في معرضِ تساؤلاتِهِ الفلسفيّةِ عنْ معنى الحياةِ وعنْ الغايةِ منْ وجودِ الإنسانِ شدّدَ أنطون سعاده على أهميّةِ المبادئ، معتبرًا أنَّ قيمةَ حياةِ الإنسانِ تكمنُ في مبدأِ وفي مَثَلٍ منشودٍ وقالَ: «إنَّ الحياةَ الإنسانيةَ بلا مبادئ يتمسّكُ بها الإنسانُ، ويبني بها شخصَهَ ومعنى وجودِهِ، هي باطلٌة، هي شيء يساوي حياة العجماوات» 1 .والمبادئ في قاموس سعاده هي «مكتنزات الفكر وقواعد انطلاقه في اتجاه صحيح في الحياة» 2 .. وللتدليل على أهميتها يعلن الزعيم الخالد: «إننا نبذل أنفسنا أفراداً في سبيل تحقيق المبادئ التي في تحقيقها تحقيق لحياة الأمة..» 3 .
والحق نقول إن المبادئ السامية التي جاء بها سعاده هي الطريق الوحيد لنهضة الأمة، لأنها جاءت لتوّحد صفوفها ولتنهض بها من قبر العبودية والأحقاد والموت إلى حياة الحرية والعز والقمم العالية… هذه المبادئ هي الخميرة المفيدة التي تولِّدُ روح الأخوة القومية والمحبة القومية والصفاء القومي بين أبناء الوطن الواحد وتساهم في إزالة كل أسباب الانقسامات والتفرقة والكراهية والجفاء بين الأخوة الذين يجب أن يتعاونوا جميعاً من أجل خير الأمة ورقيها.
هذه المبادئ المحيية والمفعمة بالقيم السامية من واجب وحق وخير وصدق وحرية وجمال هي يقظة الأمة وخلاصها من تخبطها وتفككها. وهي المنارة الهادية لعودتها إلى ذاتها واصالتها العريقة لتكون كما كانت في الأزمنة السابقة أمة ثقافية مبدعة وهادية للأمم توزع من علومها ومعارفها وقيمها المشِّعة وتساهم بإنجازاتها المتألقة ورؤاها الحضاريّةً في إنقاذِ العالمِ منْ الحروب المهلكةِ وفي إصلاحِه وترقيتِهِ.
هذه هي مبادئ أنطون سعاده المناقبية التي تدعونا للإيمان المطلق بحقيقتنا الجميلة والتي تزرع في نفوسنا العزم والوجدان والأمل والإيمان والبطولة المؤمنة للدفاع عن حقنا في الوجود الجميل والحياة الحرة العزيزة..
هذه هي المبادئ الجامعة المكوّنة للعقيدة القومية الاجتماعية المعبِّرة عن عظمة الأمة السورية وحقيقتها ومصلحتها وتطلعاتها.. والتي على أساسها أطلق سعاده النهضة القومية الاجتماعية التي جاءَتْ «لتحرق وتضيء، تحرق من أتَى بِهَا، وتحرق منْ يقف في سبيلِها، لتضيءَ لأمّةٍ ظنَّها أعداؤُها منقرضةً».
سعاده القدوةُ قدّمَ لنا عقيدته لنتسلح بها ودعَانا لأنْ نكونَ حربًا على النفاقِ والرذائلِ والأنانيّاتِ الحقيرةِ وهبوط المناقب والانحدارِ الخلقيِّ المتفشّي في أوساطِ الشعبِ بعد عصورٍ من الاستعبادِ والخمولِ والانحطاطِ والتبعيّةِ، مشدِّدًا علينا العملَ بجوهرِ الأخلاقِ القوميّةِ الجديدةِ «لأنَّ الأخلاقَ»، كما يقول، «هي في صميمِ كلِّ نظامٍ يمكنُ أنْ يكتبَ لهُ أنْ يبقى» 4 .
وسعاده دعانا للثقة بالنفس ولمواجهة الخنوعَ والخوفَ والجبنَ قائلاً للقوميينَ: «إذا كنْتُم ضعفاءَ وقيْتُكم بجسدِي وإنْ كنْتُم جبناءَ أقصيْتُكم عنّي وإنْ كنْتُم أقوياءَ سِرْتُ بِكُم إلى النصرِ».
