إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

تساؤلات سعاده الوجودية مسار المعرفة واليقين

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-03-29

إقرأ ايضاً


نقطة الانطلاق في تفكير أنطون سعاده الفلسفي تكمن في منظومة من التساؤلات الوجودية التي طرحها على نفسه أولاً، ثم على الآخرين، في فترتين زمنيتين يفصل بينهما إقدامه على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي بصورة سرية سنة 1932. وهاتان الفترتان لا تشكلان قطيعة معرفية في نشاط سعاده الفكري، وإنما هما مرتبطتان بقرار الانتقال من البحث المجرد في واقع الأمة السورية بُعيد الحرب العالمية الأولى إلى التأسيس الفعلي لعمل حزبي غايته العليا "بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها". وهذا العمل لا يتم إلا بالخروج من الشك والفوضى إلى اليقين والوضوح.

والتساؤلات الوجودية، بصورة إجمالية، هي صنو منهج الشك الفلسفي الذي يسعى للوصول إلى اليقين. وقد لجأ فلاسفة كثر، قبل سعاده وبعده، إلى هذا المنهج كمقدمة تأسيسية لا بد منها لبناء منظومة فلسفية متكاملة تقوم على قاعدة راسخة أعمدتها الأساسية هي تلك الأجوبة المبدأية على تلك التساؤلات. ولا يمكن أبداً الفصل بين المسلمات والنتائج لدى أي من هذه المدارس الفلسفية، إذ أن نقطة الانطلاق والهدف من ذلك الانطلاق هما اللذان يحددان المسار، وبالتالي هما اللذان يحددان المبادئ الناجمة عن ذلك المسار.

قلنا إن سعاده طرح تساؤلاته الوجودية الأولى على مدى فترتين، من دون حدوث قطيعة زمنية واضحة بينهما. بل نستطيع التأكيد على أن الأجوبة التي كان يبحث عنها إنما جاءت في السياق العملي التنظيمي وليس فقط في البحث العقلي النظري. ويمتاز سعاده عن المفكرين "الفلسفيين" الآخرين في سوريا، خصوصاً في عصر "فجر النهضة"، في أنه زاوج بين التفكير المجرد الهادف إلى إيجاد أجوبة على أسئلته الوجودية وبين النشاط التنظيمي المتنوع الذي كان يجد فيه إطاراً حركياً لاختبار تلك الأجوبة في الواقع الاجتماعي للأمة السورية، في الوطن وفي المغتربات على حد سواء. وكان مرشده الوحيد في طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة هو العقل: "لم يوجد العقل الإنساني عبثاً، لم يوجد ليتقيد وينشل، بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميّز، ليعيّن الأهداف ويفعل في الوجود. في نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الموهبة الأساسية للإنسان. العقل هو الشرع الأعلى والشرع الأساسي".

تنقسم التساؤلات الوجودية التي تعامل معها سعاده في المرحلة المبكرة من تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بل حتى قبل انخراطه في أية أعمال تنظيمية في مغتربه البرازيلي الأول (1920 ــ 1930)، إلى نوعين يرتكز الثاني منهما بصورة منطقية على الأول. ونحن نقترح تسميتهما بـ "التساؤلات المعرفية" و"التساؤلات اليقينية". يقول سعاده في رسالته إلى المحامي حميد فرنجيه وعنوانها "في ما دفعني إلى انشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي": "كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل".

هذا التساؤل يتناول الواقع كما عايشه سعاده في فترة الحرب العالمية الأولى حين عانت سوريا ويلات المجاعة التي أوصلتها إلى حافة الكارثة الإنسانية الشاملة. وهو تساؤل اتخذ أبعاداً أشمل وأعمق عندما فشلت الأمة السورية في استعادة سيادتها القومية، ووقعت تحت براثن القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك (بريطانيا وفرنسا) التي عمدت إلى ترسيخ حدة الانقسامات الدينية والطائفية والعرقية في المجتمع السوري الممزق والخارج منهكاً من ظلامية الحكم العثماني على مدى أربعة قرون. ومما زاد في حراجة الأزمة القومية أن القوتين المنتصرتين في الحرب أقدمتا على تمزيق أوصال الوطن السوري جغرافياً وفق ترتيبات دينية وعرقية، إضافة إلى سلخ أجزاء إستراتيجية أساسية ومنحها للأتراك من جهة الشمال وللحركة الصهيونية من جهة الجنوب.

