أيّاً كانت الخيارات البديلة التي ستقدّمها الولايات المتحدة، والاستراتيجية التي ستعتمدها في الساحة السورية بعد خروج قواتها العسكرية منها، القدر المتيقّن أنّ مؤسسة القرار الإسرائيلي تلقت صدمة قاسية جداً نتيجة قرار إدارة دونالد ترامب، الذي سيكون له مفاعيله التي تطاول مكانة إسرائيل الاستراتيجية. ففي محاولة لتفادي الواقع الذي تشهده إسرائيل الآن في بيئتها الإقليمية، عبر البوابة السورية، بذل رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، جهوداً استثنائية خلال المرحلة الماضية من أجل ثني الرئيس الأميركي عن هذا القرار الذي تعهّد به خلال حملته الانتخابية، وسعى إلى ربط قرار الانسحاب الأميركي بالانسحاب الإيراني. ومن ضمن الأهداف التي سعى نتنياهو إليها آنذاك، محاولة إنتاج قدر من التوازن مقابل التحالف الروسي والإيراني والسوري.
مع ذلك، لم تنجح تل أبيب في تنفيذ ما تطمح إليه لجهة محاولة دفع الولايات المتحدة إلى الإبقاء على قواتها وتوسيع انتشارها في سوريا كي تشكل حاجزاً مادياً وعسكرياً يحول دون التواصل الجغرافي لدول محور المقاومة من إيران حتى لبنان مروراً بالعراق وسوريا. ومهما كانت الدوافع الكامنة وراء القرار الأميركي، وبغضّ النظر عن اللغة الدبلوماسية المعتمدة في التعبير عن الموقف الرسمي في تل أبيب، فمن الصعب تفهمها إسرائيلياً.
من أكثر ما يهمّ تل أبيب في هذا المستجد المفصلي الذي سيكون له تداعياته في الاتجاهات الإقليمية والدولية، مفاعيل هذا القرار على النفوذ الأميركي في المعادلتين السورية والإقليمية، وكيف سيؤثر في بلورة مستقبل الوضع السياسي في الساحة السورية. ستراقب إسرائيل عن كثب المدى الذي ستبلغه موسكو وطهران ودمشق في الاستفادة من هذا التحول ذي الأبعاد الاستراتيجية، الذي سيكون محطة تأسيسية إضافية في بلورة مستقبل سوريا ومعادلات المنطقة. على خط موازٍ، من أكثر ما يقلق تل أبيب، الرسائل التي ينطوي عليها هذا القرار المفصلي، وكيف ستفهمه الجهات المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل... وفي النهاية، كيف سينعكس على المكانة الاستراتيجية لإسرائيل على المديين القريب والبعيد.
صحيح أن واشنطن هي التي بلورت مضمون قرار الانسحاب من سوريا، وحددت توقيته، لكن ساحة تنفيذه هي في البيئة الإقليمية المحيطة بالكيان الإسرائيلي، ولذلك لا يقلّ اهتمام تل أبيب بهذا القرار عن اهتمام واشنطن، إن لم نقل أكثر، وهو ما برز في ما نقلته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي عن مسؤولين قالوا إن ما جرى «ضربة قاسية جداً» لإسرائيل. في هذا الإطار، بادر نتنياهو إلى التعليق بالقول إن «الإدارة الأميركية أطلعته مسبقاً على نيتها سحب القوات من سوريا». وإدراكاً منه أن الأسئلة التي ستحضر بقوة في إسرائيل تتمحور حول تداعيات هذا القرار على الأمن القومي، حرص نتنياهو على توجيه رسالة تقليدية، قائلاً إن إسرائيل «ستعمل للحفاظ على أمنها والدفاع عن نفسها من هذه الساحة».
** القناة «العاشرة» عن مسؤولين: ما جرى «ضربة قاسية جداً» **
وفي محاولة للإجابة عن مروحة من التساؤلات ذات الصلة باليوم التالي للانسحاب، تبرع بالمبادرة إلى إعلان أن المسؤولين الأميركيين أوضحوا له أنه «توجد لديهم طرق أخرى للتعبير عن تأثيرهم في هذه المنطقة». وتعبيراً عن جانب من الأصداء التي تركها قرار الانسحاب من سوريا، ذكّرت قناة «كان» الإسرائيلية بأنه هو نفسه قال خلال زيارته الأخيرة لموسكو، في تموز/يوليو الماضي، عن الوجود الأميركي في سوريا وسياسة إسرائيل حياله، «كما أفهم الموقف الأميركي، وقيل بصورة علنية، فإنها (الولايات المتحدة) لن تنسحب من سوريا قبل انسحاب إيران» من هناك.
ونتيجة الحضور القوي لمفاعيل قرار الانسحاب الذي ما زالت تتردد أصداؤه في الداخل الإسرائيلي، جرى تناول هذه المسألة على ألسنة عدد من المسؤولين بتعبيرات مختلفة. إذ رأى السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، داني دانون، أنّ «لدينا قلقنا الخاص حيال الإيرانيين في سوريا، وسنفعل ما ينبغي من أجل حماية عناصرنا مع الأميركيين أو الروس، وسنستمر في هذه السياسة». أما عضو «المجلس الوزاري المصغر»، وزير التعليم، نفتالي بينت، فأكد أن إسرائيل «دافعت دوماً عن نفسها بنفسها وهكذا ستفعل الآن»، فيما رأى عضو «لجنة الخارجية والأمن» عوفر شيلح، أن «(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يلتقط الصور مع نتنياهو، وينظم سوريا مع (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان». أيضاً، أكد رئيس كتلة «يوجد مستقبل»، يائير لابيد، أن الانسحاب من سوريا «يشكل فشلاً لسياسة نتنياهو الخارجية، وسيعبّد الطريق أمام التمركز الإيراني ويقلص قدرات المساومة الإسرائيلية أمام روسيا».
على وقع التفاعل الفوري مع قرار الانسحاب، رأت «القناة العاشرة» أن القرار «له أهمية استراتيجية قطعاً، وهو تطور دراماتيكي على المستوى الدولي، ودراماتيكي جداً هنا في إسرائيل». وتناولت أيضاً جانباً من الأبعاد بالنسبة إلى إسرائيل، مشيرة إلى مفاعيل ذلك لمحور المقاومة، بالقول إن «القاعدة الأميركية الرئيسية موجودة في التنف، وهي المكان الذي يمنع الإيرانيين... حين خروج الأميركيين من هذه القاعدة كل هذه الطريق تصبح مفتوحة، وتصبح أوتوستراداً لإيران من أجل نقل ما تريد، ولن يكون هناك خوف من مهاجمة طائراتهم في مطار دمشق، والآن بات كل شيء سهلاً». كذلك، قالت القناة إن للوجود الأميركي في سوريا تأثيراً أكبر من تأييد الغارات الجوية الإسرائيلية هناك، وخلصت إلى أن الانسحاب يشكل رسالة للروس: «اسمعوا، بصراحة، لا يعنينا، افعلوا ما تشاؤون».
في السياق نفسه، رأت «القناة الـ 12» أن إسرائيل بذلت جهوداً كبيرة من أجل إقناع ترامب ومن حوله بالبقاء في سوريا وعدم إبقائها وحدها مقابل الإيرانيين وروسيا.... «كان يبدو أن الأمر يعمل، وكانت هناك إشارات إلى أن الولايات المتحدة ستبقى، لكن الرئيس ترامب قرر الخروج من هناك. في النهاية، بقيت إسرائيل مع صاحب البيت الوحيد في سوريا، وهو روسيا».
|