أصدر مصرف لبنان تعميماً يضع قيوداً محدودة على التحويلات المالية إلى لبنان عبر المؤسسات المالية غير المصرفية، إذ بات ممنوعاً على المتلقين قبض قيمة هذه التحويلات بغير الليرة. يصيب هذا التعميم تحويلات العاملين في الخارج، التي تسهم في إعالة أسرهم في لبنان. امّا السبب، فهو مصادرة دولاراتهم والإفساح في المجال امام مشاركة مؤسسات تحويل الاموال بعمليات الهندسة المالية التي يجريها مصرف لبنان مع المصارف
فرض مصرف لبنان أمس على المؤسسات المالية غير المصرفية التي تنفّذ عمليات تحويل من الخارج إلى لبنان، أن تسدّد التحويلات بالليرة اللبنانية. هذه التحويلات تأتي من العاملين في الخارج إلى أسرهم في لبنان. وهؤلاء بات ممنوعاً عليهم قبض العملات الأجنبية التي يكدّ أبناؤهم للحصول عليها في الخارج، إلا إذا أرسلوها عبر المصارف حيث كلفة التحويل أعلى، وحيث يمكن أن يخضع سحبها من المصارف للاستنسابية في ظل نقص فادح في السيولة بالعملات الأجنبية لدى هذه الأخيرة. أثار التعميم مخاوف واسعة من أن يكون بمثابة تمهيد لوضع قيود أوسع على التحويلات. إلا أنه بحسب مصادر مصرفية، فإن هذه المخاوف المبرّرة لا تلغي واقع أن التعميم كان مبنياً على طلب من المؤسسات المالية غير المصرفية المشاركة في الهندسات المالية التي تحقق أرباحاً طائلة بطريقة سهلة وسريعة، فكان لها ما أرادته.
مؤسسات غير مصرفية
تعميم مصرف لبنان يحمل الرقم 12978، وهو يضيف المادة 7 مكرّر على التعميم الأساسي الرقم 7548 المتعلق بالعمليات المالية والمصرفية بالوسائل الالكترونية. ينصّ التعميم على الآتي: «على المؤسسات كافة التي تقوم بعمليات التحاويل النقدية بالوسائل الالكترونية أن تسدّد قيمة التحاويل النقدية الالكترونية الواردة إليها من الخارج بالليرة اللبنانية حصراً». وأصدر البنك المركزي بعد ظهر أمس توضيحاً أكد فيه أن قراره لا يشمل التحويلات المصرفية.
توضح مصادر مصرفية مطلعة أن التعميم الصادر عن حاكم مصرف لبنان جاء بناءً على طلب من شركات تحويل الاموال نفسها، التي أبدت رغبتها في الاستفادة من أرباح الهندسات المالية التي يجريها البنك المركزي مع المصارف للحصول على العملات الصعبة. فالمعروف ان نسبة مهمّة من التحويلات الخارجية الصغيرة، التي يرسلها المهاجرون الى اقاربهم ومعارفهم في لبنان، تمرّ عبر هذه الشركات، مثل «ماني غرام»، و«ويسترن يونيون»، وOMT، نظراً الى سهولة الاجراءات وسرعة التحويل والكلفة الادنى من الكلفة التي تفرضها المصارف. وبالتالي بات يمكن لهذه الشركات تجميع مئات ملايين الدولارات من خلال حصر عملية تسديد قيمة التحويلات عبرها بالعملة المحلية، إذ إنها ستتلقى طلبات التحويل من الخارج بعملات أجنبية وستسدد قيمتها الى المتلقين بالليرة، وهذا يؤدي الى تراكم كمية من العملات الاجنبية، ولا سيما لدى الشركات الثلاث الاكبر، ويسمح لها بإعادة توظيفها لدى المصارف بفوائد مرتفعة.
تشير المصادر إلى أن هذه الخطوة، أي حصر صرف التحويلات من الخارج بالعملة المحلية، كانت ستترك أثراً إيجابيا لو أنها جاءت في إطار سياسة نقدية جديدة ترمي الى تخفيض معدلات الدولرة وتعزيز التعامل بالعملة المحلية وضبط تدفقات حركة الاموال عبر الحدود، إلا أن هذه الخطوة تأتي في سياق السياسة النقيضة المعتمدة، والتي تؤدي الى زيادة الدولرة، وتعمل على امتصاص السيولة بالليرة والحد من تسليفها، وتشجع على تحويل القروض بالعملة المحلية الى العملة الاجنبية. وبالتالي لا يمكن فهم هذه الخطوة الا إمعاناً في مصادرة الدولارات وحبسها في مصرف لبنان.
