حلقة ثالثة وأخيرة :
-13- الأنحراف عن جادة الصواب القومي.
-14- خلاصة.
13- الانحراف عن جادة الصواب القومي:
انطلاقاً من اعتبار سعاده هيئة تأسيسية دائمة في حياته خلال فترة زعامته (1932-1949) نجد أنه لم يستطع في ظل أجواء الصدام في فترة الانتداب الفرنسي وأذنابه من رجال الدين وإقطاع سياسي (1935-1938) تعليم الرفقاء الأول العقيدة كما يجب، لعدم وجود شروحات وكتب (باستثناء الخطاب المنهاجي (1935) وشرح المبادئ ونشوء الأمم (1938)، إضافة إلى فترات السجون المتكررة. خلالها تمَّ إيكال المسؤولية في الحزب لعدد من أصحاب الغايات والمصالح. فكان في كل مرة يَعْمد إلى حملة تطهير داخلية.
كما لم يستطع سعاده تدريس عقيدة الحزب ونظامه الجديد وتطبيقه في إدارات الحزب، لأنه وضعه بالتتابع. إضافة إلى ضعف ثقافة رجال الإدارة الحزبية، وتسرب نزعات التسوية والمساومة وخلافهما إلى نفوس بعض الأعضاء.
ويشرح سعادة صعوبة مرحلة التأسيس الأولى (رسالته الى غسان تويني 9/7/1946) بسبب عدم وجود "اعضاء متنوعي المواهب" وبالتالي افتقاره الى "اشخاص مؤهلين ومخلصين".
أضف إلى ذلك المواجهات العنيفة في الساحة الإعلامية مع المتفرنسين والمرتهنين للغايات الخصوصية. كل ذلك لم يتح للحزب أن ينمو عوداً صلباً في مواجهة الضغوطات المركزة على كل من شخص سعاده ومن حزبه خلال فترة وجيزة.
البؤس الثقافي
ولقد أصاب الأمين حاماتي في كتابه "تجربة ناقصة (ص 16) في نقله صورة واضحة عن حياة سعاده الحزبية: "لقد كان المأزق التاريخي الأول الذي واجهته عملية التأسيس هذا المأزق: عجز المقبلين على الدعوة عن فهم الدعوة واستيعاب مضامينها، إلا ما كان قضايا أولية يمكن فهمها بالإدراك العادي المؤيد بالنية الحسنة..."
ويتابع الأمين حاماتي شرحه رابطاً ذلك "... بتدني مستوى الوعي العقدي الدستوري السياسي، إذن سبب تاريخي مردود إلى انحطاط مستوى الوجدان العام، في بلادنا عموماً... هذا المأزق الثقافي التاريخي، الذي نعتبر فيه جسم الحزب جزءاً من جسم المجتمع..."
واضح إذن أن امتداد حالة البؤس الثقافية التي كان عليها شعبنا إلى داخل الحركة كاد يفتك بالمؤسسات المولودة حديثاً واليافعة بسبب شدة المعارك والمناوشات مع رجال الانتداب والسجون المتلاحقة لسعاده.
واستغرق سعاده في تعليم العقيدة للمقبلين على الدعوة في ظل الظروف الآنفة الذكر، وبذل جهوداً مميزة على هذا الصعيد، ورغم ذلك فقد ظهر ضعف عقدي لدى القوميين، كذلك الأمر عندما حاول تعليمهم النظام ليكونوا عوناً له في المساهمة بتثبيت أركان نظام جديد عزَّ مثيله. فكان العمل مزدوجاً على هذا الصعيد، سعاده يعيد صياغة المواد الدستورية أعوام 1934-1935 و1936 ليعود ويصنِّفه أول العام 1937، وكان يجابه في الوقت ذاته الانتداب والحملات الأخرى التي شُنَّت على الحزب.
