ها نحن نلتقي في شارع خليل حاوي في السوق العتيق في ضهور الشوير في عنوان جديد. من هذا المكان الذي كان يتنفس خليل حاوي هواءه شعرياً.
أتينا أيها الشاعر الكبير ولو تأخر الوقت قليلاً أو كثيراً فللحب بعدُ آوان وللوفاء بعدُ مكان وللأمل بعدُ بيان. أتينا نعتذر، أيغفر القلب يا صديقي ويا معلمي؟ أتينا نحن والجرح العتيق والغصون المعرّاة والشراع الجديد. أتينا فهل ضوء في الحقل مصباح جديد؟ هل رميت جرحك علينا أم رمينا عليك مآسينا؟ أتينا نتسلل الى نعاسك الذي يسقط الورق الأصفر فوقه في الجوار القريب ونتحد في القصيدة لنسمع صوتك ولنسمع صمتك.
هناك مبدعون يروون الكارثة ويشهدون لها، وآخرون يحترقون فيها. خليل حاوي لم يكن من هذه ولا من تلك بل حاول افتداء أمته بروحه أعزّ ما يملك ولم يسأل هل خانه الشعر أم خانه البشر؟ لعلها كانت طلقة النور الوحيدة في ليل الذئاب. مضى خليل حاوي ولم يماهره أحد في اللغة أم في الموقف أم في الالتزام. ولكن سوف يمضون وتبقى.
شاعر المعاناة العنيفة الصميمة التي مزجت بين الحياة والكلمة والفعل. لم يفصل أبداً بين الذاكرة الحضارية والحداثة الشعرية. أسئلة الشعر لديه هي أسئلة الوجود والوعي والهوية والكرامة وهذا ما عرفه حاوي وما مارسه حتى الرمق الأخير. شاهد القرن وشهيد حزيران.
اليوم سنعلن أمرين: الأول من قتل خليل حاوي؟ وأمامي شهادة من الشاعر محمود درويش كتبها في الجزائر عام 1983 «كيف أتتك كلّ هذه الشجاعة يا خليل بطلقة واحدة قضت على كلّ الأسئلة المربكة ولغز اختلاط الأزمنة في ذاكرتك؟ زمن مضى لكنه لا ينتهي وأن هذا الزمن دفع بحاوي الى الانتحار». إذا أردنا ان ننتقم لخليل حاوي علينا أن نغيّر هذا الزمن اللبناني الرديء وهذا الزمن العربي الرديء فننشر أمل خليل حاوي وروحه وأحلامه وقصائده. وأمامي أيضاً بيت من قصيدته «الناي والريح» يقول فيه: «أترى حُملتُ من رؤى الصدق ما لا تطيق». شاعر صادق قتله الصدق. اذا أردنا أن ننتقم لخليل حاوي علينا أن نتخلص من الكذب والرياء والنفاق والوجوه والعقول المستعارة في حياتنا. واذا علّمنا خليل حاوي شيئاً فهو كيف يكون الشاعر اللبناني السوري العربي حراً صادقاً في هذه الأمة رغم كلّ شيء.
الأمر الثاني: سنعلن من اليوم انطلاق مئوية خليل حاوي المولود عام 1919 ولن نكتفي بعمل اليوم الرائع فهناك متحف لخليل حاوي بالتعاون مع عائلته وهناك تفاهم بإعادة نشر تراثه. وهناك ندوات وأمسيات تنتظرنا في بيروت في شوارع رأس بيروت ومعالمها وهو المكان الثاني الأحب الى قلبه. فالموعد مع خليل حاوي لن ينتهي أبداً.
عند نهاية الربيع كان يفرّ خليل حاوي من بيروت فرار السجين الى الشوير. كان يجد نفسه هنا معتدّاً بنفسه كما يليق بشاعر مفاخر بعصاميته كتعب الأيادي والقلوب متحلياً بالأخلاق الجبلية كمثل شويري أصيل. هنا يستعيد الذكريات على دروب الضهور ومطلّ الدير والغابات والعرزال. يعرف كلّ تلة وكلّ مطلّ ويعرف القادوميات والمعصرة والبيدر ومقاعد الصخور وأكواز الصنوبر وعيون المياه ومقهى الحاوي في الساحة.
انّ قرية لم ترعرع شاعراً ما لها نصيب من العز، وانّ قرية او مدينة لا تنتمي الى شاعر فليس لها نصيب من الجمال والحق والخير. أربعة سكنوا روح خليل حاوي سكون النفس الى النفس: المسيح والمتنبي وجبران وأنطون سعاده، هؤلاء الأربعة كانوا أساتذة في المعنى والفداء. ولكنه حين وصف المتنبي بقوله: «تأمّل في أمة وتألّم عن أمة وصار ضمير الأمة أكثر من حكام وأمراء عصره». فكأنه يصف نفسه.
لم يقطف خليل حاوي من شجرة الزمان ثمار المجد. ولكنه أوقد مرجل النهضة ومضى قبل أن يرى البذور والهامات تعلو وتغطي المكان وتحرثه. أنت الذي سبقتنا جميعاً وطوّقت عمق هذه الأمة بقلادة من الفداء واليقظة والتجدد.
غداً حين يمرّ طيفه قرب التمثال سيلوح بسبحته قائلاً: «العمر أحلى من التمثال «وسيضيف بلهجته الشويرية» عرفت كيف شكل». الشعراء لا عمر لغيابهم ولا عمر لحياتهم ولا هم يموتون.
ثمة أمنية أخيرة بعد، أننا نعدك بالوفاء للحب، بالوفاء للجسر يا صاحب الجسر الوطيد الذي نشبته من ضلوعك إلى الطليعة المقبلة والأجيال المقبلة لكي يعبروا من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق الى الشرق الجديد. ومن أجدر منك وأطهر منك بهذه الدعوة؟
* كلمة ألقيت في حقل إزاحة الستار عن تمثال الشاعر خليل حاوي الشوير- السوق العتيق
|