المقدمة:
تنوعت اطياف تغطية مراكز الفكر والابحاث الاميركية لشؤون الشرق الاوسط، هذا الاسبوع.
وسيتناول التحليل المتضمن مسألة تنامي الدور التركي في الاقليم من منظار سؤال مشروع: "هل اصبحت تركيا لاعبا اقليميا يتجاوز قدراته؟" وسيتطرق الموضوع الى المعضلات الاقتصادية وغيرها التي تواجهها تركيا، لا سيما تهديد العامل الكردي، ورقعة الانتشار الواسعة لقواتها العسكرية، وهل ابتلعت اكثر مما تستطيع هضمه.
ملخص مراكز الابحاث
تناول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS التحديات الناجمة عن الانسحاب الاميركي من افغانستان وتداعياته على استقرار كل من افغانستان والباكستان. وقال "على الرغم من ان الولايات المتحدة حققت بعض المكاسب التكتيكية في الجنوب، ينبغي عليها الآن التعامل مع "مرحلة انتقالية" حيث ان معظم القوات العسكرية الاميركية وقوات ايساف القتالية ستنسحب في موعد اقصاه نهاية عام 2014، بينما تشير تقديرات وزارة المالية الاميركية الى ان تطرأ تخفيضات على مستويات الدعم العسكري والانفاق المقدمة مما سيخفض الناتج القومي الافغاني بنسبة 12%، في افضل الاحوال وبنسبة 40% في اسوأها. الأمر الذي قد يشعل ازمات اقتصادية وعسكرية متعددة خلال ذات الفترة الزمنية التي يتعين على (حميد) قرضاي مغادرة المنصب الرئاسي واجراء انتخابات رئاسية جديدة، والذي من شانه ان تعرّض حزمة التحديات المذكورة كلفة "المرحلة الانتقالية" للخطر الشديد."
اما معهد ابحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Center فقد تناول مسائل عدة، متطرقا الى نقاط الضعف في الملاحة البحرية، عنق الزجاجة واعمال القرصنة في الشرق الاوسط. وقال ان "القرصنة والارهاب والخطر المتنامي من ناحية ايران تشكل معضلات للمجتمع الدولي الذي يسعى الى معالجتها سوية. فهذه المعضلات ليست متميزة بالضرورة، اذ ان ايران تسعى الى توسيع رقعة نفوذها في دول تعاني من ضعف السيطرة الحكومية مثل اليمن، وبشكل جزئي كنتيجة لمسار "الربيع العربي." كما وان ايران تسعى للاستفادة من تنامي اعمال القرصنة لتبرير حضورها البحري المتنامي في منطقة البحر الاحمر. وساهمت الجهود الايرانية هذه لبسط سيطرتها في تحويل مياه القرن الافريقي الى ساحة احتكاك اخرى بين القطع البحرية المتواجدة هناك. وبالنتيجة فان القوات البحرية الاخرى العاملة في تلك المنطقة اضحت تواجه كل من اعمال القرصنة وتهريب الاسلحة الايرانية واستعراض العضلات."
واستمر اهتمام معهد دراسة الحرب Institute for the Study of War بالشأن الليبي، مصدرا دراسة خاصة بالحرب هناك. اذ تناول الجزء الاول من المقدمة سرد ردات الفعل الدولية للتمرد في ليبيا منذ بداية فصل الربيع لعام 2011 والجدل الدولي المرافق لاعلان منطقة حظر الطيران. كما تناول الجزء الاول توثيق الجهود الاميركية والحلفاء الاوروبيين لحشد دعم اوسع للتدخل العسكري في ليبيا، خاصة من الدول العربية. ومضت بالقول انه في هذه الاثناء، اقدمت كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على قيادة الجهود الدولية من اجل التدخل في ليبيا. اما القسم الثالث من الدراسة فقد اسهب في شرح الجهود المطلوبة لتطبيق منطقة حظر الطيران بقيادة الولايات المتحدة تحت عملية فجر الملحمة في شهر آذار / مارس 2011. وختمت الدراسة بنقاش حول عملية الحماية الموّحدة لحلف الناتو والتوترات الناشئة بين حلفاء الناتو انفسهم حول ماهية الاقدام على خطوة ما نحو ليبيا.