بروز الانانيات
إذن، لم يتسنَّ لسعاده إكمال تدريس العقيدة والدستور، وما أن سافر سعاده في رحلته إلى المغترب عام 1938، وغادر فخري معلوف (الذي كان رئيساً للمجلس الأعلى والذي قام بدور بارز على الصعيد الثقافي) أواخر العام 1939 إلى أميركانية لمتابعة دراسته، تخلفت القيادة (1940-1947) عن القيام بواجبها في هذا الشأن على صعيد الاستمرار بالندوة الثقافية وتدريس كل من العقيدة والنظام وتاريخ الحزب المتمثل بسيرة نضال سعاده. تلك الأسس التي بواسطتها ترسَّخت أركان الحزب الناشئ.
يشير سعاده إلى ذلك في خطابه في أول مارس 1938 فيقول: ان تغلّب الحزب القومي على الصعوبات العظيمة، التي وُضعت في سبيله وإثباته أفضليته للبقاء واستعادته معنوياته المثلى، وتثبيت مؤسساته بعدما لحق بها من تهديم تجعلكم الآن تشعرون أن لكم كياناً (الكيان نتيجة وجود مؤسسات) قومياً حقيقياً... والآن وقد تغلبنا على الصدمات الأولى وثبتنا مؤسساتنا فإننا نرى طريقنا واضحاً...".
كان سعاده قد أشار إلى هذا الخلل في رسائله إلى ادويك شيبوب عام 1938. فهو يكتب لها مثلاً: "يظهر إني قد اضطر لتأخير سفري إلى أواسط مارس، لأن الحزب يحتاج إلى تثبيت مؤسساته والأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم في غيابي الطويل". (21 يناير). ليعود ويكتب لها في 24 يناير: "كانت الأيام الأخيرة، على رغم تعب أعصابي، مفعمة بالشواغل السياسية من داخلية وخارجية. فإن التضعضع الواسع النطاق الذي حلَّ بالحزب من جراء الاضطهادات المتوالية، وبُعدي عن الإدارة مدة سنة ونيف، سارت فيها الأمور كما أرغب وكما لا أرغب، أوجب القيام بعمل واسع وخطة طويلة لإعادة الحزب إلى تقاليده والقبض على أعنة الأمور وكبح جماح من استيقظت أنانياتهم لتطغى على العقيدة والنظام والعودة إلى الأعمال الإنشائية والفكرية، ووضع قواعد المؤسسات العديدة التي أُهمل أمرها كل هذا الوقت الطويل...". ويتابع القول في رسالته إليها (27 يناير): "قد فعلت جهدي للسير بالحزب على سياسة سلمية للانصراف إلى الأعمال الثقافية والإنشائية (الندوة الثقافية مثالاً) وسأبذل جهدي للمحافظة على هذه السياسة ما أمكن لأننا بحاجة لوقت نرمِّم فيه ما تهدَّم من المعنوية العامة واستعادة الثقة بالنجاح القريب اللتين قد فقد معظمها أثناء وجودي في السجن وقيام أفراد على إدارته ليسوا أهلاً لإعطاء القدوة في الشجاعة والإيمان ورباطة الجأش. ولست أدري إذا كانت الحكومة ستتابع سياسة المسالمة تجاهنا أم تغيِّر هذه السياسة لقاء مساعدات إكليركية وغيرها، خصوصاً متى رأت أن الحزب يستعيد قوته ونشاطه".
وفعلاً، لم تسمح الحكومة بمتابعة سياسة السلم ليتسنى لسعاده تعليم العقيدة والنظام الجديد. فاضطر تحت الضغوط (حزيران 1938) للانتقال خلسة إلى فلسطين، فقبرص.
بعد مغادرة كل من سعاده ومن ثم معلوف الوطن، وابتعادهما القسري عن متابعة مهمة الإعداد الحزبي الداخلي، وعن مقاومة الظلم الفرنسي أخذت الأمور بالتغير والتبدل والتدهور العقدي والدستوري. فلم تتابع القيادة تدريس العقيدة والنظام، وكان خطاب "الواقع اللبناني" في أيار عام 1944. والحصول على رخصة للحزب غايته "استقلال لبنان" وخدمة هذا الاستقلال، وقد صدرت بيانات عدة عن القيادة تعبِّر عن "الاتجاه الكياني الجديد"، ومنها بيان عميد الإذاعة آنذاك فايز صايغ عام 1946 حول مشروع "سوريا الكبرى". وجرى إلغاء الزعامة والعقيدة والغاية والمركزية و... إلى آخر التحويرات والشواذات العقدية والإدارية والنظامية.
