لا يزال مرسوم «دورة 1994» بلا حل، وواجهة ما بات اكثر من تباين وخلاف بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي. في باطن ما افضى اليه اشتباكهما، بلا وسطاء مفيدين وقادرين، سجال على تفسير المادة 54 من الدستور أنبأ بفتح ابواب موصدة
جرّ خلاف رئيسي الجمهورية ومجلس النواب على المادة 54 من الدستور الى تداول وجهتي نظر. بات لكل منهما متحمسون ومشجعون ومدافعون عن تفسير كلتيهما في هذا الاتجاه او ذاك. بدت المادة 54 كأنها مشكلة في ذاتها كي ينجم عنها تفسيران متناقضان بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان، يصعب الوصول الى تفسير ثالث لها. اختار كل منهما الاحتكام الى هيئة مختلفة عن التي اقترحها الآخر. قال الرئيس ميشال عون ان علاج التدبير الاداري لدى مجلس شورى الدولة، وقال الرئيس نبيه برّي ان الخلاف على مادة دستورية يحتاج تذليله الى مجلس النواب.
في ظل الرأيين القاطعين للرئيسين، لا مكان لافكار جديدة، ولا لمخيلة سياسية، ولا لفاعلي خير حتى. كذلك لا يمكن التعويل على عاملي الوقت والتسامح للخروج من المأزق، قبل انتخابات ايار كما بعدها. لا قدر ايضاً للجيش والضباط المعنيين بالترقيات الا الانتظار فحسب.
يستند الرئيس حسين الحسيني الى قاعدة فقهية تقول ان «أشكل المشكلات تفسير البديهيات». يجد مشكلة السجال القائم حالياً بين عون وبرّي في مكان، والحل في مكان آخر. مع ذلك يقول: «فتحوا الجرح. فليسكّروه».
اصل المشكلة، في رأيه، قانون الانتخاب «الذي اخترعه واضعوه جميعاً، ثم انقلب عليهم وفجّر الاشتباكات السياسية في اكثر من اتجاه، ولدى الافرقاء كلهم، قبل الوصول الى الانتخابات النيابية. قانون الانتخاب مصدر الخطاب السياسي المتداول، الذي حمل الجميع على اللجوء الى الخطاب المذهبي الطائفي لاسترضاء الطائفة بالصوت التفضيلي المذهبي، عوض الصوت التفضيلي الوطني. جميعهم مستفيدون من السجال الدائر».
من ثم ينتقل الحسيني الى الحل: «لسنا في حاجة الى تفسير الدستور، ولا المادة 54 في حاجة الى تفسير، بل الذهاب الى ما لم يُنجز منذ وُضع اتفاق الطائف، وهو وضع قوانين تطبيقية لعدد وافر من المواد تسببت ولا تزال في كثير من الاشكالات والخلافات. ليست المشكلة في المادة الدستورية، بل في افتقارها الى قوانين تطبيقية تُدرج فيها آليات العمل بها».
يضع الرئيس السابق للمجلس الخلاف على المادة 54 في سياق خلافات مماثلة على مواد اخرى اختبرتها الممارسة منذ وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ. بالنسبة اليه: «المادة 54 واضحة تماماً. توجب على الوزراء المختصين او الوزير المختص توقيع المراسيم التي يُعنون بها. في مرسوم منح ضباط دورة 1994 اقدمية سنة يقتضي اولاً توقيع وزير المال كون الاقدمية تحمل في طياتها ترتيب الترقية، وهي خطوة اولى للترقية لأن كل تغيير في الرتبة يؤدي الى تغيير في الراتب. تالياً تترتب اعباء مالية. وزير المال هنا وزير مختص كوزير الدفاع، ويقتضي توقيعهما. لكن في المرسوم خطأ آخر لا يقل اهمية، هو عدم نشره. عندما يحيل رئيس الجمهورية المشكلة الى القضاء من دون نشره المرسوم المختلف عليه، كيف يصح الطعن فيه؟ واستناداً الى اي مستند نذهب الى مجلس شورى الدولة من دون ان يكون المرسوم نُشر؟ كأننا نذهب الى غيب. لا قانون ولا مرسوم لا ينشر. للقانون مهلة ملزمة هي شهر، وللمرسوم 15 يوماً. مراراً كانت تصل اليّ في رئاسة المجلس مراسيم بمشاريع قوانين تتعلق بعقود واتفاقات مع دول لا تحمل توقيع وزير الخارجية. صرت اعيدها الى الحكومة كي يوقعها الوزير المختص».
