كنا في العدد الماضي من “الفينيق” ذكرنا أننا سنتابع قراءة وفهم المقطع الثاني من قول سعاده “ما من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين، منا من أسلم لله بالقرآن ومنا من أسلم لله بالإنجيل ومنا من أسلم لله بالحكمة، فليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا إلا اليهود…”، أي المقطع الذي يتعلق بالعداوة مع اليهود.
إن مسألة العداوة مع اليهود، وعدم الاكتفاء بالعداوة مع الصهاينة، هي المسألة التي دار حولها نقاش كثير والتباس كبير وانتقادات واعتراضات كثيرة، نورد أهمها كالتالي:
بما أن اليهود هم أتباع دين سماوي هو اليهودية، فهل تجوز محاسبتهم على اعتقاداتهم الدينية؟ وهل من شيم الناس المتمدنين المتحضرين معاداة البشر بسبب اعتقاداتهم الدينية؟ وهل سعاده يفعل ذلك أو يقبل به؟ وهل الكتب الدينية وتأويلاتها واجتهاداتها وتعليلاتها هي المراجع الصالحة للمناقشة والتقرير في المسائل السياسية ومسائل الاستقلال والسيادة القومية والتحرر من الاحتلال والاستعمار؟ وهل تجوز محاسبة اليهود اليوم على ما فعله العبرانيون وأتباع موسى ويشوع بن نون وباقي “أنبياء” اليهود من غزو لأرض كنعان منذ عدة آلاف من السنين؟ وهل يجوز بالتالي محاسبة آشوريي اليوم على ما فعلته الدولة الآشورية منذ عدة آلاف من السنين بحق الجماعات والقبائل الأخرى التي جاورتها؟ أو هل يحق للآشوريين اليوم محاسبة العرب والفرس الحاليين على هدم وتخريب آشور وبابل ونينوى؟ وهل حربنا هي حرب عنصرية ودينية؟ لماذا لا نكتفي بمقاومة ومحاربة الصهيونية كونها حركة عنصرية سياسية تهدف لسلبنا وطننا، بدل التورط بحرب دينية ضد فئة دينية هي اليهود؟ وما ذنب اليهودي الذي ولد يهودياً وورث دينه عن أبيه وأمه، خاصة اليهودي الذي لا يهتم بالتدين ولا يأخذ بقصص الشعب المختار وأرض الميعاد، بل يعتبرها أموراً لاهوتية رمزية، ويرفض الصهيونية ويرفض الحرب والقتل والعداوة؟ أليست جميع الأديان تعتبر أتباعها “خير أمة أخرجت للناس”، وفيها وعود إلهية بوراثة الأرض واستخلافهم فيها؟ وهل صحيح أن اليهود كلهم، ووحدهم، هم أعداء لنا ولا يوجد غيرهم يعادينا في ديننا وحقنا ووطننا؟ ماذا عن الوهابية التكفيرية، وماذا عن الأتراك الذين اغتصبوا كيليكيا والاسكندرون، وماذا عن الفرنسيين والإنكليز الذين تآمروا على بلادنا سورية في سيفر ولوزان واحتلوا بلادنا وقسموها وطعنوها في وحدتها ولا زالوا؟ …إلخ.
لا بد من التذكير هنا بما قلناه في الحلقة السابقة من أن قول سعاده ليس قولاً مطلقاً بل مقيداً بالموضوع الرئيس، ولا يمكن ترجمته بمعزل عن ذلك الموضوع وعن الظرف والحادث الذي قيل فيه وعن الغاية من قوله. وقلنا إن هذه هي قاعدة يجب دائماً الإنطلاق منها في قراءة وفهم أفكار وأقوال جميع الفلاسفة والمصلحين والمعلمين وليس سعاده وحده.