إهمال درس النظام الجديد
كان سعاده قد عمل على إصدار أول طبعة للدستور بعد تصنيفه له عام 1937. وجرى توزيعه على المسؤولين والفروع الحزبية. ولا بد أن يكون سعاده قد قام بأول عملية شرح للدستور للمسؤولين بعد ذلك.
أما الطبعة الثانية، فصدرت في بوينس آيرس عام 1941 لكن بعد تنقيحه من قبل الزعيم كما جاء في الأعمال الكاملة (الجزء 2، ص 76، والجزء 4، ص 334).
والحقيقة أن كتاب الدستور، لم ينل حظه من الدراسة والبحث من قبل أصحاب الاختصاص رغم كثرة عدد المحامين خلال حياة سعاده، والمؤسف أن تتكرر ظاهرة اللامبالاة بالشأن الدستوري بعد استشهاده.
وتؤشر رسائل سعاده في المغترب إلى معاناته من الاضطرار لكتابة الشروحات الطويلة للمسؤولين الإداريين وغيرهم حول الشأن التنظيمي للفروع الحزبية، والمسؤوليات على المستوى الاجتماعي: هيئة منفذية، هيئة مديرية أو مفوضية، إضافة إلى كيفية إقامة الجلسات للهيئات المسؤولة والاجتماعات الحزبية للفروع الحزبية. ومهام الناموس والمذيع والمدرب... ولجان المديريات ومجالس المنفذيات، وشروحات النظام الداخلي، الذي لتاريخه لم يجر إعادة نظر به وإجراء تعديلات عليه منذ أول طبعة له عام 1955 ، في ظل إهمال عام لتدريس الدستور وصياغة الأنظمة الداخلية لكل مصلحة عامة رئيسية، وللمصالح الخاصة التابعة لكل مصلحة عامة...
من المؤسف إن حالة "البؤس" الثقافي العقدي والدستوري في آن، التي كان عليها الحزب لا تزال مستمرة لتاريخه وجدير بالذكر، أن الزعيم بعد عودته إلى الوطن عام 1947، أصدر توضيحاً لحدود الوطن السوري، وكان على وشك حلّ الحزب بعد سلسلة الانحرافات التي وقعت فيها القيادة خلال غيابه القسري كما صرَّح بذلك للأمين مسعد حجل. لكن الظروف السياسية لم تسمح له القيام بهذا العمل، فطلب من الإدارات الحزبية إعادة العمل بالدستور الأساسي، كما طلب من عميد الداخلية الأمين إلياس جرجي قنيزح عام 1948، المباشرة بتطبيق المرسوم الرابع (لجان المديريات ومجالس المنفذيات)، وذلك بهدف الاسراع بخطوات الشراكة مع الشعب عبر بناء الؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي توحيد الشعب في معارك المصير القومي لا سيما بعيد اعلان قيام الدولة اليهودية على ارض الجنوب السوري.
وبعد انتهاء فترة الملاحقة، أعاد العمل بالندوة الثقافية ثم وضع لها قانوناً تأكيداً لأهمية دورها لتصويب مسيرة الحزب وتثبيتها في حياة الأمة، ولرفع المستوى الثقافي والفلسفي للمؤهلين خاصة والرفقاء عامة، درءاً للانحراف الذي وقعت به القيادة خلال فترة غيابه القسري.
باشر سعاده أعمال الندوة الثقافية أول العام 1948، فشرح العقيدة والنظام، وأعاد شرح الخطاب المنهاجي (الذي سبق أن ألقاه عام 1935) شرحاً وافياً، وفيه يتناول سياسة الحزب العامة، مؤكداً أن خطته ما زالت هي هي منذ التأسيس. ولام القوميين لسكوتهم عن الانحراف ومسايرتهم إياه "بحكم النظام"، مما يؤكد على سطحية التفكير لديهم، وتدني مستوى الوعي العقدي والنظامي بسبب القصور الثقافي السائد في مجتمعنا بشكل عام. لذلك عمد سعاده إلى تقريب أصحاب المؤهلات من أمثال هشام شرابي، ووكان سبق ان كتب عشر رسائل مطولة إلى غسان تويني شارحاً له عملية التأسيس والصعوبات التي كابدها إضافة إلى أمور عديدة على الصعيدين الثقافي والنظامي...
