عرضنا في المقال السابق بعض التحوّلات الدولية والإقليمية الناتجة عن التحوّلات الميدانية في كلّ من سورية والعراق. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ المشهد الدولي لا ينفصل عن المشهد الإقليمي والعربي. وكذلك الأمر بالنسبة للمشهد العربي. ففي السياق العربي نبدي الملاحظات التالية.
أولاً: كانت الإنجازات الميدانية في كلّ من العراق وسورية إضافات عزّزت الدور الإيراني وعلى حساب دور حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدّمتهم دولة الكيان الصهيوني وفي الجزيرة العربية حكومة الرياض ومجلس التعاون الخليجي. ففي هذا السياق، نعتبر أنّ فعالية مجلس التعاون ككتلة سياسية مهيمنة على المشهد السياسي العربي خلال العقد الماضي تراجعت بشكل ملحوظ بعد انفجار الأزمة بين حكومة الرياض وحكومة الدوحة.
ثانياً: إنّ قراءتنا لتلك التطوّرات تفيد بأنّ مصر لعبت دوراً مفصلياً في تحييد دور مجلس التعاون الذي كانت تقوده حكومة الرياض. لذلك أصبحت حكومة الرياض مكشوفة وأضعف بعد الإخفاق المدوّي في كلّ من اليمن والعراق وسورية، وحتى في لبنان، مع «تحرّر» نسبي لرموز لبنانية موالية لها من توجهّات كادت تبعدها نهائياً عن السلطة. ونضيف إلى كلّ ذلك تراجع سعر برميل النفط الذي أثّر بشكل مباشر وكبير على قدرة حكومة الرياض في الاستمرار في سياسة الإنفاق الداخلي والخارجي العبثي في آن واحد. كما أنّ الابتزاز الأميركي لحكومة الرياض أفضى إلى شفط ما يقارب 450 مليار دولار من احتياطها المالي. وبغضّ النظر إذا ما تمّ دفع تلك المبالغ أو لا، فإنّ الانطباع في مجمل الأوساط المراقبة هي تراجع القدرة المالية لحكومة الرياض في التأثير على القرار العربي بشكل عام، وبالتالي على الصعيد الإقليمي والدولي.
دور مصر في إفشال قمّة ترامب ونتائجها السياسية المرتقبة لتشكيل حلف أطلسي عربي سني في مواجهة إيران، وتلقائياً محور المقاومة، كان عبر الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي في قمة الرياض التي جمعت قادة من الدول العربية والإسلامية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فمصر تستعيد تدريجياً وعلى خطى ثابتة استقلالية قرارها السياسي. فمن جهة حافظت على التواصل والتفاهم مع حكومة الرياض حتى في المغامرة غير المحسوبة في العدوان على اليمن، وعلى محاربة جماعات التعصّب والتوحّش والغلوّ التي دعمتها حكومة الرياض بشكل مباشر وغير مباشر. وبالتالي استطاعت أن تحيّد في الحدّ الأدنى حكومة الرياض تجاه توجّهات مصر وفي الحدّ الأقصى الاستفادة من المساعدات المالية. غير أنّ إصرار الرئيس المصري في خطابه في القمة على إدانة كلّ من يموّل الإرهاب فجّر العلاقة مع حكومة الدوحة، وبالتالي وحدة الموقف في مجلس التعاون. ومن المفارقات التي نتجت عن تلك القمة هي الانفصام في المواقف. فمن جهة كانت بعض قرارات تلك القمة إدانة لجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس وحزب الله، ومن جهة أخرى فتحت مصر صفحة جديدة من العلاقات مع حركة حماس. فترميم العلاقة بين مصر وحماس يقلق الكيان الصهيوني وينسف نتائج قمة الرياض في حلف سني يخدم أهداف الكيان.
من جهة أخرى وبعد خمسين سنة على خروج مصر من اليمن، تحت ضغط حكومة الرياض وما رافقها من شبهات بدور الأخيرة في العدوان الصهيوني على الجمهورية العربية المتحدة، أصبحت مصر مَن يستطيع إخراج بلاد الحرمين من التعثّر في اليمن عبر احتوائها وليس عبر احتواء حكومة الرياض لمصر. قد ينقلب المشهد كلّياً وذلك بسبب حكمة السياسة المصرية ودقّتها في الملفّات المعقّدة.
ثالثاً: أما على صعيد علاقة مصر بالكيان الصهيوني، فرغم كلّ التصريحات الرسمية بين الدولتين، فهناك أنباء مصدرها وسائل الإعلام في الكيان الصهيوني تفيد أنّ صفقة الأسلحة الأخيرة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والتي تشمل تسليم 17 طائرة من طراز «أف 35»، هي لمواجهة «العدو» المصري! كما أنّ المشروع الصهيوني لربط المتوسط بإيلات عبر قناة يمرّ بالأردن هو تهديد مباشر للأمن القومي المصري، لأنه تعدّ مباشر على قناة السويس.
رابعاً: إنّ قرار جامعة الدول العربية بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية في إنشاء لجنة مهمّتها العمل على منع حصول الكيان الصهيوني على مقعد دائم في مجلس الأمن لم يكن ليحصل لولا مباركة مصر.
خامساً: إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ العقيدة القتالية للجيش في جمهورية مصر العربية هي أنّ العدو هو الكيان الصهيوني، وبما أنّ الكيان لم يعد يخفي نظرته العدائية لمصر، ففي رأينا فإنّ الخط البياني للعلاقة بين مصر والكيان سيصل إلى تفريغ اتفاقية كامب دافيد من مضمونها في فترة قد لا تكون بعيدة. عندئذ يكتمل دور مصر في التوازن الإقليمي والدولي وعلى الصعيد العربي. وما قد يسرّع في ذلك التحوّل العداء الأميركي لمصر المتمثّل بقرارات الكونغرس الأميركي بتخفيض ملموس للمساعدات الأميركية وربطها بقرارات تمسّ السيادة المصرية. هذا ما لا تقبله مصر وقد يحرّرها من الجنوح إلى الولايات المتحدة. لم تصل الأمور حتى الآن إلى القطيعة مع الولايات المتحدة غير أنّ الحكومة المصرية بادرت منذ فترة بتبنّي سياسة التوازن وتنويع مصادر تسليحها ونسج علاقات مع دول بريكس التي تُوّجت بدعوتها لحضور القمة الأخيرة لها.
|