أدى انتشار الاستقطاب الديني والطائفي الحاد في العالم العربي إلى نشوء اختلاطات وتشابكات بين الدنيوي والديني، وإلى استيلاء المرجعيات الروحية على الشؤون السياسية والقضائية بحيث تراجع مفهوم المواطنة الجامعة لصالح منظومة الملل والنحل التي كانت مسيطرة على مستوى العالم خلال القرون الوسطى. ومن الأسباب التي ساعدت في تفشي ظاهرة تحكم رجال الدين بشؤون السياسة والقضاء القوميين أن المؤسسات الحكومية في الدولة الوطنية تخلت عن واجبها تجاه المواطنين، وتماهت تماماً مع التشرذم الطائفي المستشري.
ومن أخطر ما يسفر عنه تدخل رجال الدين في السياسة والقضاء القوميين أنه يصبح من الصعب، بل ومن المستحيل، الفصل بين ما هو دنيوي قابل للتغيير والتطوير وبين ما هو ثابت كونه جزءاً من تشريع ماورائي يتجاوز عوامل الزمان والمكان. إن من طبيعة العمل السياسي أن يكون متحركا ومتقلباً، وبالتالي فإن أي اختلاط بينه وبين الديني يمكن أن يسيء إلى دور الدين من حيث هو علاقة روحية خالصة بين الإنسان وخالقه، وفي الوقت نفسه يحوّل السياسة إلى عنصر تفرقة بين أبناء الوطن الواحد وفق خطوط مذهبية متناحرة.
التأويلات الدينية الصادرة عن المرجعيات الروحية قد تلزم المؤمنين بها فقط وليس الآخرين. فرائض الصلاة والصيام والحج وغيرها تنطبق على من يؤمن بها ويمارسها. أما المواقف السياسية فتترك تأثيرات شاملة على الجميع. عندما يتحدث البطريرك بشارة الراعي عن معاني الميلاد وقيمه، وعندما يحاضر السيد حسن نصرالله بأبعاد الصيام ودروسه، وعندما يخطب الشيخ عبد اللطيف دريان في تجليات الحج الروحية... فإنهم جميعاً يخاطبون قناعات المؤمنين الراسخة بهذه المذاهب. أما عندما يتناولون قانون الانتخاب وتشكيل الحكومة وما شابه، فهم يتوغلون في مسارات ليس للدين علاقة بها لا من بعيد ولا من قريب. وفي هذه الحالة سيلتبس على المؤمنين الخط الفاصل بين ما هو من أمور دينهم وما هو من أمور دنياهم.
إن المؤسسات الدينية جميعها تدرك مغبة هذا الاختلاط، لكنها مستمرة فيه وتصر على ممارسته تحت غطاء من صفة القداسة التي تُسبغ في العادة على العديد من رجال الدين. وتلتقي تلك المؤسسات، يهودية كانت أم مسيحية أم محمدية، في استخدام مفهوم القداسة أو التقديس لرفع شخصيات دينية معينة إلى مرتبة ترقى إلى ما فوق مستوى البشر العاديين، من دون أن تصل إلى مصاف الرموز السماوية كالملائكة والرسل والأنبياء. وغالباً ما يكون ذلك لغايات دنيوية، بعضها سياسي له علاقة بالدور المناط بالمرجعيات الدينية في مرحلة تاريخية محددة.
وكثيراً ما يلعب مفهوم القداسة أو التقديس دوراً ملتبساً في الأديان الماورائية. فمن ناحية أولى يمكن اعتباره تقديراً روحياً يُشكل نوعاً من "الرتبة المعنوية" التي تأتي تتويجاً لحياة حافلة بالعطاء الروحاني. لكن من ناحية أخرى، يجري توظيفه في مشاريع سياسية قد تكون غامضة بالنسبة إلى قطاعات واسعة من "المؤمنين" الذين تستهويهم قيم القداسة والتقديس. ويستوي في ذلك الدين السماوي والدين الوضعي.
إن صبغة القداسة تمنح الممارسة الدنيوية (وفي طليعتها السياسة) ضمانة ماورائية تؤمن للقائمين بها عدم التعرض إلى أية محاسبة نقدية أو تساؤلات اعتراضية. فلا يعود "الشخص المحاط بهالة القداسة" إنساناً يخضع لظروف الزمان والمكان في مواقفه وممارساته، وإنما يصبح جزءاً من تيار الألوهية أو على الأقل تصونه إيحاءات سماوية تنسحب على أقواله وأفعاله مهما كانت بعيدة عن جوهر الدين.
وبقدر ما تعتبر "القداسة" شهادة تقدير لحسن السلوك في الشؤون الدينية، فهي أيضاً إشارة إلى أن ممارسات أولئك الأشخاص تحظى بقبول رباني لا يتوافر إلا لهم هم بالذات، وبالتالي فإن الناس العاديين محكومون بتقليد تصرفات ذوي القداسة في مطلق الأحوال. وهذا وضع يتناقض جذرياً مع حق المواطن في الاختيار ثم في القرار، بعد أن يكون قد أعمل تفكيره النقدي في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع السياسية.
وفي مثل هذه الحالة، لا يقتصر الضرر على المتحد القومي من حيث هو الإطار الجامع لكل المواطنين من دون أية تفرقة دينية أو مذهبية أو عرقية... بل سيحل الضرر الأكبر والأخطر على القيم الدينية الروحية فيحوّلها إلى أدوات شرذمة اجتماعية وصراعات إقصائية تنتهي عادة بتآكل المجتمع من الداخل. وقد لا نتمكن في ظروفنا الراهنة من منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين. لكن من حقنا المطلق، ومن حق مجتمعنا القومي المطلق أيضاً، أن نزيل عن مواقف رجال الدين وتصريحاتهم السياسية أية صفات "قدسية" غير خاضعة للنقد والمحاسبة!
* نقلاً عن "الفينيق".
|