لا تزال معركة معرّة النعمان المرتقبة في طور التسخين. ظاهراً، تحاول مختلف الأطراف استثمار الوقت لمواصلة التحشيد على طرفَي الجبهة، فيما تدور وراء الكواليس معركة من نوع آخر، ترتبط بـ«هندسة المسارات»، ولا سيّما بعد أن دخل على الخطّ ملف إرسال المسلّحين المعارضين إلى ليبيا
تبدو مواصلة الجيش عملياته بغية السيطرة على الأوتوستراد الدولي «M5» أمراً مفروغاً منه، غير أن تداخلات عدّة أسفرت عن تبريد مؤقت للجبهة، لا يُتوقّع أن يستمرّ أكثر من أيام معدودات. حتى الآن، لم تنجح المباحثات المستمرة على خطّ موسكو - أنقرة في التوصل إلى صيغة توافقية جديدة، بعدما طرحت الأخيرة فكرة تهدئة، تلتزم بموجبها دعم «تسوية تصالحية» تتيح دخول الجيش إلى مدينة معرّة النعمان من دون معركة، وتضمن في المقابل تجميد العمليات العسكرية، ومنحها مزيداً من الوقت لترتيب الأوراق، قبل إنفاذ «اتفاق سوتشي» الخاص بإدلب. وإذ تُظهر موسكو ميلاً إلى منح فرصة جديدة للاعب التركي لأسباب تتجاوز ملف إدلب إلى ملفّات أشمل، تشير معلومات «الأخبار» إلى أن دمشق رفضت تلك الصيغة، بسبب «انعدام الثقة»، وترسُّخ قناعة مفادها بأن الهدف التركي هو «مواصلة اللعب على الوقت، والمماطلة في تنفيذ الالتزامات»، علماً أن تركيا سعت لاستثمار التجميد المؤقّت في إمرار إمدادات عسكرية محدودة، فضلاً عن عرقلة جهود الوساطة حول معرّة النعمان (راجع «الأخبار»، 24 كانون الأول/ ديسمبر 2019)، في رسالة واضحة الدلالات.
وشكّل الكشف عن تجنيد أنقرة مسلّحين سوريين معارضين، بغية إرسالهم إلى جبهات القتال في ليبيا، مقدمة لتعقيدات جديدة داخل البيت العسكري المعارض. وتداولت بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، أمس، ما قيل إنه «بيان استقالة» لعدد من القياديين العسكريين المعارضين، قبل أن يتبيّن أنه مزوّر. غير أن انتفاء صحة البيان لا يعني انتفاء احتمالات حدوث استقالات من هذا النوع، إذ تشهد الكواليس السورية المعارضة في تركيا حالة غليان بفعل تداعيات الملف الليبي. وتؤكد مصادر مطّلعة على الكواليس أن «احتمال استقالة سليم إدريس واردٌ بشدّة». وتوضح المصادر، في حديث إلى «الأخبار»، أن الاستقالة المحتملة لا ترتبط بالملف الليبي فحسب، بل تتعدّاه إلى جملة أسباب تهدّد بخروج جناح كامل من «الحكومة المؤقتة»، وبشكل خاص من «وزارة الدفاع»، مبيّنة أن بعضاً من تلك الأسباب يرتبط بآخر جولات «أستانة» (10 و11 كانون الأول الحالي). ويُعدّ سليم إدريس أحد رجال الولايات المتحدة في «المؤقتة»، ويشغل منصب «وزير الدفاع» فيها، وهو الوحيد الذي تسلّم «حقيبة» في أحدث نسخ «الحكومة»، من دون وجود منافسين له (راجع «الأخبار»، 30 أيلول/ سبتمبر 2019). ولا يبدو موقف إدريس ومَن يدورون في فلكه مفاجئاً، كما لا يرتبط بمواقفهم الشخصية بطبيعة الحال، بل يشكل امتداداً لحالة المدّ والجزر في العلاقات الأميركية - التركية، علاوة على الصلات المفتوحة بين إدريس ودولة الإمارات. ويُضفي التداخل بين الملفَّين السوري والليبي تعقيداً جديداً على الأول (البالغ التعقيد أصلاً)، ولا سيّما أن الثاني بدوره حافلٌ بالتناقضات. وحتى الآن، تسجّل واشنطن موقفاً أقرب إلى «النأي بالنفس» من تطورات الساحة الليبية، على رغم صدور بيان عن المتحدثة باسم وزارة الخارجية، مورغان أورتاغوس، قبل أكثر من أسبوع، قالت فيه إن بلادها «تشعر بالقلق إزاء طلب حكومة الوفاق الحصول على دعم عسكري أجنبي». وتحظى «الوفاق» بدعم أنقرة، فيما تحظى قوات المشير خليفة حفتر بدعم من موسكو والقاهرة وأبو ظبي، ما يعني أن ليبيا مرشّحة للتحوّل إلى ساحة اشتباك بين أنقرة وموسكو، مع ما قد يشكله ذلك من انعكاسات على التوافقات بين الطرفين في سوريا.
