في جريمة هي الأضخم منذ احتلال القدس عام 1967، هجّر الاحتلال 500 فلسطيني من منازلهم، بعدما هدم أكثر من مئة شقة في 16 عمارة سكنية في حيّ وادي الحُمص في صور باهر، فيما تنتظر 250 شقة أخرى المصير نفسه. ومع أنّ العدو لا ينتظر ذريعة لنسف البيوت، تحجّج هذه المرّة بقرب المنطقة من جدار الفصل العنصري الذي بناه بنفسه لفصل القدس عن الضفة. أما المفارقة، فهي أن هذه البيوت تتبع إدارياً وقانونياً للسلطة الفلسطينية غير القادرة حتى على حماية مقارّها أصلاً.
«إحنا مش طالعين من هون، بدك تهدم؟ إهدم على راسنا! هون دارنا وهون حياتنا. إسمع... بدك تطلعني؟ طلعني بالقوة! عم بقلك أنا من هون مش طالع. مش طالع». هكذا صرخ أحد المقدسيين بوجه عناصر وحدة «حرس الحدود» الإسرائيلية التي أتت بجرافاتها وكلابها البوليسية فجر أمس، لتهجير أكثر من 500 فلسطيني من قرية صور باهر، وهدم شققهم البالغ عددها مئة في الحيّ المعروف باسم وادي الحمص. الجريمة الجماعية ليست الأولى من نوعها، لكنها الأضخم في تاريخ المدينة المحتلة منذعام 1967. الذريعة هذه المرة تتجاوز «أذونات البناء»، لتصل إلى «قرب المنطقة من الجدار الأمني». وبما أن المنطقة تابعة للسلطة الفلسطينية إدارياً وأمنياً وقانونياً (مناطق أ وب)، كان من المفترض أن تتحرك الأخيرة لحماية مواطنيها، لكنها كما حدث قبل بضعة أشهر في نابلس، باتت عاجزة حتى عن حماية مقارّها الأمنية، فكيف بالناس؟ وحتى التلويح بالشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية لم يرَ منه المُهجّرون الجدد شيئاً.
إذاً، تُرك أهالي وادي الحمص وحيدين في معركتهم، ومُنعوا من حمل أي ممتلكات معهم. وكما حدث قبل 71 عاماً، جُمّع الناس في ساحة، وأُمروا بقوة السلاح بأن يتركوا حيّهم الذي أُعلن منطقة عسكرية مغلقة، ثم رُحّلوا إلى المجهول. كان جنود الاحتلال صرحاء معهم هذه المرة: غيبتكم ستطول كثيراً، وليست «يوماً أو اثنين... وتعودون». أما بيوتهم التي كانت آمنة لهم حتى فجر أمس، فتراءت لهم من بعيد تصارع فكّ الجرافة الإسرائيلية، قبل أن تتحول إلى فتات، فيما تفجّر بعضها بفعل القنابل التي زرعها الجنود داخل الجدران. المتضامنون معهم مُنعوا أيضاً، فحتى الأجانب الذين «ناشدوا» الاحتلال أكثر من مرة إيقاف مخططات الهدم في الحيّ، لم يتمكنوا من الوصول في تلك الليلة. في المقابل، لم يقدر أحد من مئات الآلاف الذين ناضلوا في البلدة القديمة ضد البوابات الإلكترونية في الطريق إلى المسجد الأقصى، على إيقاف الجريمة. على ما يبدو، الحيّ الذي بقي هادئاً إلى أمس «مهم لنا فحسب»، كما يقول أسامة العبيدي الذي هدم الاحتلال بيته وطرد عائلته المكوّنة من سبعة أفراد. يبدو الرجل خلال حديثه مع «الأخبار» في حالة من الصدمة واللايقين، ولا كلمة على لسانه سوى: «الحمد لله، أهم شيء سلامة الأهل والولاد».
