يمكن لتشكيل «اللجنة الدستورية» أن يُمهّد لقلب معطيات المشهد السوري. ومع أنّ التفاؤل بحدوث انفراجات فعلية ومباشرة يبدو «مغامرة» كبرى، فإنّ لحظة التوافق على التشكيل مؤهّلة بحد ذاتها لتحمل تغييرات جوهرية في الخريطة بأكملها، وبمختلف المعاني: الحقيقية والمجازية
تشكّلت «اللجنة الدستوريّة» إذاً. كان المسار الطويل الذي أفضى إلى تشكيلها شائكاً ومعقّداً، بصورة تستنسخ معظم التوافقات السياسية التي عرفها الملف السوري، وهي ليست كثيرة بطبيعة الحال. يبدو تشابه المقدّمات، في نظر كثير من المتابعين مؤشراً على ما قد تؤول إليه أحوال اللجنة بعد أن تزول «بهجة الحدث»، أو بعد انعقاد أولى جلساتها في مدة وجيزة (الموعد المفترض أواخر الشهر المقبل). في واقع الأمر، يحظى تحقّق هذا السيناريو بحظوظ كبيرة نظراً إلى تفاصيل كثيرة غير محسومة في شأن مَهمات اللجنة وآليات عملها.
في الوقت نفسه ثَمّة معطيات تجعل لحظة التوافق النادرة هذه مؤهلةً لتشكل علامة فارقة في المسارات السورية المعقّدة. ويمكن استباق «شارة البدء» المنتظرة وتأمّل المشهد الفريد الآخذ في الارتسام راهناً. أبرز ملامح ذلك يتجلّى في التباينات الغريبة بين مواقف اثنين من اللاعبين الدوليين المؤثّرين (واشنطن وأنقرة)، وبين أبرز الجماعات المحسوبة على كلّ منهما. وفيما تدخل دمشق وحلفاؤها «مرحلة الدستورية» بانسجام معهود (رغم وجود تباينات في شأن بعض التفاصيل)، تُرخي التناقضات المعلنة بظلالها على المقلب الآخر. ففي مقابل الترحيب الأميركي وتأكيد «الدعم» الذي كان أمراً لا بدّ منه لاكتمال خيوط التشكيل، جاءت مواقف «الإدارة الذاتيّة» ساخطةً ومندّدة.
وعلى نحو مماثل، يبرز التناقض بين «الدعم» التركي الرّسمي الذي كان بدوره ضرورياً لإمرار التشكيل وبين موقف جماعة «الإخوان المسلمين» بفرعها السوري الذي أصدر بياناً يهاجم فيه اللجنة، ويؤكد أن لا تمثيل (رسمياً أو غير رسمي) للجماعة فيها. تأتي هذه التناقضات مخالفةً لتصورات سابقة مفادها أن دعم واشنطن وأنقرة للخطوة سيكون كفيلاً بتظهير مواقف مُطابقة عن المجموعات المحسوبة عليهما، ولا سيّما في الشقّ التركي. ويصعب إيجاد تفسيرات مشتركة لتشابه المعطيات في الشقين (التركي والأميركي)، ما خلا واحداً يحيل على تنسيق كبير وغير مُعلن بين العاصمتين، وهو أمر يتعذّر الجزم بوجوده..
مأزق «قسد»؟
حتى الآن تبدو «الإدارة الذاتيّة» والكيانات المكمّلة لها (على رأسها «قوات سوريا الديمقراطيّة ـــ قسد»، و«مجلس سوريا الديمقراطيّة ــــ مسد») في مأزق يمكن عدّه الثاني من نوعه بعد «تغريدة» الرئيس دونالد ترامب الشهيرة، حول الانسحاب الأميركي المزعوم من «شرق الفرات». لا تقتصر معطيات المأزق على غياب التمثيل في «الدستورية»، بل تتعدّاه إلى تفصيل بالغ الأهميّة هو الغياب عن «خريطة توافق» نادرة بين كل اللاعبين الدوليين. كما تُفرز المؤشرات إضعافاً غير مباشر لموقف «قسد» و«مسد»، و«الذاتيّة»، وهو إضعاف يُرجّح أن يقود إلى تفعيل جديد للخطوط مع دمشق رغم المواقف المتصلّبة راهناً.
يرى مصدر دبلوماسي أوروبي أنّ «العلاقة بين سيناريوات شرق الفرات وبين اللجنة الدستورية مختلفة جذرياً عن نظيرتها في إدلب، والشمال المحسوب على المشيئة التركية». المصدر المقيم في بيروت، يؤكد في حديث إلى «الأخبار»، أنّ إشراك «الإدارة الذاتية» في إحدى مراحل الحلّ «لا يزال الأوفر حظّاً، وغالباً سيبقى كذلك». لكنه لا يوافق على أنّ «تناقض المواقف بين واشنطن وحلفائها على الأرض دليلٌ على تخلٍّ من واشنطن». ويرى خلافاً لذلك أنّ «الأميركيين يحرصون على الورقة الكردية، ما ينطبق على الورقة العشائرية أيضاً. فهاتان الورقتان هما الفاعلتان في الشرق السوري، ولن يكون التنازل عنهما خطوة مجانية». في الوقت نفسه يوافق المصدر على أنّ «الوضع الراهن ليس في مصلحة الإدارة الذاتية، ولا سيما مع التباين الهائل في الخبرة السياسية بينها وبين دمشق وأنقرة». إلى أين تقود هذه المعطيات؟ يُفضل الدبلوماسي «التريّث قليلاً» قبل القفز في التوقّعات.