كما شرح الخلل الذي وقعت فيه القيادة السالفة، عاد ليؤكد في محاضرته الثانية على أن النظام "... ليس مجرد تنظيم دوائر وصفوف. النظام شيء عميق جداً في الحياة. ولذلك قلت أن الحزب السوري القومي الاجتماعي هو قوة ستغيِّر وجه التاريخ".
لنصبح هذه القوة المغيَّرة، يجب أن يحل النظام في حياتنا الحزبية والاجتماعية، والنظام في جوهره "هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الإشكال التي تحقق الفكر والنهج". ليرى الناس "أعجوبة" المسار الذي سيغيِّر وجه التاريخ..".
مراسيم جديدة
وقد أضاف سعاده بعيد عودته بعض المراسيم والقوانين التي لم تُضم لتاريخه في كتاب واحد للدستور وهي:
1- مرسوم لجنة النقد العقائدي (26 نوفمبر 1947) رداً على صدور نشرات ثقافية ضد فكر الحزب (نشرة فايز صايغ الثقافية).
2- مرسوم الشُعب السياسية (26 إبريل 1948) نقداً للأعمال التي قامت بها قيادة الحزب خلال فترة اغترابه القسري وإنشاء إدارة خاصة بالكيان الشامي، ومعتمدية لفلسطين، ورخصة للعمل في الكيان اللبناني. وكانت القيادة قد تقدمت بطلب رخصة للعمل الحزبي في لبنان وتضمَّن كتابها إلى وزارة الداخلية ما يفيد الحفاظ على "استقلال لبنان". وهذا المرسوم يسمح باللامركزية على الصعيد السياسي فقط.
3- قانون الندوة الثقافية (25 إبريل 1948)، لإحياء العمل الثقافي القومي الاجتماعي، إرساخاً للفهم العقدي والفلسفي القومي الاجتماعي.
4- المحكمة المركزية (1949)، لتركيز دعائم العدالة في الدولة السورية القومية الاجتماعية، ومحاكمة الفاسدين حزبياً.
وفي هذا دلالة على استمرار عملية التأسيس طوال حياته. وهكذا استشهد سعاده داعياً تلامذته من بعده للسير على النهج الذي سطره.
عود الى بدء
إن التأسيس الحقيقي لكيان كل من المجتمع والدولة اللذين يرتكزان إلى الدستور (عقيدة ونظاماً) الذي كان الرد على تساؤله المبدئي "من نحن"؟ إثباتاً تاريخياً بأننا أمة ذات تاريخ مجيد بناه عباقرتها العظماء في مجالات العلوم والفنون كافة، أمة جديرة بالحياة، تختزن الإمكانات الكبرى لتغيير تاريخها وتاريخ العالم بأسره، مؤسساً حزبه لبعث نهضة هذه الأمة واستعادة وجودها الفاعل.
لقد باشر سعاده عمله الحزبي في المغترب، قاصداً إنشاء حركة منظمة أثناء قيامه بثلاث تجارب حزبية سرية، وقد بقي بعض الأعضاء الجيدين على علاقة مستمرة به. ثم كان انتسابه للحركة الماسونية وانسحابه منها، ليعود إلى الوطن عام 19300 مصمماً بنشاط دؤوب وعزم ثابت على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، ثم لما عاد عام 1947 إلى الوطن، أوضح للأمين مسعد حجل، أنه يودُّ حل الحزب وإعادة تأسيسه من جديد بعدما لمس مدى الانحراف الذي وقعت به القيادة الخائنة خلال اغترابه القسري. والمستوى الثقافي المتدهور لعموم القوميين.