وباتت مشاركة مسلّحين سوريين معارضين في الميدان الليبي تحت راية تركيا أمراً محسوماً ومرشّحاً للازدياد. وتقول مصادر «الأخبار» إن معظم المقاتلين السوريين الذين انخرطوا في ليبيا حتى الآن هم «مِمَّن تم منحهم الجنسية التركية، أو هم على وشك الحصول عليها». وحتى الآن، يبدو أن تطورات هذا الملف قد تشكل عقبة في وجه انخراط «الجيش الوطني السوري» المعارض (المحسوب على أنقرة) في معارك إدلب بشكل فعّال وسريع، ولا سيّما إذا ما أقدمت وجوه «وزارة الدفاع» على خطوة الاستقالة. المفارقة أن هذه المعطيات قد تصبّ مجدداً في سلّة «هيئة تحرير الشام - النصرة»، التي تحرص على الانفراد بملف إدلب الميداني. وكانت «الهيئة» قد دخلت في سجالات حول آخر جولات المعارك في ريف إدلب الشرقي، وتلقّت اتهامات بـ«التخاذل»، في مقابل حملة تلميع لـ«الجيش الوطني» وعزمه «دخول المعركة». وبدا لافتاً أن آخر ظهور مصوّر لزعيم «تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني (يوم الأربعاء الماضي)، لم يتضمّن أيّ ذكر لمعارك ريف إدلب، في مقابل تشديده على أن «المعركة الآن ضدّ موسكو، لا في سوريا فحسب، بل في كلّ مكان». ويمكن تفسير هذه الجزئية على أنها رسالة إلى أنقرة باستعداد الجولاني لإرسال مسلحين من «الهيئة» إلى ليبيا للقتال ضد حلفاء روسيا.
«الدستورية» في علم الغيب!
وسط كلّ التعقيدات المتزايدة، يبدو أن ملف «اللجنة الدستورية» يختبر استعصاءً جديداً. وعلى رغم أن مؤشرات «أستانة 14» كانت تشي باحتمالات بثّ الروح مجدداً في اجتماعات «اللجنة المصغرة» المنبثقة عن «الدستورية»، إلا أن هذه الاحتمالات انخفضت أخيراً على وقع الاشتباكات الميدانية والسياسية. ويُظهر المبعوث الأممي، غير بيدرسون، وفريقه، حذراً كبيراً من الدعوة إلى جولة جديدة، ما لم تكن مضمونة النجاح، ولو بشكل جزئي. وكانت ثانية الجولات قد مُنيت بالفشل، وانفضّت من دون تحديد موعد جديد، قبل أن يتمّ الحديث عن موعد محتمل بين 13 و18 كانون الثاني/ يناير (راجع «الأخبار»، 28 تشرين الثاني/ نوفمبر، و12 كانون الأول/ ديسمبر). أما اليوم، فتشير المعلومات المتوافرة إلى أن الموعد المفترض بات أقرب إلى التعليق. وعلى رغم حرص المبعوث الأممي على مسابقة الوقت لعقد الجولة الثالثة قبل انصرام الشهر المقبل، فإن الجولة الموعودة باتت على الأرجح في علم الغيب، ولا سيّما في ظلّ عدم صفاء الأجواء بين دمشق والمبعوث الأممي، علاوة على التعقيدات الإقليمية والدولية.
|