تبدو إيران، بعد اغتيال الفريق قاسم سليماني، خارج اللعبة العلنية في ما يتعلّق بالوضع في مدينة إدلب. لذا، تصدّرت المشهد في الأيام الماضية صورة الثنائي، الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان، والروسي فلاديمير بوتين. وقد برز اللاعبان في ساحتين تغليان، هما: الساحة السورية والساحة الليبية. وإذا كان التعاون/ التنافس التركي ــــ الروسي قد بدأ في الساحة السورية منذ اتفاق التطبيع في حزيران/ يونيو 2016، وحقّق نتائج مفيدة ومكاسب لكلا الطرفين، فإن التحرّك المشترك لهما في الساحة الليبية كان غريباً بعض الشيء. فروسيا، التي خرجت من ليبيا بعد الخديعة «الأطلسية» عام 2011 لتخسر إحدى أهمّ قواعدها المتوسّطية، عادت أخيراً إليها من الباب الموارب عبر مرتزقة شركة «فاغنر» الروسية الخاصة وغير الرسمية، والتي تخدم بشكل مباشر مصالح الدولة الروسية في أكثر من منطقة في العالم. وتقدّر بعض التقارير عدد أفراد الشركة المحاربين في ليبيا بحوالى الألفين، وهم يدعمون القدرات العسكرية للقوات التي يقودها اللواء خليفة حفتر. في المقابل، تشير أوساط تركية إلى أن العديد من الجنود الأتراك وصلوا فعلاً إلى طرابلس الغرب والمناطق التي تسيطر عليها حكومة فايز السراج المعترف بها دولياً. لكن المرتزقة الذين أرسلتهم تركيا من إدلب إلى طرابلس كانوا قد سبقوا وصول جنود أتراك، ويُقدّر عددهم بالآلاف. وبالتالي، نجد مشهداً سوريالياً في العلاقة التركية ــــ الروسية يمتدّ من سوريا إلى ليبيا.
في الحالتين، يقف كلّ طرف ضدّ الآخر في الميدان، لكنهما يتعاونان في الدبلوماسية. وعلى رغم الحضور الجديد «الطازج» لكلّ من روسيا وتركيا في ليبيا، فقد تمكّنتا من أن تتولّيا قيادة حركة اتصالات دبلوماسية، والإعلان المسبق، من جانبهما هما، عن وقف لإطلاق النار يوم السبت الماضي في ليبيا، فيما اللاعبون الآخرون «المزمنون»، مثل مصر والسعودية والإمارات وفرنسا وإيطاليا، لم يحظوا بمثل هذه المبادرة المثيرة، وبدوا كما لو أنهم لاعبون على مقاعد الاحتياط وليسوا في التشكيلة الأساسية التي بدأت المباراة. وعلى رغم فشل مبادرة وقف إطلاق النار هذه بسبب اعتراض فريق مصر ــــ السعودية ــــ الإمارات، إلا أن الثنائي التركي ــــ الروسي بدا كما لو أن زمام المبادرة في ليبيا في يديه.
*مداولات تركية ـــ روسية قد تفضي إلى إخلاء تركي لنقاط المراقبة في القسم الجنوبي*
لكن ما يبرز أيضاً هو التصلّب التركي المستجدّ في الحالتين الليبية والسورية. فقد تحدث إردوغان بنبرة عالية عندما وصف حفتر بأنه «فارّ»، وبأنه «سوف يلقّنه الدرس الضروري». وهذا يشير إلى التعثر الذي تواجهه سياسة تركيا الجديدة في ليبيا، لكنه مؤشر آخر إلى أن تركيا تتحدّث عن ليبيا مثلما كانت تتحدّث سابقاً عن سوريا، كما لو أنهما محافظتان تابعتان لها. وبعد كلام إردوغان، منذ أسبوعين، عن «عثمانية ليبيا»، ها هو يجدد ذلك في خطابه يوم الثلاثاء الماضي بالقول إن تركيا في ليبيا «لحماية أحفاد أجدادنا، ومنهم قبيلة كور أوغلو، من بطش خليفة حفتر». لكن الخطاب التركي لم يوفّر هذه المرّة الرئيس السوري، بشار الأسد، وذلك بعد لقاء رئيسَي استخبارات البلدين علي مملوك وحاقان فيدان في موسكو علناً للمرة الأولى. والتشدّد التركي قد يكون في جانب منه مؤشراً على فشل اللقاء، حيث تَمسّك الجانب السوري بحقّه في مطالبة أنقرة بانسحاب الجيش التركي من كلّ سوريا. ولفت إردوغان، في كلمته الثلاثاء الماضي، إلى أنه لم يَحِد قيد أنملة عن خطابه التقليدي في مهاجمة دمشق منذ عام 2011، وتهديده بأنه «إذا استمرّت خروقات الجانب السوري لوقف النار في إدلب، فإننا نحن الذين سنتصدّى له هذه المرّة».
كلام إردوغان قد يكون مرتبطاً بتطوّر آخر له علاقة بالحديث عن احتمال إقامة «منطقة آمنة» تخطّط لها تركيا وروسيا معاً على غرار مناطق «درع الفرات» وعفرين وشرقي الفرات. وتشير بعض المعطيات إلى مداولات تركية ــــ روسية يمكن أن تفضي إلى إخلاء تركي لنقاط المراقبة في القسم الجنوبي لإدلب، على أن يتقدّم الجيش السوري ويسيطر مباشرة على كلّ الطرقات المؤدية إلى حلب من حمص وحماة واللاذقية، والتي يلحظها أساساً «اتفاق سوتشي» الذي لم تنفذه أنقرة. لكن الجديد اليوم هو احتمال أن يتقدّم الجيش التركي، ويحتلّ منطقة شمال إدلب بما فيها مدينة إدلب، ويقيم «منطقة آمنة» جديدة. وقد لمّح إلى هذا الأمر عضو هيئة السياسات الأمنية والخارجية التابعة لرئاسة الجمهورية برهان الدين دوران، قبل أسبوعين، إذ كتب في صحيفة «صباح» الموالية لإردوغان أن روسيا والأسد يعملان تدريجياً على استعادة إدلب، ما يتسبّب بالمزيد من تهجير السكان، والذي وصل إلى أقلّ من مليون خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. ولذا، يقول دوران: «إذا لم يتوقّف ذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن تركيا ستكون مضطرة للتفكير في إقامة منطقة آمنة في إدلب». فهل يكون «الحلّ» في إدلب هو في تقسيمها إلى نصفين، جنوبي بعودته للوطن الأم، وشمالي ببدء تركيا «الحملة الرابعة»، بعد «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام»، واحتلاله برضى روسي كما العادة؟
|