قلنا أيضاً إن سعاده كان يرمي إلى نفي العداوة الداخلية بين السوريين وإحلال الأخاء القومي والتعاون والتفاعل الداخلي. ذلك أن القومية هي عصبية القوم ويقظتهم وتنبههم ووعيهم لوحدة حياتهم ووحدة مصالحهم ومصيرهم في هذه الحياة. وكان من الطبيعي إذن أن يقول لهم أن ليس لكم عدو في داخلكم وبين مذاهبكم الدينية، إن عدوكم هو من يقاتلكم في دينكم وحقكم ووطنكم. وقال إن هذا العدو هم اليهود. الآن يجب الانتباه إلى الأمور الثلاثة التالية: لماذا قال اليهود ولم يقل الصهيونيين، ثم هل أن قول سعاده معناه أن اليهود كلهم إطلاقاً هم أعداء للسوريين، وهل يعني أيضاً أن اليهود وحدهم لا غيرهم هم من يعادي السوريين؟
إذا درسنا قول سعاده ومتى قاله وأين قاله ولمن قاله وماذا كان موضوعه وماذا كانت غايته، واستطعنا على ضوء ذلك الدرس الجواب على الأسئلة الثلاثة المطروحة فوق، يصبح سهلاً الجواب على جميع التساؤلات والانتقادات والتأويلات والمبالغات المتعلقة بهذا الموضوع.
أولاً: لماذا قال اليهود ولم يقل الصهاينة؟
رغم أن سعاده هو أول سياسي سوري دعا منذ سنة 1925 إلى وجوب وجود حركة سورية نظامية تقف بوجه الحركة الصهيونية وتمنعها من تحقيق أغراضها بالاستيلاء على فلسطين، ورغم أن أدبياته ونصوصه مليئة بعبارات تحذر من خطر الصهيونية وتحض على مقاومتها، نجده أيضاً يدعو إلى مقاومة اليهود ودفع الهجرة اليهودية عن سورية. وهو يعتبر اليهود الموجودين في سورية غير سوريين ولا يدخلون في تعريف الأمة السورية وغير مساوين في الحقوق للسوريين. ويقول في شرح المبدأ الرابع من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي: “إن في سورية عناصر وهجرات كبيرة متجانسة مع المزيج السوري الأصلي يمكن أن تهضمها الأمة إذا مر عليها الزمن الكافي لذلك، ويمكن أن تذوب فيها وتزول عصبياتها الخاصة. وفيها هجرة كبيرة لا يمكن بوجه من الوجوه أن تتفق مع مبدأ القومية السورية هي الهجرة اليهودية. إنها هجرة خطرة لا يمكن أن تهضم لأنها هجرة شعب اختلط مع شعوب كثيرة، فهو خليط متنافر خطر وله عقائد غريبة جامدة وأهدافه تتضارب مع حقيقة الأمة السورية وحقوقها وسيادتها تضارباً جوهرياً. وعلى السوريين القوميين أن يدفعوا هذه الهجرة بكل قوتهم”.
كل ذلك دفع البعض للظن أن سعاده لا يفرق بين يهودي وصهيوني وكأنهما واحد، مع أن الحقيقة هي غير ذلك. الحقيقة هي أن الصهيونيين ليسوا كلهم يهوداً وأن اليهود ليسوا كلهم صهيونيين. وهذه الحقيقة يعرفها سعاده جيداً، وهو الذي دلل على اليهود المقاومين والرافضين للصهيونية، ووصفهم باليهود الراقين والمتنورين. نقرأ مثلاً عن ذلك في مقالة كتبها سعاده بتاريخ 1-2-1925 أي منذ أكثر من تسعين سنة من الآن بعنوان “الصهيونية وامتدادها”. في تلك المقالة يقول:
“يوجد فريق من اليهود الراقين يفهم العلل وأسبابها ويعرف عقم دعوة الصهيونيين ويحاربها، من أجل اليهود كما من أجل الإنسانية جمعاء. وقد اشتهر من هذا الفريق مورغنسو سفير الولابات المتحدة السابق في تركيا، وله في هذا المجال حملات صادقة أثبت فيها فساد الحركة الصهيونية من وجوه كثيرة. ولكن لا يمكننا أن ننتظر من هذا الفريق أن يشهر حرباً على الصهيونية، فذلك ليس من شأنه”.