صحيح أن سؤال "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟" ورد في رسالة تعود إلى 10 كانون الأول سنة 1935، أي فترة ما بعد التأسيس، لكنه بالفعل يرجع إلى الفترة الأولى. ونستطيع باطمئنان أن نربط ذلك السؤال بمرحلة الخروج من الحرب العالمية الأولى والسقوط في براثن الاستعمار الأوروبي الجديد الذي حلّ مكان الاستبداد العثماني الراحل. فكان من الطبيعي أن يصيغ سعاده جوابه الوجودي التأسيسي على الشكل التالي: "وبعد درس أولي منظم قررتُ أن فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حلّ بأمتي وفي ما يحل بها". ولو أن سعاده اكتفى بالوقوف عند عبارة "في ما حلّ بأمتي"، لكان أصبح مؤرخاً تنتهي مهمته برصد العوامل التي أوصلت الأمة السورية إلى تلك الحال. لكنه تابع يقول: "... وفي ما يحل بها"، أي أنه نقل التساؤل الوجودي إلى مستوى يستدعي أجوبة ذات أبعاد مستقبلية.

إن الإجابة التي توصل إليها سعاده رداً على سؤاله التمهيدي، وهي "فقدان السيادة القومية"، فتحت أمامه آفاق التفكير القومي المنظم أولاً للعمل على إزالة أسباب الويل، وثانياً لإنشاء عقيدة قومية اجتماعية تحصّن الشعب السوري فلا يسقط في الويل مرة أخرى. ذلك أن طرح التساؤلات هو منهج يُؤدي إلى أجوبة معينة تساعد بالتالي في كشف الأسباب التي تطلق بدورها تساؤلات جديدة... وهكذا. فسعاده لم ينشئ العقيدة القومية الاجتماعية رداً على ظرف معين كالحرب العالمية أو الانتداب وما شابه من الحوادث العارضة، بل أراد تقديم منهج في التفكير لا يتوقف عن طرح المزيد من التساؤلات وصولاً إلى تحديد الأسباب وليس العوارض فقط. يقول: "رأيت أن كل عمل قومي صحيح يجب أن يبدأ من هذا السؤال الفلسفي: من نحن؟ الذي وضعته لأول مرة أمام نفسي، منذ بدء تفكيري القومي الاجتماعي، وطرحته على الشعب في رسالة مني إلى النزالة السورية في البرازيل، بمناسبة وفاة والدي هناك سنة 1934".

التساؤل الوجودي: "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل"، والتساؤل الفلسفي: "من نحن؟" شكلا النوع الأول من الأسئلة (التساؤلات المعرفية) التي أفضت إلى نشوء الحركة القومية الاجتماعية وتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. فلقد تحققت المعرفة لدى سعاده، وبات جاهزاً لإطلاق "فكرة وحركة" كي يتمكن السوريون من إعادة اكتشاف هويتهم القومية. أما النوع الثاني، "التساؤلات اليقينية"، فيرتبط بالعمل الحزبي وقدرة الشعب السوري على تحمل مسؤوليات القضايا الناشئة عن الأجوبة التي عرضها سعاده على الأمة. فمع الإعلان عن مبادئ الحزب الأساسية والإصلاحية، يكون سعاده قد أعطى الأجوبة الواضحة الحاسمة على "التساؤلات المعرفية"، ممهداً الطريق أمام كل من يسعى إلى تحقيق النهضة القومية الاجتماعية. لكنه جابه، في الوقت ذاته، حملات مشككة حتى من قِبل المقبلين الأول على الدعوة القومية الاجتماعية... لذلك حان الوقت للإنتقال إلى النوع الثاني من التساؤلات!

