأمر عندما شرعت بوضع عناوين للمقالات غير المعنونة و.. تمنيت لو ان كل الافتتاحيات كانت متوجة بالعناوين. ذلك ان سعاده الصحافي برع، ليس فقط في كتابة المقالات والافتتاحيات، بل أيضاً في نحت العناوين الجذابة، من مثل «هذا حب جشع يا تركية»، و«في لبنان عادات في السياسة لا مبادىء» و«خناجر الريجي المسنونة» و«الصحافة الشريفة مشعال الأمة» و«في المجلس النيابي تيتي تيتي».
- 9 -
لم أُعد نشر كل مقالات الافتتاحيات التي لم تنشر في «الآثار الكاملة» أو «الاعمال الكاملة». بعض تلك المقالات، وهي قليلة، كانت بأسماء صريحة، وبخاصة المذيّلة باسم فؤاد سليمان.
ولكن البعض الآخر من المقالات الموقعة بأسماء مستعارة وبخاصة «آمال» قد أعدت نشرها، لسببين: اولا لأنها منشورة في حيز الافتتاحية التي تولى كتابتها سعاده، وثانياً لأن عباراتها ومصطلحاتها سعادية. وعلى سبيل المثال، لو أخذنا مقالة «قضيتنا قضية احساس» المنشورة في العدد 41 الصادر في 30 تشرين الثاني 1937، والمذيلة بتوقيع «آمال» نقرأ في مستهلها: «ان مقياس الوجدان القومي في أمة يرتفع او ينخفض بالنسبة الى الثقافة الفكرية والتيقظ الحسي المنتشرين في تلك الأمة. وأما العلوم فلها دخل اقل في هذا المضمار». ونقرأ كلاماً سعاديا مماثلا في ختامها: «اذا لم يكن الاحساس سليماً مرهفاً، فمن الصعب على شاب مهما جملت مظاهره وكثر علمه أن يتحسس القضية القومية وضرورة ذوبان الفرد في المجموع».
أما المقالات الست والخمسون التي نشرت في الجزئين 3 و4 من «الآثار الكاملة» وغُيبت عن «الأعمال الكاملة»، فقد استغربت تغييبها لأن بصمات سعاده واضحة فيها، ناهيك بأن بعضها ممهد او مكمّل لما نُشر في الجزء الثاني من «الأعمال الكاملة». ولنأخذ مثلاً مقال «ما هي الدكتاتورية التي نعنيها» المنشور في جريدة «النهضة» العدد 80 بتاريخ 20 كانون الثاني 1938، والمعاد نشره في الجزء الرابع من «»الآثار الكاملة» في الصفحتين 106 و107، فقد غاب عن الجزء الثالث من «الأعمال الكاملة» رغم ان مضمونه جاء تتمة للمقالات المتمحورة على الموضوع نفسه و منها مقال «تشبيه» الذي نشر في «النهضة» العدد 15 الصادر في 24 تشرين الاول 1937 وأعيد نشره في الجزء الثاني من «الأعمال الكاملة» ص 193 و194... ورغم ان مضمون المقالات المماثلة المنشورة بعده كانت تتمة له، ومنها مقال «النيابة والاستبداد» المنشور في «النهضة» العدد 109 الصادر في 7 آذار 1938، والمعاد نشره في الجزء 3 من «الأعمال الكاملة». فاذا كان المقال المُغيّب ليس لسعاده فقد كان يجب تغييب مقالَيْ «تشبيه» و«النيابة والاستبداد». وحيث ان المقالين قد أعيد نشرهما، فقد كان منطقياً اعادة نشر المقال المحذوف لأنه حلقة في سلسلة طويلة تضم تلك التي سبقته والأخرى التي تلته. والسؤال الآن: لماذا لم أعد نشر مقالات «النهضة» المنشورة في حيّز الافتتاحية والمحذوفة من «الأعمال الكاملة»؟ كنت على وشك نشرها في هذا الكتاب في اطار ملحق خاص لأنها غير «ضائعة» بل خوفاً من ضياعها بعد نفاد «الآثار الكاملة» وعدم اعادة طبعها. ولكني صرفت النظر موقتاً عن اعادة نشرها بعد ان علمت أن «مؤسسة سعاده للنشر» قد تعيد نشرها في المستقبل القريب بعد ان تتأكد من وجود بصمات سعاده عليها.