وسعادة نفسه، وفي المقالة نفسها، يقول: “رغماً من مشاهدتنا اليهود يجتمعون في كل صقع من أصقاع العالم للتآمر علينا مع المستعمرين، لم تقم فينا حركة تميل إلى الإجراءات الفعالة…“
إن من يقرأ عبارة سعاده الثانية الواردة فوق واستعماله كلمة “اليهود” دون تمييز بين يهود ويهود، قبل قراءة عبارته الأولى وتمييزه بين يهود صهيونيين ويهود غير صهيونيين، يلتبس عليه الأمر ويظن أن سعاده يكيل اليهود جميعهم بمكيال واحد أو أنه يعادي اليهود كيهود، أي كدين. نستنتج من هذا المثل أن استعمال سعاده لكلمة “يهود” إنما هو استعمال مقيد وليس مطلقاً، إنه مقيد بعلة عداوتهم هم لنا وسعيهم لاحتلال وطننا وطردنا منه، إنه يقصد به اليهود الآخذين بمبدأ العداوة لنا، مع الصهيونية ومنذ ما قبل الصهيونية على السواء، ولا يقصد به اليهود كيهود بشكل مطلق، لا يشمل اليهود الرافضين للصهيونية ولمبدأ العداوة لنا.
رب قائل هنا: جيد، ولكن لماذا لم يقل سعاده إنه ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا إلا الصهيونيين أو اليهود الصهيونيين، ويريحنا وينقذنا من الوقوع في الالتباس؟ الجواب هو أن سعاده لا يستطيع قول ذلك دون أن يعتدي على منطق اللغة وأصول الكلام! إن سعاده كان ملزماً علمياً ومنطقياً ولغوياً بأن يقول اليهود ولا يقول الصهاينة. لماذا ذلك؟ لأن صيغة قوله كانت تحتم ذلك. إن سعاده كان يعقد في قوله مقارنة في الأديان ولم يكن يعقد مقارنة في الحركات السياسية. إن المقارنة، أي مقارنة، لا تصح بين شيئين من صنفين مختلفين، إنها لا تصح إلا بين أشياء من صنف واحد. المقارنة تصح بين الإسلام المحمدي والمسيحي من جهة وبين اليهودية من جهة أخرى، لأنهما من صنف واحد هو صنف الأديان. ولا تصح بين الإسلام والصهيونية، ذلك لأنهما من صنفين مختلفين هما الأديان من جهة والحركات السياسية من جهة أخرى. لو كان سعاده قد ذكر حركة الإخوان المسلمين أو الحركة الديموقراطية المسيحية لتحرير لبنانستان من المسلمين، مثلاً، لقارن بينهما وبين الصهيونية كون الثلاث من صنف واحد هو صنف الحركات السياسية الممزوجة بالدين، ولم يكن ليقارن بينها وبين اليهود أو اليهودية. ولسعاده تعبير: “يهودي ديني وصهيوني سياسي” ( في رسالته الثانية إلى غسان تويني – الأعمال الكاملة جزء 11 صفحة 65) فيجب الانتباه لذلك.
