تدور، منذ يومين، سجالات حادة بين الإسرائيليين، على خلفية رسالة وقّعتها مجموعة كبيرة من المسؤولين الأمنيين السابقين، تحذّر من ضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية، مُنبّهةً إلى ما يمثله ذلك من تهديد لأمن إسرائيل. وقّعت الرسالةَ مجموعةُ «قادة من أجل أمم إسرائيل»، التي تضمّ 200 شخصية إسرائيلية، من بينها 30 ضابطاً رفيعاً متقاعداً من الجيش و«الشاباك» و«الموساد» والشرطة، وحضّت رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو على إجراء استفتاء عام قبل اتخاذ أي خطوة لضمّ مناطق واسعة من الضفة الغربية. وحذر الجنرالات من أن خطوة من هذا النوع ستتسبّب بانهيار التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية، و«تعزيز المنظمات الفلسطينية المتطرفة».
رداً على الرسالة، غرّد نتنياهو رافضاً مضمونها والمخاوف المُعبَّر عنها فيها، مستخدماً تعابير توراتية للدلالة على أن الضفة تتجاوز لدى إسرائيل البعد الأمني: «يهودا والسامرة ليست فقط ضماناً لأمن إسرائيل، بل هي إرثنا أيضاً». وقال في تغريدة إن «هؤلاء الخبراء هم أنفسهم أيدوا الاتفاق النووي مع إيران، وحذروا من أن بيبي يأخذ منعطفاً خاطئاً ويدمر التحالف مع الولايات المتحدة». بدوره، علّق وزير الأمن الداخلي، جلعاد إردان (الليكود)، على الرسالة، معتبراً في بيان أن تطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفة خطوة «طبيعية وأخلاقية». وتوجّه إلى الضباط بدعوتهم إلى قول الحقيقة للجمهور حول هويتهم السياسية: «أنتم يساريون تعارضون وجودنا في يهودا والسامرة، ولا تختبئوا وراء هذا الشؤم في كلامكم».
الرسالة والردود عليها، وفي مقدمها تغريدة نتنياهو، تعيد تسليط الضوء على المنطق الذي يتحكم بتعامل اليسار واليمين في إسرائيل مع فكرة الاحتلال والسيطرة على الآخرين، والذي يدور حوله الكثير من المغالطات أو يراد له ذلك. الواقع أن الخلاف التقليدي بين اليمين واليسار حول الأرض المحتلة الفلسطينية والعربية ينحصر في حدود القدرة الفعلية على إبقاء الاحتلال وتقدير أضراره، وأيضاً في إمكانية مقايضة جزء منه بمكاسب استراتيجية. إلا أنه لا يوجد خلاف بين الإسرائيليين، على اختلاف توجهاتهم، إزاء أصل الاحتلال وسلب حقوق الآخرين. وكثيرة هي البراهين في تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي على ذلك. وأحدها «اتفاقية كامب ديفيد» المُوقّعة عام 1978، والتي انتهى بموجبها احتلال سيناء لقاء مكسب تحييد مصر عن الصراع، وإضعاف استراتيجيات استرجاع الحق عبر محاربة الاحتلال، علماً بأن أحداً لم يكن ليعارض إبقاء الاحتلال على الأرض المصرية لو بدا بلا تداعيات أو في حال لم تُعرض أثمان استراتيجية لقاء إنهائه. كذلك، انسحاب إسرائيل من الأرض المحتلة في لبنان جاء على خلفية تعذّر الإبقاء على الاحتلال، وليس رفض أصل الاحتلال. وهذا هو الحال ــــ مع الفارق في الدافع ــــ في الانسحاب من قطاع غزة. وعلى هذه الخلفية أيضاً، جاء احتلال سيناء المصرية، مثلاً، على أيدي اليسار الإسرائيلي (حزب «العمل») في عام 1967، فيما جاء قرار الانسحاب منها على أيدي اليمين (حزب «الليكود») عام 1978.
في كل الحالات، ليس هناك لدى الإسرائيليين مكان لفكرة إرجاع الأرض المحتلة لأنها أرض الآخرين، أو الامتناع عن احتلال أرض الآخرين لأنها غير إسرائيلية. الخلاف يتمحور حول الآتي: هل يتعذّر استمرار الاحتلال أم لا؟ وهل ثمن بقائه أعلى من ثمن إنهائه؟ وهل التشبث بالاحتلال يفضي إلى تطويع إرادة الآخرين والتسليم به؟ والأخيرة هي نظرة نتنياهو إلى فلسطين والقضية الفلسطينية، إذ يرى أن الإصرار على احتلال الأرض قاد ويقود الأنظمة العربية إلى إهمال فلسطين، التي لن تحول قضيتها دون التطبيع بل والتحالف العربي مع إسرائيل.
في رسالة الضباط، خشية من فوضى فلسطينية وعمليات ضد الاحتلال وسيطرة «حماس» على الضفة الغربية، إن أقدمت إسرائيل على ضمّ أجزاء واسعة منها. السبب، بحسب الرسالة، إمكان أن تقرر السلطة وقف التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. لكن، هل يمكن تخويف نتنياهو فعلاً من تجرّؤ السلطة الفلسطينية على إنهاء التوكيل بمحاربة المقاومين، والمُسمّى «تنسيقاً أمنياً». تاريخ السلطة الطويل مع الاحتلال من شأنه طمأنة نتنياهو، مهما كانت الظروف.
|