إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"!

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-09-06

إقرأ ايضاً


أظن أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هو قائل هذه العبارة، أو على الأقل هو الذي نشرها بين "الجماهير العربية الكادحة" مثل النار في الهشيم. وفحواها أن أي شيء آخر سوى المعركة ومتطلباتها يجعل من المواطنين المخالفين، ولو بالرأي، جزءاً لا يتجزأ من معسكر الأعداء لا تجوز عليهم الرحمة ولا الشفقة. وهذا القول يعني منطقياً أن تتوج المعركة بالانتصار، وبعد ذلك يهطل الرخاء والازدهار والحرية على الشعب المسكين.

ولم يكن عبد الناصر فريداً بين القادة في العالم العربي باستخدامه هذا الشعار لكبت أي حراك شعبي ديموقراطي، ليس في مصر وحدها وإنما في عدد من الدول العربية التي كانت متأثرة بالسياسات الناصرية في خمسينات وستينات القرن الماضي. وحتى بعد وفاته المبكرة سنة 1970، ظل "صوت المعركة" يلعلع في آذان الشعوب العربية، حارماً إياها من أبسط حقوق المواطنة الكريمة.

وما كان أحد من المواطنين ليفكر برفع صوته فوق "صوت المعركة" لو أن القيادات، التي جعلت هذا الشعار سيفاً مسلطاً على رقاب الناس، حققت ولو إنجازاً متواضعاً سواء في ميادين المعارك الحربية أو في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لرفع مستوى الشعب من الحضيض الذي يتردى فيه. وما كان أي مواطن ليتردد في سحب اللقمة من أفواه أطفاله لكي يساهم ولو بالقليل في المجهود الحربي، لولا أنه كان يشاهد بأم العين الثراء الفاحش المشبوه لدى طبقة المنتفعين من المتاجرة بشعار لا يُطبق إلا على عامة الناس.

خلال إقامتي في لندن لأكثر من ثلاثة عقود، أتيح لي مجال واسع للتمعن في الحياة البريطانية الاجتماعية أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد تبين لي أن القيادة السياسية طبقت مثل هذا الشعار، خصوصاً في فترة الحصار الخانق الذي فرضته السفن الحربية الألمانية على الجزر البريطانية. وتحمّل البريطانيون بجلد وصبر كافة إجراءات التقشف... مقابل النصر الذي تحقق لهم بقيادة رئيس الوزراء آنذاك وينستون تشيرشل. ولكن أكثر ما لفتني وأدهشني أن "بطل الإنتصار" فشل في أول انتخابات نيابية جرت بعد الحرب سنة 1945! فالحرب شيء ومصالح الناس شيء آخر: الأولى تنتهي يوماً ما بشكل أو بآخر، والثانية دائمة التطلب ما دام هناك مجتمع حي ينمو.

المنطق الأعوج الذي ينطلق منه شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يقوم على أساس وجود تناقض جوهري بين الإعداد للمعركة من حيث العديد والعتاد وبين ضرورات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بين الحفاظ على الأمن الداخلي وسد ثغرات التسلل العدواني إلى قلب مجتمعنا وبين بناء ثقة المواطن بدولته ومؤسساتها الأمنية والسياسية، بين نظرة الشك إلى المواطن الذي يختلف مع السلطة بالرأي ما يؤدي إلى القمع الممنهج وبين تشجيع الحوار الداخلي للوصول إلى وحدة الرأي ووحدة الاتجاه.

المنطق أعلاه مارسته الأنظمة الناصرية والاشتراكية والبعثية والإسلامية على امتداد العالم العربي طيلة العقود الستة الماضية، فأوصلتنا إلى الكوارث القومية المتفجرة في مجتمعاتنا اليوم. إن رافعي شعار "صوت المعركة" لم يحققوا سوى الدمار الروحي (النفسي والأخلاقي) للشعوب العربية، ناهيك عن دمار البنى التحتية الاقتصادية... والمرعب أنهم هُزموا في كل المعارك التي كان من المفترض أن ينتصروا فيها على العدو الحقيقي. إذ لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن ينتصر شعب وهو يرزح تحت إجراءات قمعية استبدادية تدمّر فيه روح المواطنة الحقة.