ثانياً: هل العداوة نشأت مع الصهيونية أم قبل الصهيونية، هل في العقيدة الدينية اليهودية التوراتية عداوة أم لا؟
عندما بدأ سعاده بالرد على رشيد سليم الخوري الذي كان يفاضل بين “الإسلام والمسيحية” مادحاً الأول وهاجياً الثانية، ومثيراً الفتنة المذهبية وموقظاً الأحقاد والعداوات الداخلية بين السوريين، وعندما وجد سعاده أن في ما ساقه الخوري خطلاً وعدم فهم وتدبر لحقيقة الإسلام المحمدي والمسيحي معاً، وجد أنه لا بد من درس علمي وبحث علمي للقرآن والإنجيل قطعاً لدابر التأويلات الفاسدة التي ترمي الشقاق في الأمة. آنذاك وجد كثيرون يتبرمون وينتقدون سعاده لأنه يفتح الكتب الدينية ويبحث فيها، معتقدين أن القضية القومية لا تحتاج للبحث في الأديان وتشعباتها والتورط في تأويلات وتفسيرات دينية يجب ترك الحكم فيها لأهلها. عند ذلك رد سعاده عليهم وعلى تبرمهم وانتقادهم وقال لهم: “المفكرون السطحيون فقط يجهلون ضرورة بحث نظراتنا وفكراتنا الدينية بحثاً علمياً جريئاً صريحاً لا يبقي مجالاً للغموض والريب بقصد الوصول إلى نتيجة كلية تجتمع فيها نفوسنا بكل ما فيها من رغبات ومطامح وآمال. إن أساسنا القومي يجب أن يكون في وحدتنا الروحية قبل كل شيء“. ( الحلقة 18 من “جنون الخلود”).
نسوق هذا المثل الآن لنقول إن قضيتنا القومية وقضية صيانة وجودنا ومصالحنا الأساسية وسيادتنا على وطننا تتطلب منا البحث في كل شيء وفتح كل الكتب دينية كانت أو غير دينية، فكم بالحري الكتب التي تحض على قتل شعبنا وإبادته واقتلاعه من أرضه؟ لا يكفي أن نقنع أنفسنا بأن مقولة أرض الميعاد هي مجرد رموز أو هي وعد إلهي بالجنة بعد الموت، بل نحن بحاجة ليقتنع غيرنا بذلك ويتخلى عن أطماعه وأهدافه بإلغائنا والاستيلاء على وطننا.
إن أسفار التوراة الحالية مليئة بأوامر يهوه لشعبه المختار، الذي نسميه اليوم “اليهود” (وليس مهماً ماذا كان اسم شعب يهوه سابقاً)، بالقتل والإبادة وطرد الكنعانيين من أرضهم والحلول مكانهم: (سوف تأكل من كروم لم تزرعها أنت، سوف تشرب من خوابي لم تعبئها أنت، وسوف تسكن في مدن لم تعمرها أنت. أقتلوا شيخاً وأمرأة وطفلاً رضيعاً حرموهم حتى البهائم حرموها… سوف أطرد أعداءكم من أمامكم وكل أرض تطأها أقدامكم تكون لكم فتطردون الكنعانيين واليبوسيين و…). إن هذه العداوة الصريحة الفصيحة تسمي شعبنا بالإسم ووطننا ومناطقه بالإسم (نهر الأردن – أريحا – أورشليم – سيناء – جبل لبنان – آرام دمشق – الفرات…إلخ). إنها تسمي مدننا وقرانا وجبالنا وسهولنا وأنهارنا، وإنها تعيّن مقاطعات وحدوداً وتخوماً وتقسمها وتوزعها على أسباط بني إسرائيل الإثني عشر.
إن كتاب اليهود الديني وما يحتويه هو شيء استثنائي في عداوته ضدنا لدرجة الإبادة والتحريم. ولو أن جزءاً قليلاً جداً من هذه العداوة موجه ضد شعب آخر، الأوروبيين مثلاً. لو أن أرض الميعاد، بدل أن تكون بين الفرات والنيل كانت بين الأطلسي والدردنيل، أو كانت بين الألب والبيرنيه، أو بين السين والرين… فكيف كان يمكن أن يكون موقف الأوروبيين وردة فعلهم؟ هل كان الأوروبيون يقولون لا بأس فليفعل اليهود ذلك ويحتلوا الأرض ويقتلوا سكانها أو يطردوهم، فهذه مشيئة الله وأوامره المقدسة؟ طبعاً لا. وهل كان سعاده ليعلن، في مثل هذه الحالة، أن ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا إلا اليهود؟ طبعاً لا.