في هذه الأثناء أصدرت الحكومة اللبنانية مذكرة التوقيف، وبدأت ملاحقته التي استمرت تسعة أشهر. وخلالها دارت معارك عسكرية في فلسطين، مما تطلب تأمين جهاز حربي لمواجهة أحداثها التي بدأت ترخي ظلالها على أوضاع كل الوطن السوري.
كل ذلك لم يثنه عن العمل لإعادة تنظيم الحزب على الصعيدين الإداري والثقافي والبحث عن مؤهلين لإدارة أمور الحزب، فقام بسلسلة زيارات إلى بعض المناطق في شمال لبنان ثم قام بجولات إلى دمشق وحمص وحماه وحلب والساحل الشامي. إضافة إلى محاضراته في الطلبة في لبنان والشام ثم إلى المدرسين في لبنان، وأعاد ربط كل الفروع بالمركز ملغياً كل المستحدثات الغريبة التي افتعلتها القيادة الخائنة في الشام ولبنان وفلسطين، حيث استدعى معتمد فلسطين طالباً منه العودة إلى "المركزية التامة". كل ذلك لإعادة توحيد الحزب والعودة إلى الدستور الأساسي: المركزية (المادة 5 منه)، وبالتالي العودة إلى أصول الحزب وقواعده التي تأسس عليها.
في هذه الظروف المضطربة، على الصعيدين: الحزبي من جهة، والقومي في أنحاء الوطن كافة من جهة ثانية، وبالأخص تسارع الأحداث الخطيرة لمصلحة اليهود على الساحة الفلسطينية، عمد سعاده إلى شرح العقيدة والنظام في سلسلة محاضرات في الندوة الثقافية بداية العام 1948، وكان قد أعاد إنشاء هذه الندوة الثقافية في نيسان 1947 لإعادة ترسيخ الأساس الثقافي للحزب.
صحيح أن فترة التأسيس الأولية كانت في السنوات 1932-1935، تلك الفترة التي تثبتت فيها سيرة حياة سعاده سلوكاً ومبادئ في نفوس الرفقاء الأول على درجات متفاوتة، غير أنه يمكننا اعتبار عملية التأسيس الحقيقية أنها كانت عام 1948، بعد تلك الشروحات الثقافية التأسيسية، وبعد سلسلة جولاته على مختلف المناطق في لبنان والشام والعودة إلى التأكيد على نظام الحزب المركزي.
الانحراف... مجدداً
استشهد سعاده عام 1949، وعاد "الأمناء" الذين سبق لهم الانحراف عن جادة الصواب القومي الاجتماعي خلال فترة اغترابه القسرية. عادوا لمتابعة مسيرة الانحراف... وبدأت "النزاعات" بينهم عام 1953و1955 وصولاً إلى الانقسام المقيت عام 1957... وما زال الانحراف مستمراً...
كان يؤسس وحيدأً، في المغترب والوطن على السواء. وقد لاقى صعوبات عديدة خلال فترة العمل السري، منها تعليم وتدريب الأعضاء على المسؤوليات، وتوجيه الرفقاء الأُول، وكيفية تجنب المفاسد الاجتماعية وخلافها...
بعد سجنه الأول تسربت المثالب إلى بعض "المسؤولين" مما انعكس سلباً على مؤسسات الحزب. فسارع سعاده لإقامة هدنة مع الانتداب الفرنسي ليتسنى له تثبيت المؤسسات وبناء الحزب بناءاً متيناً.
وخلال سجنه الثاني والثالث إضافة إلى حادثة بكفيا (شباط 1937) لم يُعطَ الوقت الكافي لبناء المؤسسات اللازمة للعمل القومي، رغم أن عملية تصميم "المهندس" سعاده لحزبه كانت في غاية الدقة، وتطلبت منه الاعتناء باختيار الدعائم والأعمدة الأساسية للبناء كمن يحفر عميقاً في الأرض ليصل إلى الصخور الصلبة وليبني على أسس متينة..