كما تم تناول الشأن الليبيي من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS وتجليات "الربيع العربي" على احد روافد تنظيم القاعدة المخضرمين، القاعدة في المغرب الاسلامي. وقال "في زمن المعاناة من ضغوط مكافحة الارهاب الاقليمي، فان المجموعة (القاعدة في المغرب الاسلامي) لا تلعب دورا دفاعيا بعد الآن. ويبدو انها تمتلك استراتيجية محددة واضحة المعالم وتقوم باعاد التسليح على قدم وساق وتوسيع نطاق عملياتها الى خارج ساحة وجودها في الجزائر. اذ قد توفر المناورات الاخيرة للمجموعة ، مدعومة بحالة الفوضى السائدة في ليبيا وعموم المنطقة، اسلحة متطورة ومصدر دخل مستمر لشراء ما يلزمها وتجنيد الكادر البشري المطلوب لاستخدام الاسلحة وملاذ آمن لعملياتها. اما ان استطاعت المجموعة الاستفادة واستثمار تلك التطورات لصالحها، فقد تشكل خطرا جديدا لاستقرار المنطقة وربما للمسرح الدولي."
1. كما تناول المركز CSIS التنافس بين ايران والولايات المتحدة للسيطرة على العراق. وقال "في نهاية المطاف، ستعتمد الولايات المتحدة على الجهود السياسية والاقتصادية والعسكرية المبذولة التي تقودها وزارة الخارجية لأجل دعم الطاقات العراقية ومواجهة النفوذ الايراني. اذ ان عددا من الحوافز الاقتصادية والسياسية تبقى في مستوى مرادف للأهمية التي يحظى بها كل من نشاط التدريب العسكري وقوات الشرطة. ان تطبيق تدابير من شأنها اجتثاث الفساد وفرض سلطة القانون ستسهم في اضفاء المشروعية على الحكومة العراقية اثناء الشروع ببناء الأسس الأمنية. فالاصلاحات الضرورية ستعتمد على مدى الدعم الاميركي على الارجح وليس بالضرورة ان تأخذ المصالح الايرانية بعين الاعتبار. فايران اليوم تحظى بعلاقات متينة مع دولة مجاورة والتي حاربتها بعنف خلال حرب دموية لثماني سنوات. وتتمتع ايران بالقدرات الثقافية والعسكرية والاقتصادية التي قد تستخدمها لتعزيز نفوذها في العراق. وستسخر ايران قدراتها لضمان بقاء العراق حليفا طيّعا. ومع ذلك فان الدور الايراني في العراق يتسم بالتعقيد ولن يكون من السهولة تدجين العراق الى حليف وفق المخططات الايرانية. وسيستمر التنافس بين الولايات المتحدة وايران على بسط النفوذ، خاصة في تقديم المساعدات والتأثيرات السياسية والمشتريات العسكرية وتدريب قوات الأمن، اما وان قررت الولايات المتحدة عدم الدخول في منافسة مستمرة وببراعة فان انعدام حالة الأمن في العراق وعلاقاته الوثيقة مع ايران قد تخدم بعض المصالح الايرانية الاساسية."
كما تناول مسألة السياسة الاميركية الخارجية نحو العراق مركز ابحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Center لما بعد انقضاء العمل باتفاقية بقاء القوات العسكرية بينهما. وقال " العلاقات الاميركية – العراقية بالغة التعقيد ومحفوفة بالمخاطر. وعند نضوج العلاقة، ستحتاج الولايات المتحدة التحلي بالصبر العالي. كما وستحتاج الى التأكيد مرارا الى ان اهدافها في العراق ليس من ضمنها السيطرة على الثروة الهيدروكربونية ولا الهيمنة السياسية على البلد. بل ان الهدف الاساسي للولايات المتحدة – الذي ينبغي ابرازه باستمرار– يبقى في مساعدة العراق للوصول الى اهدافه للتنعم بالاستقرار والديموقراطية والرخاء الاقتصادي وهو الهدف الذي وضعته لنفسها. ومن خلال هذه العملية، يبقى البلدين مشدودين الى النتيجة المشتركة، اقامة عراق حر وديموقراطي يضطلع بدوره كعامل للتغيير الايجابي في الشرق الاوسط."
