تدرس السوبرحداثة العوالم الممكنة، أي تسعى إلى بناء النظريات التي من الممكن أن تكون صادقة والمحكومة بالمنطق والقدرة التفسيرية. وبما أن العوالم الممكنة تختلف عن بعضها بعضاً، إذاً إذا نظرنا إليها مجتمعة ستغدو من غير المُحدَّد ما هي حقائقها. من هنا تستعين السوبرحداثة بمفاهيم ما بعد الحداثة كمفهوم اللامُحدَّد من أجل الوصول إلى هدف الحداثة ألا وهو المعرفة. فالسوبرحداثة تُعنَى بالحصول على معرفة الأكوان الممكنة التي بعض منها قد يشبه عالمنا الواقعي وبعضها الآخر قد يختلف عن العالم الذي نحيا فيه. وتؤكد السوبرحداثة على التالي: رغم أن الكون بعوالمه الممكنة كافة من غير المُحدَّد ما هي حقائقه وظواهره فما نزال قادرين على الوصول إلى المعرفة لأن من خلال لامحددية الكون نتمكن من تفسير حقائقه وظواهره. من هذا المنطلق تختلف السوبرحداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. بالنسبة إلى الحداثة، الكون مُحدَّد ولذا من الممكن معرفته. أما بالنسبة إلى ما بعد الحداثة فالكون غير مُحدَّد ولذا من غير الممكن معرفته. لكن السوبرحداثة تقول: رغم أن الكون غير مُحدَّد من الممكن معرفته.
لكن لماذا ينبغي أن ندرس الأكوان الممكنة؟ يكمن الجواب في أنه بالنسبة إلى العلم على الأرجح توجد الأكوان الممكنة والعديدة. يقول العالِم الفيزيائي غوث Guth إن عالمنا قد وجد من جراء التقلبات الكمية القائمة في الخلاء، بذلك ولد الكون من العدم. وبما أن العدم يمتد إلى مساحات لا متناهية، إذاً من المتوقع نشوء أكوان لامتناهية في أجزاء مختلفة من العدم (Alan Guth: The Inflationary Universe. 1997. Jonathan Cape. pp. 12-15). أما العالِم الكوزمولوجي والفيزيائي ريز Rees فيفترض وجود أكوان مختلفة وعديدة، ومن خلال فرضيته هذه يُفسِّر لماذا يوجد عالَم كعالمنا. يقول: بما أنه توجد عوالم مختلفة وعديدة، إذاً من المتوقع وجود عالم كعالمنا. ويُقدِّم مثلاً على ذلك هو: إذا دخلنا إلى متجرة لبيع الثياب حيث توجد ثياب بمقاييس مختلفة وعديدة فليس من المستغرب حينئذٍ أن نجد ثوباً بمقاسنا. هكذا ليس من المستغرب وجود عالَم كعالمنا لأنه توجد عوالم عدة ومختلفة (Martin Rees: Our Cosmic Habitat. 2001. Princeton University Press. pp. 164-165). كما أن نظرية الأوتار تؤدي إلى وجود عوالم عدة. بالنسبة إليها، يتكوّن العالَم من أوتار قائمة في تسعة أو عشرة أبعاد مكانية وبُعد زماني واحد. العالم الذي نحيا فيه يتشكّل من ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد زماني واحد. أما الأبعاد الأخرى فملتفة بشكل يجعلها خفية عنا، وقوانين الطبيعة لديها تعتمد على طبيعة هندستها الرياضية، وبذلك الأبعاد الأخرى تُشكِّل عوالم ممكنة عديدة تختلف عن عالمنا الواقعي. هكذا تقترح نظرية الأوتار أن العوالم الممكنة موجودة (Astronomy. October 2005. pp.37-38).