لقد وضع سعاده كل "الخرائط" الضرورية لكل طابق من طوابق البناء الحزبي، من مؤسسات اجتماعية وأخرى سياسية. ثم عاد، وبعد استكمال عملية تصميم كل طابق وفقاً للحاجات – وكما اهتم بالأساس – اهتم بالأثاث (على حد تعبير الأمين إلياس جرجي) أي بكل التفاصيل الصغيرة لكل مؤسسة اجتماعية وسياسية، كل ذلك للتأكيد على حقيقة أن دستور سعاده كامل متكامل وكذا الأمر على الصعيد الفكري.
أما القيادات الحزبية كافة بعده فقد تخلفت عن التشريع وفقاً للبناء الدستوري القومي الاجتماعي، فلم تستكمل صياغة قوانين دستورية للرتب (الديمقراطية التعبيرية) ولم تضع قوانين داخلية لكل المؤسسات الحزبية على الصعيدين الاجتماعي والسياسي لم تعمد لتطبيق المرسوم الرابع و...
وتجدر الإشارة إلى أول عملية تطهير للحزب من العناصر الفاسدة عام 1932، فهي أول عملية استئصال للفساد عبر حلّ الحزب لإعادة تأسيسه بالعناصر الأولى المتبقية، فكانت هذه الخطوة أول تأكيد من الزعيم للسوريين القوميين الاجتماعيين بضرورة الاعتماد على النوعية الجيدة لا الكمية الفاسدة (لا بأس أن نكون طغاة على المفاسد).
إذ أن سعاده رأى وهو الخبير بأوضاع شعبه أنه لا يمكن إنقاذ أمة في حالة شلل ثقافي واجتماعي... إلاّ بالبناء السليم المعافى من كل الشوائب والمفاسد التي كانت تتخبط فيها الأمة السورية.
أصحاب الرتب
ما كانت عملية التأسيس تأخذ هذا المنحى، لو لم تكن الأمة في حالة بائسة من كل النواحي، لاسيما لجهة فقدان المؤسسات الاجتماعية والسياسية الصالحة للنهوض القومي والاجتماعي.
لقد تمعن سعاده ملياً في أوضاع مجتمعه السوري، واستطاع استيعاب كل المشاكل التي يعاني منها وطنه، بعدما درس كل عوامل تخلفه وأمراضه الاجتماعية والسياسية. إضافة إلى الإحتلالات العديدة لأجزاء من الوطن السوري وتداعيات هذه الاحتلالات على أوضاع الوطن كافة. فوضع خطة شاملة لإعادة نهوض شعبه من كبوته. فكان في هذا المعنى، صاحب قضية بامتياز. واختصر خطته في غاية الحزب. وأوضح في المرسوم السابع "رتبة الأمانة" أن أصحاب المؤهلات والكفاءات والاختصاصات العالية منهم يتم اختيار القيادة للحزب للمسؤوليات السياسية والاجتماعية كافة. وإذا كان أفلاطون وأرسطو قد ارتضيا بحكم الفلاسفة والفارابي دعا إلى المدينة الفاضلة، فسعاده دعا إلى حكم المناضلين فكراً وعملاً. ومنهم فقط يتهم اختيار القيادات التي يمكنها استيعاب مشاكل الأمة ووضع الخطط اللازمة لإنقاذ الأمة من كل الأمراض التي تفتك بجسدها. فقضية كبيرة كقضية مجتمعنا السوري، لا يمكن أن يقوم بها إلاّ "جبابرة من الجيش" المثقف والواعي والمقدام في أرض الوغى، لتحقيق الغاية التي وضعها سعاده من خلال بناء الدولة السورية القومية الاجتماعية التي دعانا لإقامتها في خطابه المنهاجي في حزيران 1935.
تشدنا لحظة التأسيس عام 1932 إلى سعاده معلماً وهادياً، وبانياً للمجتمع الجديد النابض بمفاخر حركة النهضة، التي ستبقى تستمد إشعاعها من حضور سعاده ذي القيمة الأعلى في حياة الأمة السورية، ومن دماء الشهداء الزكية على درب الزعيم الملهم والقدوة، والتي قدموها "دون منَّة" متجاوزين بذلك كل العقائد والديانات، بطولة نادرة لا تحاكيها بطولة. هي استثنائية بواقعها وبموقعها، تنشد التألق في وهج الشمس لأمة جديرة بالحياة والعز والمجد.