كلفة التحويل تتضخم
ليست هذه النتيجة الوحيدة للقرار، بل هناك ما يصيب الفئات الاضعف في المجتمع. فالمعروف أن من يلجأ إلى خدمات الشركات المذكورة، هم العمال اللبنانيون في الخارج الذين يرسلون حوالات مالية دورية لإعالة أسرهم في لبنان أو مساعدتها. كلفة تحويل الأموال عبر هذه الشركات أقل بالمقارنة مع كلفة التحويل عبر المصرف. فعلى سبيل المثال، إن التحويل من الإمارات العربية المتحدة إلى لبنان عبر ”ويسترن يونيون“ يكلّف 7 دولارات ضمن سقف للتحويل محدّد بقيمة 7500 دولار لكل عملية.
**المصارف تبلغ مستوردي المحروقات أنها ليست قادرة على بيعهم الدولار لتمويل شحناتهم من الخارج**
أما كلفة التحويل عبر المصارف، فهي تزيد على 25 دولاراً لكل عملية تحويل. والذين يجرون عمليات تحويل لمبالغ زهيدة من هذا النوع، هم العاملون اللبنانيون الذين فرض عليهم النظام اللبناني الهجرة إلى الخارج بحثاً عن عمل، وهم ينتظرون قبض رواتبهم في المهجر آخر كل شهر ويقتطعون نسبة منه لإرسالها إلى أسرهم في لبنان. وهؤلاء هم الفئات المتوسطة والفقيرة، وهم يتمايزون عن غيرهم من الفئات العاملة في الخارج مثل رجال الأعمال والتجار من الذين يملكون شركات ومصالح وأعمال وعقود ولديهم حسابات مصرفية وافرة ولا تتأثر بكلفة التحويل مهما ارتفعت. كالعادة إذاً، قرارات السلطة المالية لا تصيب إلا الفئات المقهورة التي بات ممنوعاً عليها أن تتسلّم العملات الأجنبية وأن تدّخرها، إلا إذا تم الأمر عبر المصارف.
مخاوف سوقية
الأسوأ من ذلك، أن هذا التعميم الذي يمكن اعتباره كوضع قيود على التحويلات ضمن الحدود الضيّقة، خلق مخاوف أوسع في السوق من احتمال لجوء مصرف لبنان إلى توسيع هذه القيود. وما يكرّس هذا الاعتقاد، أن المصارف تعاني اليوم من نقص حاد في العملات الأجنبية. فبحسب مصادر تجارية، تلقى المستوردون إشعارات من المصارف تبلغهم بعدم وجود دولارات لديها لتمويل عمليات الاستيراد. وهذا الأمر لا ينطبق على قطاع معيّن، بل على القطاعات التي تستورد سلعاً حيوية مثل المشتقات النفطية والقمح والغذاء على أنواعه. وتشير المصادر إلى أن التجّار باتوا عاجزين عن شراء الدولارات من المصارف لتسديد ثمن الشحنات من الخارج، ما يشكّل تهديداً مباشراً لتزويد السوق بالسلع. وتقول المصادر إن تجمع مستوردي النفط راجع حاكم مصرف لبنان لإيجاد صيغة تتيح لهم الحصول على الدولارات، إلا أنه أبلغهم عبر أحد الوزراء «دبّروا حالكن».
في هذا السياق، يمكن فهم تعميم مصرف لبنان. هو يريد تعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية في ظل النزف الكبير الذي يعتريها، ومن جهة ثانية هو يعزّز ربحية المصارف ويتيح لها الحصول على العملات الأجنبية بعدما باتت هذه المصارف قاصرة عن استقطاب الدولارات من الخارج، فضلاً عن أن التعميم يسمح له بإظهار مصرف لبنان أنه يكافح عمليات التحويل النقدية التي يمكن أن تستعمل جزئياً في عمليات تبييض الأموال أيضاً.
أرباح للمصارف لا خسائر
قالت مصادر مصرفية إن عدداً من المصارف اللبنانية جنى أرباحاً لا خسائر في الاسبوع الماضي، على إثر تصريحات وزير المال علي حسن خليل عن خطة لإعادة هيكلة الدين العام. فقد سارع بعض حملة سندات الدين في الخارج الى عرض هذه السندات بأسعار أدنى بكثير من سعر الإصدار، بهدف التخلص منها، ولا سيما أن تقرير «غولدمان ساكس» المنشور في الرابع من الشهر الجاري رسم سيناريو ينطوي على قص نحو 65% من قيمة هذه السندات، في حال أرادت الدولة اللبنانية تفادي سيناريو التوقف عن السداد.
قسم مهم من السندات التي عرضت للبيع في السوق الثانوية تستحق في هذا العام، وهو ما شجّع مصارف محلية على شرائها، بغية الاستفادة من ربح وفير، إذ إن الدولة ستسترد هذه السندات عند استحقاقها بسعر الإصدار مضافاً اليه الفائدة.
|