بالإضافة إلى ذلك، بالنسبة إلى السوبرحداثة لا بد من دراسة الأكوان الممكنة لأن دراستها تجعل البحث المعرفي مستمراً وتؤدي إلى زيادة معارفنا. فبما أن الأكوان الممكنة عديدة إن لم تكن لا متناهية، إذاً حين نقوم بدراستها سيستمر بحثنا المعرفي ولن يتوقف وستزداد معارفنا عما هو ممكن أن يكون صادقاً. واستمرارية البحث العلمي وزيادة معلوماتنا فضيلتان معرفيتان. هكذا تملك السوبرحداثة الفضيلتين السابقتين مما يدعم مصداقيتها.
هل الكون موسيقى أم كمبيوتر أم كائن حي؟
للسوبرحداثة تطبيقات عدة منها إجابتها على السؤال الأساسي: ما هو الكون؟ نبدأ بالتحليلات المعاصرة المختلفة للكون. بالنسبة إلى آخر نظرية في العلم، الكون يتكوّن من أوتار، والجسيمات المختلفة والعديدة ليست سوى تذبذبات مختلفة لتلك الأوتار. من هذا المنطلق، المؤلّفة ثومبسن Thompson والعالِم الفيزيائي كاكو Kaku يقولان إن الكون عزف موسيقي؛ فمن الممكن معرفة الكون ومما يتكوّن من خلال معرفتنا للأوتار ونغماتها. فالكون يتصرف على نمط العزف على الأوتار (Michio Kaku & Jennifer Thompson: Beyond Einstein. 1995. Anchor Books. pp.4-6). بالنسبة إلى هذه النظرية، المثال Model الذي على أساسه يُوصَف الكون ويُفسَّر هو مثال الموسيقى أو العزف الموسيقي. فالكون عزف موسيقي ليس إلا. أما العالِم الفيزيائي سمولن Smolin فيعتبر أن الكون كمبيوتر لأن المثال الذي من خلاله نتمكن من وصف الكون وتفسيره هو مثال الكمبيوتر. بالنسبة إليه، الأحداث هي مجرد عمليات حسابية، والعلاقات السببية هي مجرد تدفق للمعلومات من حدث إلى آخر (Lee Smolin: Three Roads To Quantum Gravity. 2001. Basic Books. pp. 55-56).
من جهة أخرى، يرى العالِم الكوزمولوجي ريز أن الكون كائن حي. يقول إن الكون بنجومه ومجراته يتطور ويزداد في التعقيد والتغير كما يحدث للحيوان أو النبات الذي ينمو. كما أن العالِم سمولن يصف الكون بمفاهيم التوالد والوراثة والانتقاء الطبيعي كما يُوصَف الكائن الحي. بالنسبة إلى سمولن، تولد أكوان جديدة في الثقوب السوداء، وهذه الأكوان تحتفظ بذكريات عن قوانين الطبيعة القائمة في الكون الأم، وبذلك يوجد نوع من الوراثة يحكم الكون بأكمله. ويضيف بأن الأكوان التي تنجب ثقوباً سوداء عديدة ستمتلك تفوقاً إنجابياً ستتوارثه الأجيال اللاحقة من الأكوان (Martin Rees: Our Cosmic Habitat. p.80. pp. 177-178). كما يؤكد سمولن على أن ما يشبه الانتقاء الطبيعي الذي يحكم عالم الأحياء يتحكم أيضاً بالكون وإنجابه للأكوان العديدة؛ فالأكوان التي تُسبِّب ثقوباً سوداء كثيرة هي التي ستوجد بأعداد أكبر (Lee Smolin: Three Roads To Quantum Gravity. pp. 199-200).
أما بالنسبة إلى السوبرحداثة فمن غير المُحدَّد ما هو الكون. والتفصيل أنه من غير المُحدَّد ما إذا كان الكون عزفاً موسيقياً أم كمبيوتراً أم كائناً حياً. ولذا ينجح العلماء في وصفه إما على أنه عزف موسيقي وإما على أنه كمبيوتر وإما على أنه كائن حي. هكذا تتمكن السوبرحداثة من تفسير لماذا ينجح العلماء في وصف الكون وتفسيره على أنه موسيقى أو كمبيوتر أو كائن حي. وهذه القدرة التفسيرية تُعزِّز قبول السوبرحداثة. من جهة أخرى، من غير الممكن أن يكون الكون موسيقى وكمبيوتراً وكائناً حياً في الآن ذاته علماً بأن الموسيقى والكمبيوتر والكائن الحي يختلفون جذرياً عن بعضهم بعضاً. من هنا من غير المُحدَّد ما هو الكون. هكذا نصل إلى موقف السوبرحداثة. لكن رغم أنه من غير المُحدَّد ما هو الكون نتمكن من معرفته؛ فلامحدديته السابقة تمكننا من معرفة لماذا ينجح العلماء في تفسير الكون ووصفه من خلال اعتباره موسيقى أو كمبيوتراً أو كائناً حياً.