المنطق القومي الاجتماعي هو أمر مختلف تماماً، بل على طرفي نقيض من منطق "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". عندما عاد سعاده إلى الوطن سنة 1947، كانت المسألة الفلسطينية في ذروة تأزمها فانكب على الفور لإعداد الصف الحزبي لمواجهة فاصلة مقبلة. ونحن نذكر كلامه عن أن الحركة القومية الاجتماعية تعمل لتخريج ضباط وجنود قوميين استعداداً لتلك المعركة. غير أن قرقعة طبول الحرب التي زمّرت لها القيادات السورية والعربية الرجعية آنذاك لم تصبه باضطراب الأعصاب، ولم تصمّ أذنيه، ولم تشوش تركيزه، ولم تضيّع اتجاه البوصلة عنده، ولم تشغله عن العناية الدقيقة بشؤون الإدارة والسياسة والثقافة والفنون وكل ما من شأنه أن يرقي حياة المجتمع السوري... والأهم من كل ذلك أنها لم تقعده عن مواجهة الانحراف والفساد في الحزب فاستأصله إستئصالاً جذرياً، لأنه كان على قناعة مطلقة من أن الانتصار على المفاسد شرط ضروري للانتصار في معركة النهضة الشاملة.

وبعد سعاده بعقود، يقوم رئيسان سابقان للحزب السوري القومي الاجتماعي هما الأمين يوسف الأشقر والأمين الراحل إنعام رعد بالبناء على جانب مما تركه لنا الزعيم في هذا الصدد. الأول يطلق "المجتمع الحربي" والثاني "حرب وجود لا حرب حدود". والمشروعان يلحظان أهمية أن يكون المجتمع برمته منخرطاً إيجاباً في التجهيز للمعركة على مختلف المستويات، وأهمها بناء الإنسان العقائدي المناقبي الصراعي الجديد. إذ كيف يمكن للشعب أن يضحي بأغلى ما يملك وأن يقاتل باللحم الحيّ، حسب تعبير الأمين الراحل الدكتور عبدالله سعاده، ما لم تكن تلك التضحيات العظيمة خطوة في طريق حماية كرامة المواطن وترسيخ دوره شريكاً معززاً محترماً في مشروع بناء المجتمع المنفتح العادل!

الجندي المصري الطيب لم يقاتل العدو الصهيوني في حرب تشرين سنة 1973 لأن الرئيس أنور السادات على حق، بل لأن مصر على حق. والجندي الشامي البطل لم يقاتل في الجولان تلك السنة لأن الرئيس حافظ الأسد على حق، بل لأن سوريا على حق. وشعبنا الفلسطيني لم ينطلق في انتفاضات متتالية لأن أبا عمار وأبا مازن على حق، بل لأن فلسطين على حق. وعندما نفذ الأمين البطل حبيبب الشرتوني حكم الأمة بالخائن بشير الجميل لم يفعل ذلك لأن قيادة الحزب كانت على حق (الواقع أنها أنكرته ثلاثاً قبل صياح الديكة)، بل لأن لبنان على حق. واليوم، إذ يواجه السوريون الإرهاب والتطرف والقمع والاستبداد إنما يفعلون ذلك لأن سوريا على حق... وليس لأية غاية أخرى. وهم لا يريدون أن تنتهي تضحياتهم الجبارة بإعادة انتاج واقع كارثي خيّم على حياتهم لعقود متتالية.

واجه سعاده خلال حياته القصيرة العاصفة سلسلة من النكبات القومية، إبتداء من كيليكيا والإسكندرون وصولاً إلى فلسطين. وقد أدرك أن الخطة النظامية الهادفة إلى إلغاء مفاعيل تلك النكبات تتطلب حزباً قومياً اجتماعياً بمواصفات مميزة. ومن أجل صيانة ذلك الحزب، وفي الوقت نفسه بناء الجسم القومي الاجتماعي المقاتل، كان يحرص دائماً على تعرية المفاسد ومحاربتها داخل الحزب وخارجه. وما تردد لحظة في اتخاذ قرارات إستئصالية جذرية حتى في أحرج الظروف القومية العامة. ويبدو لنا أن قدر القوميين الاجتماعيين على مدى تاريخهم النضالي أن يحملوا البندقية بيد والبلسم الشافي بيد... لأن هذه النهضة أتت لتحرق وتضيء، كما علمنا سعاده. وإذا تراجع هذا الدور إلى مرتبة خلفية متأخرة، لا يعود يفرّقنا عن مروّجي شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" إلا الجعجعة التي لا تنتج طحيناً.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024