اما مؤسسة هاريتاج Heritage Foundation فقد خصصت جهدها لنظام القبة الحديدية الدفاعي الاسرائيلي والنظر الى الكلفة العملية لاستخدام الولايات المتحدة نظاما دفاعيا لاعتراض الصواريخ عابرة القارات. وقال "بالاستناد الى الخبرة الاسرائيلية في نظام القبة الحديدية، ينبغي على الولايات المتحدة اجراء تعديلات على النصوص الواردة في معايير نيتز (نسبة الى بول نيتز المندوب الاميركي لمحادثات الحد من الصواريخ الباليستية مع نظيره السوفياتي آنذاك) الخاصة باجراء حسابات فعالة من اجل التوصل الى الكلفة الحقيقية الناجمة عن تبني نظام دفاعي يقي من الصواريخ. الا ان هذا لا يعني قبولا لتجاهل حاجة الالتزام بمعايير الكلفة الفعالة. ولا انها تتبع النظرة بان كلفة الانظمة الدفاعية ستكون ذات فعالية اقتصادية افضل من الانظمة الهجومية في كل الحالات. اذ ان هناك ميزات متأصلة في الانظمة الهجومية وفق ظروف متعددة. ويتعين على القيادات العسكرية والسياسية ادراك عملية حساب كلفة الفعالية للانظمة الدفاعية والهجومية، وهي مسألة دقيقة لا تعتمد على المعطيات المبسطة لحسابات الكلفة التي طالب نيتز تبنيها في معاييره لكلفة الفعالية لانظمة الدفاع الصاروخية."
بينما تناول معهد ويلسون Wilson Center ما اسماه الانقسام المتنامي بين الولايات المتحدة والسعودية، خاصة فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية. وقال "مرة اخرى يجد السعوديون انفسهم يحدقون في اختبار علاقتهم المتشعبة مع واشنطن. هل ان حق النقض الاميركي يعرّض التعاون الأمني والعسكري مع واشنطن للخطر؟ ومهما بلغ منسوب الغضب اليوم لدى القيادات السعودية التي افصحت مرة تلو الاخرى بأن المضي في مواجهة الخطر الايراني يعني ان هناك ليس سوى "لعبة واحدة متوفرة" – وهي القوة العسكرية الاميركية الهائلة. اذ اعربت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عن اعتقادها بأن الولايات المتحدة ستكون على أهبة الاستعداد لانشاء "مظلة دفاعية" فوق اجواء الخليج العربي لحماية دوله من ايران التي تمتلك سلاحا نوويا. ومع ذلك، يبقى الملك عبد الله رجل يتحلى بالعواطف القوية واتخاذ قرارات ارتجالية احيانا، وهي سمة قد ينشأ عنها انعطافة غير متوقعة في العلاقات الاميركية السعودية غير المستقرة."
وجاءت مسالة قوانين الانتخاب المصرية من اهتمام معهد واشنطن Washington Institute . وحذر بالقول "بما ان البرلمان المصري المقبل سيختار لجنة لصياغة الدستور الجديد، فان الاستناد الى قوانين انتخابية تضمن تمثيل اوسع في المجلس التشريعي تبقى مسألة حيوية لضمان شرعية المرحلة الانتقالية السياسية التي تمر بها البلاد. لكن النظام الجديد المعلن اتى مخيبا للآمال، اذ انه مصمم لتعزيز مواقع قوى سياسية معينة تناهض الليبرالية – حركة الاخوان المسلمين والحزب الوطني السابق – والذي من شأنه تقويض الآمال بمستقبل ديموقراطي. وبالنظر الى مصلحة واشنطن في تبني عملية انتقالية مستقرة وديموقراطية، ينبغي على صناع القرار الاميركيين تشجيع حكام مصر العسكريين رعاية عملية انتخابية اكثر شفافية."