*أخذ الأهالي تراخيص البناء من السلطة، وتوهّموا أنهم محميّون قانوناً*
هذه ليست المرة الأولى التي يهدم فيها الاحتلال منشآت وعمارات في القدس، لكن المختلف أن الحيّ يقع في منطقة يفترض أنها تابعة للسلطة إدارياً وأمنياً، كما يقول مدير «مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية»، زياد الحموري. ويضيف في حديث إلى «الأخبار» أن «ما حدث يُعدّ الجريمة الأشنع؛ لكونه هدماً جماعياً استهدف مئات العائلات. صحيح أننا شهدنا سابقاً هدم عشرات المنازل دفعة واحدة في قلنديا، لكن ما حدث اليوم (أمس) هو الجريمة الأضخم منذ احتلال المدينة». الجزء «المُستغرَب» في نظره أن «الأهالي أخذوا تراخيص بناء من السلطة. وبناءً على ذلك، عدّوا أنفسهم محميّين قانوناً من الاحتلال الذي أكد مرة جديدة أنه لا يقيم أي وزنٍ لسلطة ولا لغيرها. في نهاية المطاف، للاحتلال مخطط كبير هدفه إفراغ القدس من الفلسطينيين واستبدال المستوطنين بهم». ولذلك، ما جرى في صور باهر «ليس سوى جزء يسير من مخطط كبير يبدأ من مستوطنة غيلو في الضفة، ويمرّ بصور باهر وجبل المكبر، ثم رأس العمود وسلوان، انتهاءً إلى قلنديا حيث من المفترض أن يربط هذه المناطق ما يُطلق عليه الخط البُني الذي سيقضم أراضي الناس لإنشاء قطار خفيف يربط المناطق بعضها ببعض، وينتهي في مستوطنة ستقام عند قلنديا تضم 20 ألف وحدة سكنية».
الحدث، وبالتحديد لناحية حجمه، شكّل صدمة للأهالي، كما يقول مدير «مؤسسة التنمية للشباب المقدسي»، مازن الجعبري، مضيفاً: «الوضع حالياً صعب جداً، فنحن نقف أمام أكبر عملية هدم وتشريد للسكان بعد هدم باب المغاربة إبان النكسة العربية الكُبرى عام 1967». أما حال السكان، فهو «مأساوي... هم في صدمة ويعيشون مصيراً مجهولاً، لأننا نتحدث عن عملية تطهير عرقي أمام الكاميرات والعالم، ولا نعرف بعد كيف سنتصرف مع هذه الحالة ونحن ننتظر مزيداً من قرارات الهدم في الحيّ نفسه».
المتتبع لخريطة المشاريع الاستيطانية، والأماكن التي تتسارع فيها وتيرة الهدم أخيراً، يصل إلى خلاصة مفادها أن الاحتلال بات في نهاية الطريق لضمّ الجزء الأكبر من الضفة إلى المناطق الخاضعة لسيادته، ولا سيما المعروفة بمناطق «ج» التي تضم 250 ألف فلسطيني، يرى الاحتلال فيهم عدداً «يسهل دمجه والسيطرة عليه». وإن كان يُنتظر أن تُعلن الولايات المتحدة بنود «صفقة القرن»، فإن ما يحدث في فلسطين عامةً والقدس خاصة، ما هو سوى تطبيق غير معلن لتلك البنود. وإذا ما استمرت الحال على ما هي عليه، فقد لا يبقى فلسطيني واحد في القدس. ما الذي قد يردع الاحتلال، خاصة أن أحياء مقدسية بكاملها ينتظرها مصير وادي الحمص نفسه؟ في رأي الحموري، أثبتت «التجربة أن هناكَ إشكالية كبيرة في التعويل على المجتمع الدولي الذي لم يستطع ولا مرة واحدة حماية القرارات التي اتخذها في شأن قضايا من هذا النوع». يتابع: «قبل أيام، زارنا هذا المجتمع الدولي ممثلاً بوفود أجنبية من سفراء وقناصل، وقد أعطى هذا الحضور دفعة معنوية للأهالي، لكن هؤلاء لم يستطيعوا حتى تأجيل الهدم. لذلك، نعوّل على الفلسطيني نفسه، وشعوب أمتنا وعلى رأسها في لبنان واليمن وتونس والجزائر والمغرب... التي أثبتت أنها لا تزال ترى فلسطين قضيتها الأولى».-
|