لقد احتاجت سورية من سعاده كل ذلك: من تأسيس القضية إلى إبداع المؤسسات التي خلت منها بلادنا منذ عقود بعكس "النهضات" الأخرى التي استعانت بالمؤسسات الموجودة للنهوض القومي. في ظل هذه الحالة الاستثنائية بإخفاقاتها، نجد اليوم، أننا بحاجة للعودة إلى الجذور التي أطلقها سعاده بإرادته، وحماها بنفسه، ورواها بدمه، لنكون في مستوى الأمانة والوفاء.
14- خلاصة:
إن الحالة السياسية الشاذة التي كانت تعاني منها الأمة السورية منذ قرون، "أمة واقفة بين الموت والحياة"، قد دفعت سعاده لأن يضع حداً حاسماً لما آلت إليه الأمور. فكان لا بد من ضبط أسبابها ليتمكن من معالجتها التي تمثلت بمبادئ الحزب الذي أسس و"نظامه الجديد" الذي أبدع.
توجه إلى دمشق عام 1930، حاملاً هذا الهاجس، فأمضى فيها حوالي السنة ونيف يلقي المحاضرات وينشر ويترجم المقالات الصحفية. ثم انتقل إلى بيروت، حيث التحق بالكلية السورية الإنجيلية التي عرفت لاحقاً بالجامعة الأميركية ليتولى فيها تدريس اللغة الألمانية، وليجد الظرف المناسب لإطلاق مشروعه في أوساط أساتذة وطلاب هذه الكلية. فتمكن من إقناع خمسة أشخاص، كانوا أوائل الأعضاء في هذا الحزب الذي كان سرياً لضمان سلامة خطواته الأولى في ظل سلطة الاحتلال الفرنسي.
غير أن سعاده لاحظ أن شخصين إثنين غير كفوئين للمهمة. فأبلغ الجميع حلّ هذا الحزب، ليعود إلى تأسيسه مجدداً بعد تأمل دقيق في اختيار المؤهلين للاضطلاع بالمسؤولية، ليكونوا مدماكاً متيناً في أساس البناء ونواة صالحة قابلة للنمو والنضج والتعاظم.
نخلص الى سعاده الخبير بأوضاع شعبه، لاسيما بعد تجاربه الحزبية السابقة في المهجر، عمد إلى:
1- إنشاء نهضة، لا حزباً سياسياً عادياً.
2- إن مسألة الحزب القومي "ليست مسألة حزب سياسي بالمعنى الاعتيادي...".
3- الحزب ليس "جمعية أو حلقة... إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها (الخطاب المنهاجي – 1935).
4- رسو تفكيره على الأساس القومي. وحدة الأمة وحياتها ومصيرها... هي الفكرة المركزية. والقومية السورية هي "دين الدنيا للسوريين".
5- انتـقاء الأعضاء واحد واحد، وتعليم كل واحد العقيدة الجديدة وتوجيهه وفقاً لنهج حياتي جديد.
6- اختيار "النوعية" الفاعلة لا "الكمية" الغافلة.
7- أنشأ حركة سرية لصيانة الأعضاء الأُول وترسيخ تربيتهم تربية قومية جديدة بسبب وضع البلاد الطائفي والعشائري والعائلي (البيت... الكنيسة)، في ظل ظروف غير عادية.
8- اختار "الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة المنحطة...": الطلبة والمثقفون.
9- الحزب مدرسة للتعليم والتربية والتوجيه القومي.
10- "أن اتخذ مبادئه... إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي..." (قسم العضوية): عود إلى بدء... الاهتمام بتنشئة العائلة وتوجيهها تربوياً وقومياً.
11- بناء مؤسسات اجتماعية جديدة بدءاً من البيت (تربية الأحداث) بسبب خلو البلاد لقرون عديدة من مؤسسات اجتماعية قومية الاتجاه.
12- بناء مؤسسات سياسية جديدة، وبالتالي نظرة جديدة إلى السياسة القومية.