لا يوجد شبه ولا مجال للمقارنة بين مقولة شعب الله المختار دون بقية الشعوب وبين الآية القرآنية 110 من سورة آل عمران التي تقول “كنتم خير أمة أخرجت للناس”. لأن الأمة التي أخرجت للناس أخرجت لكل الناس، وهي الأمة المفتوحة لجميع البشر دون تمييز وليست خاصة منغلقة على نفسها. ولا يمكن أيضاً مقارنة مقولة أرض الميعاد اليهودية المحددة جغرافياً بالآية 128 من سورة الأعراف التي تقول “أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون”، لأن هذه الأخيرة عامة تخاطب البشر كلهم وتعدهم بالسيادة على الأرض كلها دون تخصيص. وهناك آية قرآنية أخرى من سورة الزمر توضح أن الأرض الموعودة هي أرض الجنة في السماء: “وسبق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمدلله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين”. أما تأويل الوهابيين والتكفيريين اليوم لآيات القرآن على النحو التوراتي، فإن البسطاء فقط لا يرون أن من يقف وراءه هي اليهودية الصهيونية، وهي التي ترعاه وتخطط له.
وبعد، فإن الصهيونية لم تخترع هي هذه العداوة الموجهة ضدنا. إن عداوة الصهيونية وأهدافها بالاستيلاء على وطننا ليست من دون أساس، إن أساسها وجذورها موجودة في التوراة. وهذا ما يفسر استعمال سعاده في مواجهته وتصديه لهذه العداوة، كلمة الصهيونية حيناً وكلمة اليهود حيناً آخر. وهذا ما سهل للبعض الوقوع في خطأ عدم التفريق والتمييز بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة سياسية.
إن سعاده يعلن بوضوح أن وراء الحركة الصهيونية أهدافاً ومصالح استعمارية، ولم يبرئ الدول الاستعمارية من هذه الجريمة التاريخية الاستثنائية، ولم يقتصر في بحثه عن أسباب هذه العداوة على ما يسميه ” قصص وخرافات توراتية”. ها هو مثلاً في مقالته “رسالة البابا الأخيرة – نفوذ اليهود في الفاتيكان واستفحال أمر الصهيونية” (كتبها بتاريخ 4-9-1944) يتجنب التعرض للإعتبارات الدينية الروحية ويحصر كلامه في الدوافع السياسية والأغراض والمصالح الخاصة للدول الداعمة، وعلى المخاطر التي تتناول شعبنا وسيادته على وطنه سورية. إنه يتكلم عمّا يسميه “المصدر السياسي البحت”، يقول:
“ومع أننا نعلم أن العطف الذي تبديه بعض الدول الكبرى لمآرب اليهود هو ذو مصدر سياسي بحت، فلا يمكننا أن نجهل أو نتجاهل أن هذا العطف يجد في تقديس التأويلات اليهودية تسهيلاً كبيراً وإقبالاً واسعاً… لسنا نريد هنا أن نعالج الدوافع والمرامي الدينية البحتة للحث على دراسة التوراة توخياً لجلاء بعض غوامض التأويلات والتفسيرات اللاهوتية. ولكننا نريد أن نتناول الوجهة السياسية المتضمنة في تقديس التوراة وخصوصياتها اليهودية ولعناتها للأمم والجماعات غير اليهودية…إن كثيراً من الذين يقرأون التوراة بتقديس كل يوم، ومنهم ملايين في أميركا وبريطانيا، يرون في عودة اليهود إلى محاولة الاستيلاء على سورية تحقيقاً لوعد الله أنه سيجمع خرافه بعد تشتيتها. وموقف السوريين المدافعين عن وطنهم وحقوقهم الوطنية هو في نظر أولئك المؤمنين عصيان لمشيئة الله وأحكامه، والعاصي يستوجب النقمة”. وبكلام أكثر وضوحاً يقول: “لا بد من تقرير أن هنالك علاقة وثيقة بين اتجاهات معينة من الشعور الديني والأغراض السياسية للدول والجماعات، ومن ذلك العلاقة الوثيقة بين الحث على العودة إلى التوراة وقراءتها بتقديس من جهة ومطامع اليهود السياسية في سورية من جهة أخرى…أي تأييد يستطيع ادعاء اليهود حقوقاً في سورية نواله أقوى من تأييد اعتقاد ملايين المتدينين القارئين “كلمة الله في كتابه المقدس”، أن سورية هي لليهود بحق إلهي مشروع في التوراة؟… لا يمكننا، ولا بوجه من الوجوه، إغفال الأخطار الآتية تحت جناح الشعور الديني لتنزل ضربة شديدة بحقوقنا بصفتنا أمة حية لها حق السيادة على مصيرها ومصير وطنها”.
