منذ بدء التدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015 لم تتوقف مراكز الأبحاث والنخب المهتمّة بالشأن السوري عن التشويش على الخطوات الروسية – السورية المشتركة في سورية، وكان الهدف الأساس من وراء هذا التشويش هو التأثير على الرأي العام المؤيّد للدولة السورية، وخاصةً النخب وإيقاعها في حالة ارتباك عند تحصيل أيّ مكسبٍ سياسي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ هدفاً آخر كان يجري التركيز عليه وهو العمل على إظهار الدولة السورية بمظهر المتلقي للاتفاقات وليس المشارك والطرف الأساس في مناقشتها وصياغتها، وذلك كون القوى المعادية لسورية لها أدوات وهي تحاول المساواة بين كامل الأطراف في الداخل السوري على هذا الأساس.
انطلاقاً مما سبق برز التطور الأخير يوم 22 تشرين الأول الذي تجلى باتفاقٍ بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس النظام التركي رجب طيّب أردوغان، بعد العدوان الجديد لجيش الاحتلال التركي على سورية، وبعد الإعلان الأميركي عن انسحابٍ منقوصٍ من منطقة شرق الفرات، وفي سياق رصد آلية الاتفاق والمكاسب التي حققتها سورية يمكن الإشارة إلى سلسلةٍ من النقاط:
أولاً، الكرملين أعلن قبل ساعاتٍ من القمة التركية – الروسية أنه على اتصالٍ مفتوحٍ ومباشر مع السيد الرئيس بشار الأسد، وهذا أمر يعكس حجم التنسيق عموماً، وما يتعلق بورقة الاتفاق مع نظام الاحتلال التركي خصوصاً.
ثانياً، التنسيق مع الدولة السورية أمرٌ رئيسي في بلورة أيّ اتفاق، وإنْ كانت روسيا هي الوسيط والحكم الدولي المقبول من كافة الأطراف وهذا دورها الدبلوماسي باعتراف الغرب، خاصةً بعد الانسحاب الأميركي، فمن المؤكد أنّ التفاوض في ما يخصّ الجمهورية العربية السورية يجب أن يجري بالتنسيق الكامل وبالصياغة الكاملة وتبادل الآراء مع الحكومة السورية التي بحكم طبيعة عملية ايّ تفاوض تكون مطّلعة على الورقة المقدّمة من الجانب الذي ينوب عنها في أيّ عملية قبيل عرضها على الطرف الآخر.
ثالثاً، في ما يخصّ منطقة منبج تل رفعت، الواقعتين إلى الشمال الشرقي وشمال مدينة حلب على التوالي، فقد جرى الاتفاق على تولي الجيش العربي السوري المسؤولية الكاملة في المدينتين سياسياً وعسكرياً، وهذا مكسب ملموس في ظلّ استمرار ما يسمّى «وحدات حماية الشعب» الكردية في عرقلة هذا الأمر والاكتفاء بالإشارة إلى البعد العسكري في اتفاقها مع الدولة السورية، بعيد الإعلان الأميركي عن الانسحاب من شرق الفرات.
رابعاً، تمّ ذكر اتفاق أضنة في الاتفاق التركي – الروسي وهذا بمثابة اعترافٍ تركي بوحدانية هذا الاتفاق الناظم لأمن الحدود السورية التركية مستقبلاً، وبعيد استقرار الوضع في سورية والوضع الإقليمي.
خامساً، في ما يخصّ رأس العين وتل أبيض، مما لا شكّ فيه أنّ احتلال هذه المنطقة والانهيار السريع لوحدات الحماية ومن خلفها ميليشيا قسد، لا تتحمّل الدولة السورية مسؤوليته، ونحن اليوم أمام احتلالٍ لجزءٍ عزيزٍ من تراب سورية ناتجٍ عن تعنّتٍ ورفضٍ من حزب الاتحاد الديمقراطي للمبادرات السياسية السابقة التي طرحتها موسكو ودمشق من أجل تجنيب المنطقة الحدودية السورية – التركية عمليةً عسكريةً محتومة، وقد أشار الرئيس الأسد يوم 22 من الشهر الجاري إلى هذا التفصيل المهمّ والدقيق.
قد يرى البعض أنّ تسيير الدوريات المشتركة الروسية – التركية هو بمثابة اعتداء على السيادة السورية، لكن من نصّ الاتفاق الواضح انّ تسيير هذه لدوريات جاء من أجل التأكد من عملية انسحاب ما يسمّى الوحدات الكردية من المنطقة المتفق عليها، والتي تعتبرها أنقرة ميليشيات إرهابية، وهذا إجراءٌ مؤقت لا يمكن ان يستمرّ في مرحلة ما بعد إتمام الانسحاب.
الجزيرة السورية هي مركز الثروة في سورية، ولهذا أعلنت الولايات المتّحدة على لسان الرئيس ترامب ووزير دفاعه مارك اسبر أنها ستبقى في حقول النفط، وهذا مؤشرٌ على هدف الوجود الأميركي من سورية والذي لا تزال «قسد» تتماشى معه، وتعمل على الحفاظ على أيّ وجودٍ غربي معادٍ للدولة السورية بأيّ ثمن ولو حتى على رقعةٍ جغرافيةٍ محدودةٍ، وهذا أمر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار حالياً، في سياق عملية إعادة انتشار الجيش السوري التي تتمّ دون إراقة أيّ قطرة دم، وأيّ خسارةٍ تذكر.
إنّ أيّ عملية يوسّع فيها الجيش السوري سيطرته الميدانية يجب أن يكون لها الأولوية على ما عداها من الملاحظات والانتقادات التي ثبت مع الزمن أنها تذهب أدراج الرياح مع قرار الجيش السوري والحلفاء استعادة أيّ منطقة من البلاد بشكلٍ كامل، وانطلاقاً من ذلك فإنّ الاتفاق التركي – الروسي يوسّع سيطرة الدولة لسورية على مساحاتٍ واسعة من الجزيرة السورية لا تقتصر فقط على المدن والقرى الحدودية، بل تتعدّاها إلى قلب الجزيرة السورية، وهذا معطىً له بعدٌ اجتماعي اقتصادي، وبعدٌ سياسي عسكري بالغ الأهمية في ظلّ الحرب الشرسة التي تخوضها الدولة السورية وحلفاؤها في مواجهة احتلالين هما الأميركي والتركي في شرق الفرات وأدواتهما.
|