هل النظريات العلمية صادقة؟
بما أنه بالنسبة إلى السوبرحداثة من غير المحدَّد ما هو الكون، إذاً من غير المحدَّد أي نظرية علمية هي الصادقة. هنا يكمن اختلاف السوبرحداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. تقول الحداثة المتمثِّلة في المذهب الواقعي في العلوم إن النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون لأنها صادقة. أما ما بعد الحداثة المتمثِّلة في المذهب اللاواقعي في العلوم فتعتبر أن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة بل هي فقط مقبولة لأنها أدوات من أجل تفسير ظواهر الكون والتنبؤ بها (انظر: Editors: Boyd, Gasper, and Trout: Philosophy of Science. 1991. MIT). على هذا الأساس يفسِّر الفيلسوف اللاواقعي غيير Giere نجاح النظريات العلمية من خلال أننا نملك قدرات عقلية تمكننا من بناء نظريات ناجحة (Giere: Explaining Science. 1988. The University of Chicago Press. pp. 4-6. p. 136). أما الفيلسوف اللاواقعي فان فراسن Van Fraassen فيفسِّر نجاح النظريات العلمية على النحو التالي: النظريات العلمية تخضع لصراع دارويني مميت فيما بينها، من هنا تزول النظريات العلمية الفاشلة من جراء التنافس والصراع بين النظريات. ولذا فقط النظريات العلمية الناجحة تبقى، ولهذا السبب النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون (Van Fraassen: The Scientific Image. 1980. Oxford University Press. pp. 39-40).
الآن، بينما تؤكد الحداثة على صدق النظريات العلمية، وتقول ما بعد الحداثة بأن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة، تعتبر السوبرحداثة أنه من غير المحدَّد ما هي النظرية العلمية الصادقة. هكذا تختلف السوبرحداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. والدافع لقبول السوبرحداثة هو قدرتها التفسيرية. فبما أنه من غير المحدَّد أي نظرية علمية هي الصادقة، إذاً من المتوقع وجود نظريات علمية ناجحة رغم أنها مختلفة وتناقض بعضها بعضاً كنظريتي النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكمّ. هكذا تتمكن السوبرحداثة من تفسير وجود نظريات علمية ناجحة رغم التناقض فيما بينها. فالمشكلة هي كيف من الممكن أن توجد نظريات علمية كلها ناجحة رغم أنها تناقض بعضها بعضاً؟ والجواب كامن في أنه من غير المحدَّد أي نظرية علمية هي الصادقة. بالنسبة إلى النظرية النسبية الكون حتمي بينما بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ الكون غير حتمي. على هذا الأساس تقول السوبرحداثة إنه من غير المحدَّد ما إذا كانت نظرية النسبية أم نظرية ميكانيكا الكمّ هي الصادقة. ولذا كلّ نظرية منهما ناجحة في تفسير الكون رغم أنهما يناقضان بعضهما بعضاً. هكذا تتمكن السوبرحداثة من تفسير نجاحهما رغم تناقضهما.
أخيراً، العلم يُفرِّق لكي يعلم، أما الفلسفة فتوحِّد لكي تفهم. من هذا المنطلق، السوبرحداثة كفرضية فلسفية تُعنَى بدراسة الممكنات كافة. ورغم أنها تبحث عن حقائق العوالم الممكنة لا بد أن تنطلق من العلوم وأن تُحكَم بالمنطق ومبادىء التفكير السليم
|