التحليل:
تركيا الحديثة – قوة اقليمية تتجاوز قدراتها
متسلحا بفوزه الانتخابات قبل بضعة اشهر، تشي تصرفات رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بأنه اقرب الى مكانة الخليفة العثماني من رئاسة وزراء تركيا. اذ اتخذ موقفا عدائيا ضد اسرائيل علانية، وسعى للعب دور محوري في الازمة السورية مطالبا بتغيير النظام، ويسعى لبسط سيطرته على مخزون موارد الطاقة في البحر المتوسط، ويمول المتمردين الليبيين، وقام بزيارة مصر في سعيه الظهور بمظهر عبد الناصر الحديث. ومن يتتبع هذا المسار في تصرفات اردوغان لا بد ان يطرح سؤالا: هل تسعى تركيا لاستعادة مجد الامبراطورية العثمانية في الشرق الاوسط؟
للوهلة الاولى، تشكل تركيا نموذجا لدولة حديثة في الشرق الاوسط، اذ يتم تقديمها مثالا يحتذى به للديموقراطية الحديثة التي ينبغي على "دول الربيع العربي" محاكاته. فاقتصادها شهد نمواً لا باس به وكذلك تعد ملاذا تجاريا للعديد من دول المنطقة، كما وانها تحتفظ بأكبر قوة عسكرية هناك.
امام هذا المشهد، يجمع المراقبون على تصنيف تركيا بأنها امبراطورية عثمانية من ورق. فبالرغم من تعداد قواتها العسكرية الكبير، فان عناصر القوة الحديثة ما هي الا تعبير مرادف للقوة الاقتصادية. اما الاقتصاد التركي فانه يعاني من بعض الازمات التي قد تشلّ حركة اردوغان المندفعة للتميز عبر ولوج نطاق السياسة الخارجية. اذ بلغت معدلات البطالة نحو 14% وشهد سوق الاسهم خسارة نحو 40% من قيمته المعدلة بالدولار الاميركي في الاشهر القليلة الماضية، وتستورد تركيا موادا غذائية، وسلعتها الرئيسية للتصدير تكمن في وفرة الأيدي العاملة. وبلغ عدد العمال الاتراك او المتحدثين بالتركية نحو 10 مليون فرد يعملون في روسيا. ويمكن الاستخلاص بأن احد العوامل الاساسية التي دفعت تركيا للتدخل في ليبيا هو الحجم الهائل للعمالة التركية فوق الاراضي الليبية والتي تعد الاموال النفطية المرسلة لبلادهم مسألة حيوية لبقاء الاقتصاد التركي على قيد الحياة.
وتواجه تركيا مأزقا ماليا في مستوى الاقتراض، والذي تم تجاهله امام هول المشهد الاقتصادي في اليونان وغيرها من البلدان. واسهمت السياسات الاقتصادية لاردوغان وحزبه العدالة والتنمية في وضع البلاد في مأزق نظراً لشح السيولة المالية. اذ ارتفعت الاصول المصرفية المتوفرة بصورة كبيرة امام ارتفاع حجم العجز النقدي مما اوصله الى مستويات لا يمكن تحملها. ولجأت الآلية الحزبية الى اقتراض واسع النطاق للديون قصيرة الأجل لتمويل طفرة استهلاكية اسهمت في التأثير على نتائج انتخابات العام الجاري.
وقد انخفضت قيمة الليرة التركية الى مستويات متدنية اكثر من اي دولة رئيسية اخرى. فالعجز التركي الحالي بات خارجا عن السيطرة والتحكم به، اذ بلغ نحو 10% من مجمل الناتج القومي، وهي نسبة مماثلة تقريبا لدول اخرى على وشك الافلاس مثل اليونان والبرتغال. وقد سمح البنك المركزي التركي للعملة بالانزلاق في مسعى لتعديل اختلال التوازن الاقتصادي، لكن خفض سعرها ولّد نتائج عكسية.