إن شعبنا يتعرض للاستهداف والعدوان والإبادة، فنحن هم الذي يحتاجون أن يطمئنهم الغير ويبرهن لهم الغير بأنهم ليسوا أعداء لنا، ولسنا نحن من يتوجب علينا تطمين الغير والأخذ بخاطر الغير. إن العداوة مصدرها غيرنا وهي موجهة ضدنا، ولكننا “ نحن أمة كم من تنين قد قتلت ولن يعجزها قتل هذا التنين الجديد”.
ثالثاً: رغم ذلك…
إن سعاده في كل ما قال وكتب وعمل قد عبر اصدق تعبير عن ريادة الأمة السورية في التمدن وفي ميزات العطاء الفكري والثقافي والحضاري وحقوق الانسان وحريته المقدسة. فرغم ما اصاب الأمة السورية من ظلم وجحود وعدوان وما تتعرض له من تقتيل وتشريد واحتلال، فها هو سعادة يحرص، كالاعجاز، على صيانة الحقوق الدينية للطامعين بوطنه من اليهود أنفسهم. فها هو سعاده ينبه ويلوم أحد الرفقاء الذي كتب مقالاً هاجم فيه اليهود في العالم كدين ولم يكتف بمقاومة أطماعهم في سورية، وقال له:
“لكن جريدة سورية الجديدة بقيت في شذوذها، وصارت تهتم بنشر صور الجيوش الألمانية وقوادها، وزعيمي ألمانيا وإيطاليا، أكثر من اهتمامها بنشر صور الحركة السورية القومية الاجتماعية. وظهر اهتمام الجريدة بمحاربة اليهود في العالم وإظهار عيوب السياسة الأميركانية والسياسة البريطانية، وقلة إكتراثها بالمواضيع السورية البحتة، وسياسة الحركة السورية القومية الاجتماعية التي تقول بمحاربة الصهيونية ومطامع اليهود في سورية، ولا يهمها بعد ذلك أن تحارب اليهود من أجل مصالح الحركة الألمانية الاشتراكية القومية، أو من أجل مصلحة الحركة الإيطالية الفاشيستي”.
وكان سعاده قد لام ونبه رفيقاً أخر، وقال له:
“إن النهضة السورية القومية الاجتماعية قد اكتفت بالفصل بين الدين والدولة، فقد بينت في شرح المبادئ الحد الذي تقف عنده النهضة القومية من الدين فلا يجوز تجاوز هذا الحد إلى بحث حقائق أو أوهام أديان معينة ومهاجمتها بهذا الشكل”.(إلى إبراهيم طنوس بتاريخ 22-7-1939).
وها هو سعاده أيضاً يؤكد على حق اليهود المقيمين في سورية بإنشاء مجالس ملية، أي دينية، وحريتهم في شؤونهم الدينية الخاصة، ولا يعترض إلا على محاولتهم تشكيل “مجلس إسرائيلي قومي”. ففي مقالة كتبها بتاريخ 30-10-1937 بعنوان “مجلس إسرائيلي قومي” يقول:
“لا يوجد لبناني يريد أن يعترض على شؤون اليهود الملية وأحوال معتقداتهم الخاصة، ولكن لا يوجد لبناني واحد يقبل أن يجري تساهل في أمر نشوء قوميات غريبة في لبنان. فإذا كان اليهود حقيقة يريدون غرضاً ملياً بحتاً فلا وجه لإيجاد صباغ قومي لهذا الغرض… يمكن لليهود أن ينشئوا مجلساً ملياً أو طائفياً، أما طلب إنشاء مجلس قومي لليهود في لبنان فتجاوز لا تقبل به الكرامة اللبنانية”.