وسعاده كان مؤمنًا إيمانًا كبيرًا بشعبِهِ الذي اعتبره هاديًا ومعلّمًا للأممِ وقائدًا للعالمِ بروحِ التعاليمِ الجديدةِ. وانطلاقاً من استيعابه تاريخنا القومي الغني بالمآثر والإنجازات، دعَانا إلى الإيمانِ المطلقِ بالأمّةِ السورية وبقواها القادرةِ على قهرِ الباطلِ وسحقِهِ وقالَ: «إنَّ فينا قوةً لوْ فعلَتْ لغيّرَتْ وجهَ التاريخِ».
وكانَ سعاده منفتحًا على إبداعاتِ العالمِ وثقافاتِهِ وآدابِهِ ودعَا إلى التفاعلِ مع حضاراتِ العالمِ والفعلِ فيها انطلاقًا من رؤيتنا المعبّرةِ عن نفسيتِنا الأصليّةِ وقيمِنا المجتمعيّةِ، ولكنَّ سعاده لم يكنْ مبهوراً لا بالغربِ ولا بالشرقِ، بلْ اعتزَّ بقوميّتِهِ وبأصالةِ أمّتِنا السوريّةِ وبجمالِ أرضِنا الخصبةِ التي قالَ إنَّ فيها معينًا للرجالِ الناهضينَ وفاخر بما أعطَتهُ هذهِ الأمةُ للعالمِ من علومٍ ورسالاتٍ ومعارفَ ومن عظماءَ خالدينَ وفلاسفةٍ ومفكرينَ وقوّادٍ ومحاربينَ وقالَ «إنَّ في النفسِ السوريّةِ كلَّ علمٍ وكلَّ فلسفةٍ وكلَّ فنٍّ في العالمِ».
سعاده رفضَ الطقسيّةَ والقدريّةَ والاتكاليّةَ والتخاذلَ والاستسلامَ وقالَ بموهبةِ العقلِ المُبدعِ و»الشرعِ الأعلى» والأساسيِّ، العقلِ الأخلاقيِّ الإرادي الفاعلِ في الوجودِ الذي يتأمّلُ ويُدركُ ويُميّزُ ويخطّطُ للمستقبلِ ويعيّنُ الغايات ولا يرضَى عن الصراعِ في سبيلِ الحياةِ الحرّةِ الكريمةِ بديلاً 5 .
وسعاده شدّدَ على «التصارحِ الفكريِّ الخالي من السياسةِ» وحذّرَنَا من الانصرافِ عنْ العملِ القوميِّ الاجتماعيِّ إلى الانغماسِ بالعملِ السياسيِّ لا بلْ دعَانا إلى تركِ شؤونِ السياسةِ ليهتمَّ بها المسؤولونَ في القيادةِ العليا. وقالَ: «لا يجوزُ في الإخاءِ القوميِّ الصحيحِ أنْ نتكلّمَ في السياسةِ، السياسةُ يجبُ أنْ تُتركَ للمتخصصينَ في السياسةِ، أمّا القوميُّ فيجبُ أنْ يكونَ قوميًّا صحيحًا مجرّدًا من السياسةِ في كلِّ مجتمعٍ وفي كلِّ حديثٍ مع كلِّ مواطنٍ من أمّتِهِ» 6 .
إنَّ عقيدةَ أنطون سعاده المناقبيّةَ أمسَتْ اليومَ حقيقةَ راسخةً في وجدانِ الأمّةِ وأجيالِها، تشهدُ على صحّتِها دماءُ الشهداءِ الأبطالِ الذينَ سارُوْا على طريقِ الفداءِ التي دعَاهُم إليها شهيدُ الثامنِ منْ تموز.. هذه الحقيقةُ المشعّةُ بأنوارِهَا هي حتماً حقيقةٌ منتصرةٌ بجهادِ القوميينَ الإجتماعيينَ وعزيمتِهم، بإيمانِهم الراسخِ في الحياةِ، بصبرِهم على الشدائدِ والآلامِ وباستعدادِهم لبذلِ التضحيّاتِ الجسامِ وللإستشهادِ في سبيلِ حياةِ أمّتِهم وحقِّها في الوجودِ.
** هوامش
1 – سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 177
2 – المرجع ذاته، ص 16
3 – المرجع ذاته، ص 38
4 – المرجع ذاته، ص 177
5 – المرجع ذاته، ص 127
6 – المرجع ذاته، ص 178
|