جاءت الفرصة بمناسبة وفاة الدكتور خليل سعاده في البرازيل، فوجه سعاده الإبن رسالة إلى الجالية هناك بتاريخ 5 حزيران سنة 1934، أي بعد سنتين على تأسيس الحزب الذي كان ما يزال في مرحلته السرية. وفي هذه الرسالة، يطرح سعاده مجموعة من الأسئلة على المهاجرين السوريين، ليس القصد منها الحصول على أجوبة محددة بقدر ما هي دعوة تمهيدية استعداداً للإنخراط في العمل النهضوي فور الإعلان رسمياً عن وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول:

"ويتراءى لي أن أمتنا كانت منذ عصور قديمة جداً أمام عدة مسائل تتطلب أجوبة صحيحة وهي:

هل نحن أمة حية؟

هل نحن مجموع له هدف من الحياة؟

هل نحن قوم لهم مثل عليا؟

هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟

هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟

ويتراءى لي أن هذه المسائل وأمثالها لا تزال ماثلة أمامنا ولن يكون لنا لون معروف ولا منزلة ثابتة حتى نكون قد أجبنا عليها أجوبة عملية".

تدخل هذه الأسئلة في سياق النوع الثاني، "التساؤلات اليقينية". فسعاده مقتنع بالرد الإيجابي (تساؤل العارف) وإلا لما كان أقدم على تأسيس الحزب بعد مخاض فكري وتنظيمي طويل في البرازيل أولاً، ثم في الوطن. وهو على يقين تام بأننا أمة حية، لها هدف من الحياة، وذات إرادة واحدة، ولها مثل عليا، وتعرف أهمية الأعمال النظامية. لكن طرح تلك الأسئلة في ذاك الوقت بالذات إنما كان يستهدف تحفيز السوريين الذين لم تكن قد تكشفت لهم بعد الحقائق المعرفية التي تنقلهم إلى الوضوح واليقين، وهي في الوقت نفسه دعوة للسير في ركاب النشاط النهضوي المتوقع.

لم تقتصر "التساؤلات اليقينية" على الشعب السوري فقط، ولا على المرحلة السرية. إذ نجد سعاده ينشر في جريدة "النهضة" بتاريخ 4 تشرين الثاني سنة 1937 مقالاً تحت عنوان "هل يُفلح سعاده؟" واضعاً دوره هو على محك التساؤل والبحث. ولكنه في هذه المقالة، يقدم للقراء الرد الإيجابي المشروط: "ولكنه (أي سعاده) سيكون دائماً في حرب مع البيئة، ونصره يتوقف على صلابة عود معاونيه وتمسكهم بالأخلاق القومية الجديدة: أخلاق النهضة ــ أخلاق الثقة الراسخة المتبادلة ــ أخلاق الإيمان والمثابرة. أما أخلاق الشك والتردد فهي أخلاق فساد البيئة ــ أخلاق اللاقوميين. وما رجاء الأمة إلا بالأخلاق القومية".

ظل سعاده، طيلة حياته العاصفة، يطرح على الأمة السورية كلا النوعين من التساؤلات: "المعرفية" و"اليقينية". وهي نفسها التساؤلات التي تتردد في هذه الأزمنة القومية العصيبة، وتخفق في عقول القوميين الاجتماعيين وقلوبهم. وكما أن سعاده لم يتردد في أن يكون هو بالذات عرضة للتساؤل (اليقيني)، فإن من المهمات الملحة للعقل القومي الاجتماعي الجمعي أن يعيد صياغة الأسئلة ذاتها بصورة شمولية لا تستثني أحداً... حتى الحزب السوري القومي الاجتماعي نفسه! فالقوميون الاجتماعيون إذ يتوقفون عن طرح التساؤلات الوجودية يفقدون ميزتهم الأساسية، ألا وهي أن يكونوا منارة الأمة وليس مرآتها.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024