وجذر المسألة يكمن في طفرة الاقتراض التي شجعتها الحكومة لتمويل مستويات الانفاق العالية قبيل عقد الانتخابات. وتشير تقارير البنك المركزي التركي الى ارتفاع مستويات الاقتراض التجارية بنسبة 40% ونسبة الاقتراض الفردي ارتفعت نحو 30%. وشجعت هذه الطفرة البنوك للموافقة السريعة على القروض قصيرة الاجل وقروض العقار كذلك في السنوات الاخيرة. وبما ان نسبة الفائدة على القروض كانت متدنية، فقد حفز الامر المواطنين الاتراك للاقتراض ومن ثم الاقتراض مرة اخرى اذ ذهب اغلبها لاشباع الرغبة الاستهلاكية. وخلال انشغال المجتمع التركي بانفاق هذه الثروات الجديدة التي لم تكن متوفرة في السابق، اضطرت الحكومة الى الاقتراض من الاسواق الخارجية بالدولار وليس بالليرة التركية.
وعلقت صحيفة الفاينانشال تايمز على حالة الاقتصاد التركي، 4 آب 2011، قائلة "بلغ العجز الحالي لتركيا نسبة مخيفة نحو 8% من مجمل الناتج القومي ومن المتوقع ان يتفاقم ليصل نحو 10% قبل نهاية العام الجاري." واضافت الصحيفة "اما العجز فيعاني من تدابير سيئة للتمويل، اذ ان نحو نسبة 15% (منه) يتم تغطيته عبر الاستثمار المباشر اما الباقي فيتم عبر تدفق الاستثمارات."
اذن، حقيقة الاقتصاد التركي تشير الى انه يترنح تحت وطأة ثقل الديون وليس كما توحي تدابير الاقتراض لتمويل النمو الاقتصادي. وبناء على ما تقدم من حقائق اقتصادية، هل بالامكان رؤية تركيا تسير نحو اعادة مجدها الغابر، ام كما وصفها القيصر الروسي نيكولاس الاول بانها "الرجل المريض؟"
فالمغامرات الخارجية التي قام بها اردوغان لم تحظ بدعم قوى المعارضة التركية، بل يواجه معارضة شديدة من قبلها وهي التي شجبت اتفاقية انشاء موقع للرادار لمنظومة الدرع الصاروخي الاميركية على الاراضي التركية منوهة بان الخطوة تأتي لحماية اسرائيل، مما يضع تركيا في وضع اصعب مما كانت عليه من ذي قبل. كما وان قوى المعارضة تساند النظام السوري.
اضافة لذلك، من الصعب التنبؤ بارتدادات خطوة الاستقالة الجماعية لأربعة من رؤساء الاركان التركية. بالرغم من ان الاستقالة وفرت لاردوغان فرصة تعيين عناصر عسكرية موالية في قيادة الاركان، يبقى السؤال حاضر حول الاضطرابات التي رافقتها في كافة المراتب العسكرية والقدرة كذلك على القيام بالواجبات العسكرية.
وتبقى المسألة العسكرية تحظى بالاهمية خاصة لناحية تحويل اولويات مهامها من مقاتلة الاكراد الى التركيز على "المخاطر الدولية." وبالنتيجة شهدت تركيا عدة هجمات شنها حزب العمال التركي مستهدفا مراكز الشرطة والضباط والتي ارتفعت وتيرتها بعد اعلان الحكومة عن نيتها تسخير قوات الشرطة لمكافحة الارهاب بالاعتماد المتدني على القوات العسكرية. ومع الاخذ بعين الاعتبار بان نحو 15 – 20% من الاتراك يعتبرون انفسهم ذوي أصول كردية، فانها نسبة بالغة القلق في الوضع الداخلي.