* يبرز التناقض بين «الدعم» التركي الرّسمي وموقف «الإخوان» *
في الوقت نفسه يحضر في بعض كواليس دمشق ارتياحٌ أولي إزاء معطيات «شرق الفرات» في ضوء تطورات المشهد السياسي، مع حرص بعض المصادر الواسعة الاطلاع على التذكير بأنّ «تفكيك التعقيدات التي تراكمت لسنوات لن يتمّ بين عشية وضحاها». لا تغامر المصادر السورية بالخوض في توقّعات «قبل جلاء كثير من التفاصيل»، إذ تبدو عودة الوفد السوري الرسمي من اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة (نيويورك) محطة ضرورية قبل «تقييم الموقف». وتبدو لافتة اللهجة الإيجابية لدى الحديث عن أربيل وأدوارها المحتملة للتأثير في معادلات الشرق السوري. وتزداد الصورة وضوحاً مع المعلومات عن خطوات سورية لمعالجة أوضاع كثير من السوريين الموجودين بأعداد كبيرة في كردستان العراق. ومن المنتظر أن يزور القنصل السوري لدى بغداد رياض خضور أربيل في الأسبوع الأول من الشهر المقبل. ومن دون الكشف عن جدول اللقاءات المحتملة، تقول مصادر إعلامية سورية: إنّ القنصل سيجلس مع «الجالية السورية ويناقش تفاصيل مهمة، من بينها تسهيل استخراج أو تجديد جوازات السفر».
أنقرة و«إخوانها»
لم يكن لعقد «الدستورية» أن يكتمل دون تسهيل تركي، سواء أكان هذا التسهيل خطوة «تكتيكية» مؤقتة أم ناجماً عن «انعطاف استراتيجي» يمهّد لمقاربة مختلفة لمستقبل الملف السوري. ثَمّة تفاصيل جوهرية سبقت تشكيل اللجنة تجب الإشارة إليها في ما يخصّ أداء أنقرة في هذا الشأن، وأبرزها يرتبط بأحدث تشكيل لـ«الحكومة المؤقتة»، وما رافقه من حرص تركي غير مسبوق على انتقاء وجوهها بعناية. تؤكد مصادر اطّلعت على مجريات ذلك التشكيل أن أنقرة طلبت للمرة الأولى الاطلاع على «السّير الذاتية» لجميع المرشّحين مترجمةً إلى التركيّة، ليُصار إلى دراستها بعناية قبل أن تبصر التشكيلة النور في خلال مدة وافية. في السياق، كان لافتاً أنّ مَهمة «وزارة الدفاع» في «المؤقتة» كانت الوحيدة التي حُسم أمرها لمصلحة مرشّح بعينه، ومن دون عناء البحث عن منافسين محتملين. بطبيعة الحال، لم يكن المرشح المذكور سوى سليم إدريس، بما يحظى به من قبول أميركي (مستمر حتى الآن). يبدو هذا الخيار مفهوماً في إطار التوقيت الذي تزامن مع جولة جديدة من التناغم الأميركي ــــ التركي بشأن «المنطقة الآمنة». وفي الوقت نفسه، يرجّح وجود صلة وثيقة بينه وبين ما قد تتطلّبه المرحلة المقبلة بـ«تحدياتها» الكبيرة في حسابات أنقرة بشأن إدلب أيضاً.
أين يمكن تبويب بيان «الإخوان» وسط كل ما تقدّم؟ «في إطار البحث عن العودة إلى ما قبل عام 2011»، على ما يرى معارض سوري بارز بعيد عن الأضواء منذ مدة. يشرح المصدر فكرته التي يؤكد فيها أنها «قائمة على معطيات دقيقة». يقول لـ«الأخبار» إنّ «هناك إجماعاً أميركياً وروسياً وعربياً، على أن إقحام الإخوان في المعادلة بالصورة التي يطمحون إليها لم يعد أمراً وارداً». ويشير إلى «أخذ ورد استمرّ طويلاً حول دور الجماعة المستقبلي... قوبلت محاولات أنقرة برفض شديد من النظام ومن ورائه موسكو. كما قوبلت برفض من واشنطن ومواقف إماراتية سعودية مصرية مماثلة».
بطبيعة الحال، لن يقود ما تقدّم إلى شقاق بين أنقرة و«الجماعة»، بقدر ما يبدو أنه يمهّد لـ«جولات جديدة في مضامير السياسة التي يجيد الطرفان (أنقرة والإخوان) التمايل فيها»، على حد تعبيره. أما أبرز ملامح الجولة المستقبلية، فـ«على الأرجح، عودة الإخوان إلى لعب أدوارهم من الخارج، من دون الانخراط الرسمي في أي حل، بما يشبه الالتفاف والعودة إلى ما قبل عام 2011، ليكونوا رأس حربة المعارضة مستقبلاً، أياً يكن ما ستتمخّض عنه التوافقات الدولية».
|