- 10 -
يحفل نتاج سعاده بنصوص غير قليلة تصنّف في خانة الردود ويتّسم معظمها بالنبرة القاسية. ولم تخلُ مقالاته في هذا الكتاب من نقد لاذع موجّه نحو بعض الشخصيات والمنظمات والأنظمة وبخاصة الشيوعيين والكتلة الوطنية في الشام وبعض السياسيين ورجال الدين المتسيّسين في لبنان. فهل توسّل سعاده هذا النهج الحواري التصادمي من اجل ترويج مشروعه النهضوي، خصوصاً وان كل ردوده قد شملت نقد خصومه والسخرية منهم، والقاء الضوء على ناحية معينة سياسية او اقتصادية او ثقافية، من عقيدته الشاملة؟
في الواقع لم يتعرض مفكر نهضوي في لبنان وعموم سورية الطبيعية من نقد لاذع لم يخلُ من الظلم والتشويه، اكثر مما تعرض له انطون سعاده. وقد اشترك معظم الصحفيين والباحثين في تلك الحملات التشويهية الظالمة التي بدأت بُعيد انكشاف سرية الحزب القومي في 16 تشرين الثاني 1935 واستمرت حتى كتابة هذه السطور. لذلك، حين يكتب احد الباحثين المستقلين عن سعاده بموضوعية «يُتهم» بأنه عضو في حزبه. وهذا ما حصل مع الدكتور ناصيف نصار بعد درسه لسعاده الفيلسوف وعالم الاجتماع في كتابيه «تصورات الأمة المعاصرة» و«تاريخ الاستقلال الفلسفي»، والدكتور ربيعة ابي فاضل الذي ألقى الضوء على ادب زعيم الحركة القومية الاجتماعية في كتابه «انطون سعاده الناقد والاديب المهجري».
واذا عدنا الى الحوار التصادمي بين سعاده وخصومه السياسيين والعقائديين، نجد بشكل عام، ان هؤلاء كانوا البادئين، وان مقالات سعاده الموجهة نحوهم كانت ردوداً عليهم. وعلى سبيل المثال، بدأ الباحث والصحافي الماركسي ابراهيم حداد حملته على سعاده وعقيدته وحزبه قبل صدور «النهضة» وتحديداً في العام 1936، حيث توّج مقاله المنشور في جريدته «الرابطة الشرقية» بتاريخ 9 حزيران 1936 بالمانشيت التالية: «الزعيم سعاده يقول: انا لا اشفق على فلسطين»، والحقيقة ان سعاده أبرق الى عوني عبد الهادي، في اليوم التالي لخروجه من سجن الرمل في 9 أيار 1936 ببرقية أيد فيها ثورة 1936. وكانت حملة حداد متواصلة ومتصاعدة، وقد تساءل في احدى حلقاتها المنشورة في الرابطة بتاريخ 25 تموز 1936: «هل فقد السيد انطون سعاده عقله»؟ واجاب: «بعض المطلعين يقولون انه سيرسل الى العصفورية». والعصفورية اسم مستشفى لبناني قديم للمجانين. ولم يكتف الخوراسقف الماروني لويس خليل (ابو طقة) بسلسلة المقالات التي نشرها تباعا في جريدة «البشير» البيروتية اليسوعية وضمنها انتقادات لاذعة لسعاده وحزبه، بل هو توّجها بكتيب مصدّر بعنوان «الحزب السوري القومي مؤامرة على الدين والوطن». اما كتلة الشام الوطنية، فقد اتهمت سعاده بالفاشية والنازية وبالعداء للعروبة عبر الصحف الدمشقية المؤيدة لها، ناهيك بمنعها توزيع جريدة «النهضة» في الشام، ومنع منفذ عام الحزب القومي آنذاك اكرم الحوراني بالعنف الجسدي من ممارسة النشاط الحزبي في مدينة حماه.
- 11 -
يبقى تمنّيان: أولهما أن يقرأ القوميون الاجتماعيون مقالات سعادة الضائعة - وكل نتاجه - بانحياز على أساس انها شرح إضافي مداور - وأحياناً مباشر - لعقيدتهم، وليس مجرّد نصوص مجهولة يقرأونها بحياد إيجابي كما يقرأون مثيلاتها لجبران والكواكبي والمعلم بطرس البستاني.. وثانيهما، أن لا يقرأ المواطنون مقالات سعادة بحياد سلبي وهم الذين يقرأون بانحياز نتاج البستاني والكواكبي وجبران، خصوصاً وأن مؤلف «نشوء الأمم» كاتب مبدع ومصلح دفع حياته ثمناً لنصرة مشروعه النهضوي.
|