13- تنقية الحزب من الفاسدين: "إن التطهير القومي قد ابتدأ مع ابتداء الحزب، ويجب أن يستمر باستمرار النهضة القومية".
14- فترة العمل السري: تربية جندية، إنشاء مدارس، تأسيس شركة تجارية (اقتصاد)، جهاز أمن...
15- تجاوز المشروع النهضوي (غاية الحزب) كل الشؤون الطارئة على الوطن السوري. فلم يكن ردة فعل على حالة الانتداب، كما لم يكن ردة فعل على أنشطة "الحركة الصهيونية" آنذاك والاحتلالات القائمة لبعض المناطق السورية.
16- يتضمن الدستور صورة واضحة للأمة – الدولة. والحزب هو المعبّر عن الأمة مصغرة: هشاشة كيانات سايكس – بيكو وما تبعها من استقلال مشبوه.
17- نظام الحزب هو النموذج المصغّر لنظام الدولة السورية العتيدة.
18- سعاده هو واضع أسس نهضة (مقدمة الدستور): مجاراة للمسار التاريخي لسورية لأن البلاد كانت معدومة المؤسسات القومية.
19- كان "التعاقد" (مقدمة الدستور) لغاية واحدة: عدم مسّ القضية القومية لكمالها:
أ - "إقامة أمر لم يسبق له مثيل في وطننا ولم يسبق لأمتنا اختبار فيه".
(رسالة إلى ادويك جريديني 6/1/1938)
ب- صيانة الحزب من الانحراف... وعدم استسلام الأعضاء بعامل الثقة (بحكم النظام) لفساد القيادات الحزبية...
20- الصحوة القومية:
أ - "إقامة علاقة وثيقة بين النخب المثقفة والشعب لبناء حياة فكرية وسياسية واجتماعية راقية.
ب- فتح آفاق المعرفة بين أبناء الشعب لتطوير حياته وإنشاء مؤسسات جديدة بدءاً من البيت والمدرسة و... بسبب غرق الشعب في قشور الدين دون جوهره (الأخلاق والقيم).
ج- تحميل الشعب مخزون ثقافي حضاري (تاريخ الأمة) يطلقه إلى عالم الحياة الجديدة وعدم بقائه أسير المعتقدات الدينية الجامدة.
21- بعد سلطة الزعامة: حكم أصحاب المؤهلات أو الرتب على الصعيد السياسي. ويتحمل اصحاب الرتب على الصعيد الاجتماعي المسؤولية في النفذيات والمديريات.
22- إصلاح الخلل القائم في العالم، عبر "الاكتشاف السوري الجديد" أي الديمقراطية التعبيرية التي هي طريقة حياة جديدة، وليست نظام حكم فقط.
23- الدرس المستفاد بعد عودة سعاده من اغترابه القسري عام 1947، وتنظيمه الحزب مجدداً بعدما لحق به من "مستحدثات إدارية وسياسية شاذة" (من رسالته إلى يوسف صايغ – أيلول 1947):
أ - أعاد التأكيد على العقيدة المحيية والنظام الجديد.
ب- محاكمة الخونة والفاسدين علناً.
خاتمة عامة:
• لم تُفهم دعوة سعاده فهماً واضحاً لتاريخه، ويعود ذلك إما لتقصير تلامذته،أو لقلة ثقافتهم وخبرتهم.
• إهمال الندوة الثقافية، والطلبة، وبناء الكوادر في مختلف المجالات، الندوة مفتاح باب العلم والثقافة السوريين.
• إن سعاده قد وضع لنا كل ما نحتاجه في كل مناحي الحياة: "... تنظيم الحركة القومية التي كانت تحتاج إلى إنشاء وتأسيس كل أمر من أمورها إذ لم يكن قبلها شيء إداري أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو دستوري أو مناقبي يصح اعتماده لنوع هذه الحركة الجديدة...". (من الظلمة إلى النور 1942).
في هذه الأيام العصيبة، نستلهم المعلم، نصغي منه إلى حكمة التأسيس: العودة إلى الجذور، وبناء حزب سعاده وفقاً لحياته العملية وقدوته واستشهاده..
|