فهل يجوز بعد ذلك تأويل أقوال سعاده بأنه يعادي اليهود كيهود، أي يحاسبهم على معتقداتهم الخاصة ويحاربهم بسبب دينهم الذي ورثه أبناؤهم عن آبائهم؟
إني أعتقد أن إساءة قراءة سعاده وعدم فهمه جيداً هي مسألة موجودة، ولقد حدثت ولا زالت تحدث في الاتجاهين. لا أنا ولا غيري يمكنه أن يدعي أنه “رئيس الفهم” حسب تعبير الأمين حيدر حاج اسماعيل، أو أنه “يملك مفتاح جنة العقيدة” حسب تعبير الأمين أحمد أصفهاني. ولكنني أرى بوضوح أن هناك حرفية جامدة من جهة ومبالغة في نزعة التطوير والتغيير من جهة ثانية. هناك من يغرق في الحرفية ويقول عن اليهود إنهم العدو “الأوحد” ولم يعد يرى غير اليهود، كل اليهود، عدواً، لا الأتراك ولا الاحتلال الأجنبي ولا الاستعمار. ويصر على أن اليهود غير المتعصبين والرافضين للصهيونية ولمبدأ العداوة كله غير صادقين، وأنهم طابور أو خطة مدروسة مقصودة من “اليهودية العالمية”! وفي المقابل هناك كثيرون أيضاً يبالغون أكثر من اللازم في تأويل سعاده على نحو كأنه هو الذي يبالغ في عدائه لليهود كيهود دون مبرر. حتى أن البعض يعتبر أن وصفه للطائفيين السوريين بيهود الداخل إنما هو إهانة وتحقير لليهود من غير حق، مع أن سعاده لا يهين أحداً، وأن عبارة “يهود الداخل” هي للتعبير عن مدى خطورة الطائفية وخطرها على وحدة أمتنا ووحدة حياتها ومصالحها في هذه الحياة، هي للقول إن خطر الطائفية وخطرالنزاع المذهبي الداخلي يتساوى في نتيجته مع خطر العداوة اليهودية الخارجية.
تجاه سوء قراءة سعاده وفهمه، والاعتقاد السطحي بأنه يعادي اليهود كيهود، فإن الرفقاء مدعوون لتصحيح ذلك عن طريق إعادة قراءة سعاده وفهمه جيداً. وللرفقاء أن يستعملوا كل الوسائل الإذاعية الممكنة والمتاحة ليبينوا أن سعاده لا يعادي ديناً بعينه، بل هو يتصدى للعدوان الموجه إلى أمته اليوم بقيادة الصهيونية العالمية المتحالفة مع المصالح السياسية الاستعمارية، وأن الصهيونية هذه تستفيد كثيراً من تراث العداوة اليهودية التوراتية الصريحة ضدنا.
نختم في رواية الأمين الراحل إلياس جرجي عن الرجل الذي قال لسعاده: كيف يمكننا أن نتعامل مع أناس منهم من يقتني العجل ليعبده بينما غيرهم يقتنيه ليذبحه ويأكله! أجابه سعاده أن لا مشكلة في ذلك أبداً، المشكلة هي فقط إذا ذبح الإنسان عجل غيره. إن سعاده يريدنا أن نحمي عجولنا من أن يذبحها اليهود الصهيونيون، ولا يريد من اليهود إلا أن يبتعدوا عن عجولنا ويتركوها لنا، ولهم الحرية والحق بعد ذلك في عبادة عجولهم هم أو ذبحها كما يريدون وكما يشاؤون.
|