في الاحوال العادية، تشكل التهديدات الدولية نسبة محدودة لتركيا. وتبقى الاضطرابات في سورية تشكل عاملا ينذر بتخطي الحدود المشتركة. لكن ما تبقى من تهديدات تعتبر صناعة تركية، والنتيجة ان تحولات ستطرأ على التحالفات الاقليمية.
لا شك ان موقف اردوغان المتشدد لفظيا نحو اسرائيل قد اكسبه تعاطف جماهيري بين العرب، خاصة للتسهيلات المقدمة لسفينة آفي مرمرة لنقل مساعدات انسانية ومعدات طبية لقطاع غزة، في شهر ايار العام المنصرم، والتي اسفرت عن اقتحام الجيش الاسرائيلي للسفينة ومقتل تسعة مواطنين اتراك احدهم كردي. كما واعرب اردوغان عن نية حكومته تقديم تسهيلات لسفينة مساعدات اخرى بحماية البحرية التركية، في محاولة منه لتحدي الاجراءات الاسرائيلية.
التحول في المواقف قد غير كثيرا في التمازج الاقليمي. فالسياسة التركية نحو اسرائيل اسهمت في تحسين علاقات اسرائيل مع كل من اليونان وقبرص والاكراد وارمينيا؛ واجرت اليونان مناورات عسكرية مشتركة مع اسرائيل. ومع الاخذ بعين الاعتبار التواجد العددي الكبير لجاليات الدول المذكورة في الولايات المتحدة، اضحت تركيا في وضع اصعب عما ذي قبل لناحية قدرتها على المناورة السياسية في اروقة واشنطن.
ومن ابرز الموضوعات المقلقة لتركيا مسألة قبرص التي تقع بالقرب من مخزون هائل للنفط والغاز ولديها علاقات وثيقة مع شركات اسرائيلية عاملة في هذا المجال. وما ان باشرت قبرص بالاعلان عن نيتها للحفر والتنقيب حتى ثارت ثائرة اردوغان ضدها موجها تهديداته باستخدام "الفرقاطات والزوارق الحربية ... وسلاح الجو." وبما ان النزاع لا يزال في اول الطريق فانه يحمل بين احشاءه عناصر تطوره الى ازمة هائلة، خاصة وان روسيا ارسلت بعض القطع من غواصاتها بالقرب من قبرص تضامنا معها. ومن المرجح ان تتطور هذه الازمة العام المقبل خاصة وان قبرص تستعد لممارسة دورها في رئاسة الاتحاد الاوروبي.
من اليسير رؤية تركيا تتقمص دور الامبراطورية العثمانية الجديد، كما اسلفنا، الا ان الحقائق وديناميات الاوضاع لا تدعم تلك الرؤية. اذ تواجه تركيا ازمة اقتصادية خطيرة من شأنها شل آلية ادائها الاقتصادي. كما وانها لا تحظى بعلاقات ودية مع جيرانها باستثناء ايران والتي لا تخلو من توترات خاصة في اعقاب اعلان تركيا استضافة محطة رادار اميركية على اراضيها بالقرب من حدودها المشتركة مع ايران. وتجمع باقي الدول الاخرى، بمن فيهم روسيا، في التحسس من ان هناك خطر عسكري مصدره تركيا.
وفي الوقت عينه، تواجه تركيا تحديات جادة من تنامي ثورة الاكراد على سلطتها؛ لا سيما وانها وظفت قدراتها العسكرية التقليدية لمواجهة الاخطار الخارجية مما اضطرها الى الاعتماد بشكل رئيسي على قوات الشرطة التي يتعذر عليها مواجهة حرب العصابات الدائرة.
ان ما تقدم من دلائل لا يدعم مزاعم صعود تركيا كقوة اقليمية تتيح لها بسط نفوذها خارج حدودها. بل تشكل مؤشرات قوية على نزعة رئيس الوزراء الاستعراضية المشبعة بالغرور لبضع دقائق على الساحة الدولية قبل ارتطامه بالحقيقة وسقوطه المدوي المحتمل.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية - المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 1 اكتوبر 2011
|