يضيف: «توقيع وزير المال في المرسوم ليس توقيعاً شيعياً، كي يُفسَّر على هذا النحو. هو لا يوقعه لأنه شيعي، بل لأنه الوزير المختص. ذهبنا بالشيعة الى حقيبة المال، ولم نحمل حقيبة المال الى الشيعة».
يعود الحسيني الى اصل المشكلة في الخلاف على المادة 54، وما نجم عنها من كلام طاول جارتها المادة 56 حيال المهل المنصوص عليها لاصدار القوانين والمراسيم. مهل مقيّدة لرئيس الجمهورية، الا ان الممارسة جعلت رئيس الحكومة والوزراء يتصرّفون كأنها امتياز لهم، كما لو انها تقصر قيود التوقيع على رئيس الدولة. اول مَن افتتح السابقة منذ اتفاق الطائف كان الرئيس رفيق الحريري في آذار 1998، بامتناعه عن توقيع مرسوم احالة مشروع قانون الزواج المدني الاختياري الى مجلس النواب، رغم اقراره بغالبية تزيد على ثلثي مجلس الوزراء (22 وزيراً من 30). وضعه في ادراجه بذريعة ان القيد يقتصر على رئيس الجمهورية. ولا يزال المشروع في ادراج السرايا رغم تعاقب الاسلاف.
عندما يُسأل عن مواقف ربطت اخيراً بين المادتين 54 و56 على نحو يفتح ابواب تعديل الدستور حيال المادة 56 بغية النصّ على مهل مقيّدة لرئيس الحكومة والوزراء لاصدار المراسيم، وكان ابرز اسباب هذه المواقف حديثاً امتناع وزير المال علي حسن خليل عن توقيع مرسوم ترقيات ضباط الجيش بسبب تضمّنه ضباطاً في دورة 1994، يجيب الرئيس السابق للمجلس: «في اتفاق الطائف وضعنا مهلاً ملزمة للجميع بلا استثناء. وجود مهل مقيّدة لرئيس الجمهورية في الدستور لا تعفي مَن هو دونه، رئيس الحكومة والوزراء، من قيود مماثلة. توجب المواد الدستورية اصدار قوانين تطبيقية لها تحدّد دقائق تنفيذها وآلياتها. كان من المقرّر ان نضعها بانتهاء ولاية البرلمان المحدّدة نهاية عام 1994 بحيث يعدّها المجلس الجديد القائم على المناصفة. الا ان انتخابات 1992 نسفت كل ما كنا نعدّ له».
يضيف: «كان يقتضي ــــ ولا يزال ــــ وضع خمسة قوانين تطبيقية ملحة هي:
1 ــــ قانون انتخاب يخضع لمعيار الوحدة والعيش المشترك، وليس كالقانون الحالي يخرق الدستور ويعيدنا بشحطة قلم الى بيروت شرقية وبيروت غربية.
2 ــــ وضع نظام داخلي لمجلس الوزراء بقانون، وليس كالقائم حالياً بمرسوم مكتوب بطبشورة يمحى ساعة ويُفسَّر بطريقة مختلفة ساعة اخرى. يلزم الجميع، ويتضمن تحديد:
ــــ مهلة مقيّدة للرئيس المكلف تأليف الحكومة، وليس جرجرة التكليف اشهراً طويلة.
ــــ تقييد رئيس الحكومة والوزراء بمهل توقيع المراسيم كتلك المقيّدة لرئيس الجمهورية.
ــــ النصّ على صلاحيات نائب رئيس مجلس الوزراء على نحو صلاحيات نائب رئيس مجلس النواب المنصوص عليها في النظام الداخلي لمجلس النواب.
3 ــــ السلطة القضائية المستقلة.
4 ــــ قانون الدفاع الوطني كون احكام القانون النافذ الصادر عام 1983 لا تتلاءم مع اتفاق الطائف والدستور الحالي، ناهيك بتحوّل المجلس الاعلى للدفاع مؤسسة دستورية برئاسة رئيس الجمهورية بعدما كان احدى دوائر وزارة الدفاع.
5 ــــ خطة التنمية الشاملة واللامركزية الادارية والبلديات».
|