ين استقباله وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو وزيارته الروسية وخطابه في القمة العربية، يرسم رئيس الجمهورية ميشال عون مساراً واضحاً في تحديد خياراته الاقليمية والدولية. وقد باتت حركته وخطبه، في الاسابيع الاخيرة، موضع رصد لدى اوساط ديبلوماسية غربية، في محاولة لجلاء ما هو أبعد من الأداء والمواقف في المحطات الثلاث.
أوساط ديبلوماسية اوروبية فاعلة عبّرت، امام شخصيات لبنانية، عن قلقها من تكريس رئيس الجمهورية عرفاً جديداً في وضع سياسة لبنان الداخلية والخارجية في اتجاه واحد. ورغم ان دولاً اوروبية رعت التسوية الرئاسية ورأت فيها ضمانة للاستقرار، الا ان ما بدأت تلحظه لا يثير ارتياحها، خصوصاً في الاونة الاخيرة، حين بدأ ينقلب على مرحلة التهدئة التي تلت انتخابه وتشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري الاولى، ويعبّر بوضوح عن توجهاته الاقليمية من دون التباس.
بالتأكيد، لم تشكّ هذه الدول يوماً في خلفيات عون الواضحة وخطابه السياسي الذي حمله معه من مرحلة ما قبل توليه الرئاسة. لكنه عمل، بعد وصوله الى قصر بعبدا، على الحفاظ بالحد الادنى على بعض التوازن، ان بتحييد لبنان عن حساسيات وتجاذبات اقليمية، او بسعيه الى تظهير صورة الرئيس الحكم الذي لا يعلن اصطفافاً اقليمياً واضحاً، في محطات اقليمية حساسة. إلا أن رئيس الجمهورية نزع اخيرا القفازات التي لبسها طوال اشهر، وكشف بوضوح عن اتجاه سياسي لا لبس فيه، لا يصب، في رأي هذه المصادر الأوروبية، في مصلحة لبنان سياسيا واقتصاديا. إذ أنه يقفل بذلك النافذة الاوروبية، والى حد ما الاميركية، التي فتحها له الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وساهمت في اشاعة اجواء ارتياح حول العهد الذي استفاد والحكومة ايجابا من الدور الذي لعبته عواصم اوروبية فاعلة تجاهه ومع دول اقليمية على اختلافها، لا سيما في مفاصل دقيقة سياسية وعسكرية واقتصادية. وفي حين ان الرئيس سعد الحريري لا يزال متمسكا بالنافذة الفرنسية، وبالشق الاقتصادي المتعلق بمؤتمر «سيدر»، يعكس الكلام الاوروبي استغرابا من «المسار الجديد» لعون. إذ تعتبر هذه الاوساط ان رئيس الجمهورية يذهب بعيدا في التماهي مع خطاب حزب الله الاقليمي، وحتى المحلي، الذي تراقبه الدوائر الديبلوماسية بتمعن، ولم يظهر عليه اي ممانعة في مجاراة الحزب في كثير من المواضيع والملفات الداخلية. وهو، بالنسبة اليها، لم يراع ايضا حساسيات دول عربية، غالبا ما كانت ترى فيها اوروبا عامل استقرار اقليمي ولبناني داخلي. وتعتبر ان عون وضع بذلك دولا حليفة للبنان في وضع دقيق، لان هذه الدول طالما وقفت الى جانب الشرعية اللبنانية، وهي مستمرة في رعاية مصالحها والتسويق لاهمية الاستقرار في لبنان ولتطوير وضعه الاقتصادي وحماية نظامه المالي والسياسي، لكنها لا يمكن لها ان تتفرج على منحى رئاسي جديد ترى فيه «قفزة في المجهول». وتعبر هذه الاوساط عن استغرابها، ان لم يكن استياءها، من الهدف وراء هذا المنحى والتوقيت في خطاب رئيس الجمهورية ومواقفه، لان هذه الدول - مع علمها بدقة التوازنات الداخلية - تعتبر ان رئيس الجمهورية «يغامر في تصرف غير محسوب النتائج». وهي وان كانت تدفع دائما نحو ترتيب الوضع الداخلي وعدم استقواء فريق على آخر والحفاظ على علاقات لبنان الاقليمية، الا انها ايضا لا تشجع على مسار تفرد فريق ما وتغليب اتجاه اقليمي على غيره. وهذا تماما ما بدأ يقلقها.
وفي هذا الاطار طرحت مجموعة من الاسئلة والاشارات، حول تطور موقف عون، وتغير سلوكه، تجاه الدول التي يعتبر انها عرقلت تشكيل الحكومة الثانية التي كان يعول عليها كحكومة العهد الاولى. فهو يرى ان اكثر من طرف دولي واقليمي تعمد تأخير تأليف الحكومة لافشاله، ومن اجل ذلك، لم يتأخر في الرد على هؤلاء، وتعمد الذهاب محليا واقليميا في الاتجاه المعاكس، واشهار مواقفه الحقيقية من دون مسايرة، ولو اعتبرت تنسيقا مع حزب الله. لكن هذا المسار الجديد لن يخلو من تبعات، مهما كانت خلفياته، قد تظهر في سلوكيات دول اوروبية والولايات المتحدة، خصوصا اذا تطور مسار عون نحو خطوات عملانية في ملفات حساسة، مع اقتراب استحقاقات اساسية كالعقوبات الاقتصادية على ايران وحزب الله وقرار المحكمة الدولية والعلاقة مع سوريا. في حين طرحت اسئلة مرافقة للمواقف الاوروبية عن موقع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل «الرئاسي» من هذا المسار، لأن عون كرئيس للجمهورية، قادر على تحمل اكلاف مواقفه الاقليمية والدولية، وكرسي الرئاسة الذي وصل اليه يسمح له بامتصاص الصدمات. لكن اي مرشح رئاسي من وزن وزير الخارجية يحتاج، للوصول الى الكرسي نفسه، الى ما هو اكثر من هذا الاصطفاف الحالي، وحكما الى غير هذا المنحى، ولو كان انتماؤه السياسي معروفا. فارتداد عون شيء، وسلوك باسيل امر آخر، وكلاهما حاليا تحت المجهر الاوروبي. وكل منهما لسبب.
|