المناورات البحرية الضخمة التي تجريها روسيا والصين وإيران في مياه المحيط الهندي وبحر عمان لها طابع استراتيجي يطوق الأحاديّة الأميركيّة دافعاً بها نحو نظام دولي جديد ميزته أنه متعدّد الأقطاب.
صحيح أن هذا التحوّل المرتقب ليس ناتجاً من انتصارات عسكرية مباشرة بين المتنافسين، لكنها ثمرة صراعات اقتصادية وأخرى نشبت بين روسيا وأميركا عبر نظام قيادة الحروب من الخلف أو بتدخل نسبي مباشر.
هناك العديد من الأسباب تجعل لهذه المناورات أهمية في الصراعات الأساسية في العالم أولها أهمية المشاركين بها الذي يعلنون من خلالها أنهم انتقلوا من التساند اللفظي والآني إلى تنسيق عسكري عميق له مدى عالمي بالإضافة الى أهمية المكان الذي تجري فيه المناورات لاحتوائه على أكبر كمية معروفة من احتياطات الغاز والنفط مع قدرة هائلة على الاستهلاك لأن دولها غير منتجة. الى جانب توسُّط منطقة المناورات في الشرق الأوسط والهند وباكستان للعالم بأسره. كما يمكن اعتبار هذه المنطقة قلب العالم الروحي حيث مهد الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية، ومنطقة عبور بحري، بأبوابه الأربعة من هرمز الى المحيط الهندي من جهة وباب المندب وقناة السويس والبحر المتوسط من جهة ثانية.
هي اذاً مناورات بحرية تقتفي نظرية “دبلوماسية الأساطيل” التي تقوم على مناورات عنيفة لعرض قوة كامنة يجب أن تظهر لإقناع الأعداء بقوتها.
بماذا يمكن لهذه البلدان أن تسند بعضها بعضاً؟
تتعرّض روسيا والصين وإيران لعدوانية أميركية اقتصادية تدرك حدود الخنق. فالصين المنتشرة اقتصادياً على مستوى العالم تتلقى كل أسبوع أو أكثر عقوبات أميركية اقتصادية لشلّ انتشار سلعها وعرقلة شرائها لمواد ضرورية لإنتاج بضائعها، كما أن الأميركيين يستعينون بالمراكز الإسلامية التقليدية والإرهابية في الشرق الأوسط لتحريك أقلية الأيغور الإسلامية في الصين ضد دولتها.
لروسيا ايضاً حسابات كبرى عند الأميركيين، يكفي أنها لا تزال قطباً عسكرياً عالمياً يضارع الأميركيين وربما أكثر، لذلك تذهب موسكو عن تسويق ثرواتها من الغاز عن اوروبا والصين عبر أربعة خطوط من البلطيق – المانيا – روسيا اوكرانيا، روسيا الصين وروسيا تركيا نحو أوروبا. ولا تنسى بذل جهود جبارة لتحديث صناعاتها، وهذا يتطلب وقتاً، فتستغله بالانتشار العسكري والسياسي في العالم من مركزها الأساسي في سورية الى أميركا اللاتينية والخليج والعراق ومصر مع محاولات لاختراق شمالي افريقيا.
بما يؤكد أنها تريد توسيع الجيوبوليتيك الخاص بها لاستعادة قطبيتها المفقودة مع الراحل السوفياتي.
اما إيران فهي الثالثة المستهدفة بجنون أميركي لم يدخر أسلوباً للقضاء على جمهوريتها الاسلامية، واذا كانت لا تشكل خطراً عسكرياً او اقتصادياً على الأميركيين، فإنها تجسّد لهم رعباً في عرينهم الشرق الأوسطي حيث الغاز والنفط والجيوبوليتيك، فطهران اليوم موجودة سياسياً في لبنان وعلى كل المستويات في اليمن والعراق وسورية، ولها أدوار وازنة في افغانستان وباكستان، مع علاقات عميقة بدول في أميركا اللاتينية والهند وآسيا وتيارات شعبية في أفريقيا، ما يجعلها في دائرة رصد استراتيجي أميركي يرى فيها تهديداً إسلامياً لهيمنة واشنطن على العالم الاسلامي، حيث مركز القوة الأميركي الاساسي.
لماذا ضرورة التنسيق بين هذه الدول الثلاث؟
السبب المركزي الأول أنها مستهدفة من الأميركيين بشكل بنيوي قد تُركز السياسة الأميركية على روسيا حيناً مقابل التخفيف من خنق الصين وإيران، أو تخنق إيران وتتراخى مع موسكو وبكين، لكنها لا تنسى أبداً الخطر الاقتصادي الصيني الذي أصبح وسواس الاقتصاد الأميركي.
لجهة السبب الثاني الدافع للتنسيق العميق فهو افتقار كل دولة من الدول الثلاث بمفردها لكامل عناصر القوة الضرورية لمقاومة العدوانية الأميركية، فالصين معتدلة عسكرياً ومتقدمة اقتصادياً فيما روسيا رهيبة عسكرياً ومتراجعة اقتصادياً أما إيران فأهميتها اقتصادية وشرق أوسطية وإسلامية.
لذلك تبدو هذه الدول بحاجة لتنسيق قواها فتصبح قادرة على فرض تراجع بنيوي على الأميركيين يؤدي فوراً لولادة عالم متعدّد القطب تنخفض فيه الصراعات والحروب على الطريقة الأميركية التي لا يهمها إلا بيع السلع والسلاح على جثث الأبرياء والشعوب الضعيفة.
إن ما يمنح هذه الفرضيّة ميزات إضافية، بنجاح ممكن في ردع الأميركيين هي القوة السكانية الصينية التي تشكل بمفردها ربع العالم تقريباً بمدى اقتصادي اخترق الحدود السياسية في القارات الخمس، كذلك روسيا راعية تحالفات شنغهاي والبريكس التي تضمّ دولاً تزيد عن 60 في المئة من سكان العالم.
بالعودة الى المناورات البحرية التي تعطي الفرصة بولادة التوازن العالم، يكفي أنها تجري في منطقة تستوطن الجيوبوليتيك الأميركي منذ ستة عقود تقريباً.
ويمكن اعتبارها المدخل البحري إلى أكبر آبار نفط وغاز في العالم وتسيطر على بحار الشرق الأوسط من الخليج الى الأحمر فالمتوسط، وصولاً الى شواطئ باكستان والهند.
هل نحن فعلاً عشية التغيير القطبي؟
استناداً الى القراءة العلمية الدقيقة يمكن الجزم ان العالم مندفع نحو إعادة استقرار نسبي الى ربوعه تحت ضغط هذه المنافسة الثلاثية للنفوذ الأميركي.وكما قال الرئيس الفرنسي ماكرون فإن عالماً متعدّد القطب في طريقه للتشكل من روسيا والصين والأميركيين وأوروبا مجتمعة، وربما تلحق بهم الهند، أما العرب فمستمرون على حالهم من الضعف الشديد الذي يضعهم دائماً ضحية صراعات الأمم على ثرواتهم وتحت رحمة أنظمتهم المتضعضعة.
|