كان الأميركيون يعتقدون منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 أن عصر قطبيتهم الأحادية قابل للامتداد لقرون متواصلة عدّة. فهم أسقطوا منافسهم الروسي بصراع تسلحٍ أنهكه وألغاه وأوروبا تابعة لهم، فيما لا تزال الصين قوة اقتصادية هامة إنما ضعيفة على مستوى التسلح.
لذلك راهنوا على إعادة تشكيل الشرق الأوسط على نحو يمدد أحاديّتهم ويزيدها قوة. أما لماذا الشرق الأوسط فلأنه موطن موارد الطاقة من النفط والغاز ومركز تأسيس الأديان التوحيدية الثلاثة التي تؤثر على أكثر من نصف سكان الارض. هذا بالإضافة الى موقعه الاستراتيجي الذي يتوسّط العالم، فضلاً عن ان بلدانه غير منتجة. وهي بالتالي قادرة على استيراد السلع الغربية والأميركية بشكل مفتوح ولديها أنظمة تدفع للأميركي مقابل حمايتها من التغيّرات الداخلية والخارجية.
هذه هي الأسباب التي أملت على الأميركيين العودة الى الشرق منذ 2001 في افغانستان و2003 في العراق وأخذت تنتشر حربياً في سورية وليبيا وأفريقيا وباكستان وبعض أنحاء جنوبي اليمن، وأسست قواعد عسكرية تطلّ على سواحل إيران في الخليج بدءاً من الكويت الى السعودية، فالبحرين والإمارات وقطر وعمان مع قواعد أخرى ثابتة ومهمة في شرقي سورية والعراق.
ماذا كانت تريد من هذه الهيمنة العسكرية الأكبر في تاريخها الدموي منذ الحرب العالمية الثانية؟
كانت تقود علناً وعلى لسان وزيرة خارجيتها السابقة كونداليزا رايس أن بلادها بصدد تشكيل شرق اوسط جديد، يلائم النفوذ الأميركي اكثر.
لذلك تدرجت الخطة الأميركية حتى وصلت الى نتيجة مفادها ان تراجعاتها الشرق اوسطية سببها تطور الدور الإيراني في المنطقة، فحاصرت طهران وشنت عليها حروباً مباشرة وأخرى بالوكالة ودعمت دولاً عربية في حركة استعداء لإيران مذهبياً وعرقياً وصولاً الى المشاركة في أعنف حصار اقتصادي أميركي عليها يمنع كافة الدول المتعاملة بالدولار من الاستيراد والتصدير معها، حتى نجحت في خفض صادرات إيران من النفط من نحو مليوني برميل يومياً الى 300 الف فقط.
بالمقابل نشط الإيرانيون في مجابهة النفوذ الأميركي داعمين حزب الله في تحرير جنوب لبنان بين 1982 و2000، وزوّدوه بكل أنواع السلاح حتى نجح في صد هجوم إسرائيلي في 2006 متمكناً بهذه الانتصارات من الاستحواذ على نفوذ سياسي كبير في لبنان، أخذه من الدور الأميركي الذي كان مسيطراً بمفرده على القرار اللبناني. هذا دون نسيان أن تصاعد دور حزب الله انتزعه أيضاً من محاربة الارهاب في سورية ولبنان.
الأمر نفسه حدث في سورية التي ساندت قوات إيرانية عسكرية الجيش العربي السوري الى جانب حزب الله في مواجهة الأميركيين والاتراك وحلفائهم كما ان طهران هي التي فاوضت الروس على التدخل العسكري في سورية الى جانب دولتها.
وهل يمكن نكران أن الدعم الإيراني للحشد الشعبي العراقي هو الذي أدى الى دحر الارهاب عن ارض الرافدين مع تشكيل قوة سياسية عراقية متحالفة مع إيران تمسك بالقسم الأكبر من السلطة في بغداد السياسية.
كذلك فإن الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن عسكرياً وتمويلياً وتدريجياً أدى الى تجميد الحرب الخليجية الأميركية على دولة صنعاء.
كما بنت إيران نظام دعم مع قوى أفغانية وباكستانية وأخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
لكن ما أقلق الأميركيين أكثر فهو التنسيق الإيراني مع روسيا والصين وصولاً الى حدود تنظيم مناورات بحرية في المحيط الهندي وبحر عمان، لم تتطاول نحو البحر الأحمر، لأن الحوثيين يُمسكون بالملاحة في باب المندب أهم نقطة عبور بحرية فيه، بالإضافة الى مضيق هرمز القريب من الشواطئ الإيرانية، بما يوحي مدى السيطرة الإيرانية على مياه الخليج والبحر الأحمر بخطط سلبية أو إيجابية أي أنها تستطيع فتح البحرين او إقفالها، حسب مصالحها.
ضمن هذه المعطيات يمكن فهم العملية الأميركية التي أدّت الى اغتيال القائدين الكبيرين قاسم سليماني وابو مهدي المهندس.
لا بدّ هنا من التنويه بالدور الذي لعبه سليماني في دعم قطاع غزة تسليحاً وتمويلاً، بما حال دون انهيار القضية الفلسطينية، كما كان يريد الرئيس الأميركي ترامب الذي بذل ما في وسعه لدعم «اسرائيل» لإلغاء فلسطين نهائياً وسط تأييد وصمت من معظم العالم العربي باستثناء سورية والدعم الإيراني المفتوح وحلف المقاومة الفلسطينية مع حزب الله.
ألا تظهر هذه المعطيات مدى التناقض العميق بين السياستين الأميركية والإيرانية في الشرق الاوسط الى حدود ضرورة قضاء الواحدة منهما على الأخرى؟
يتبيّن أن هذا العداء بين هاتين السياستين أنتج تراجعاً أميركياً في الشرق الأوسط له مواصفات الانهيار الوشيك بدءاً من افغانستان التي تحارب الأميركيين، الى ظهور معارضات باكستانية واعدة ضدهم، الى اليمن الذي يقاتلهم وإيران التي تعمل على طردهم من المنطقة، في أجواء عدائية لهم في العراق، وحربية في سورية تعمل على تطهيرهم من شرق الفرات، هذا بالإضافة الى أن لبنان يكاد يخرج من هيمنتهم السياسية لتناقضهم مع القوى السياسية الأساسية فيه الإسلامية والمسيحية أيضاً. وهل يمكن تجاهل التصاعد في الخلافات التركية – الأميركية؟
وبما أن الشرق الاوسط هو الكنز الأميركي ومداه الجيوبوليتيكي والاستراتيجي فإن خسارته نسبياً او بشكل كامل تلقي بتداعياتها على مستوى الفقدان الأميركي لأحاديتهم القطبية او استعدادهم لتقاسمها مع قوى دولية أخرى بدأت تمتلك قسماً هاماً من عناصر القوى القطبية، وإلا فما سبب وجود الرئيس الروسي بوتين في هذه المرحلة في سورية وتركيا، فهو لم يأت فقط ليشارك في قداس ميلادي أرثوذكسي في دمشق او ليسوح في تركيا كما يفعل مواطنوه الروس!!
الشرق الأوسط إذاً مقبل على تسهيل ولادة قطبيّة جديدة تتضمّن الى جانب الأميركيين روسيا والصين وأوروبا الحالمة بوراثة حجم التدهور الأميركي كما أن إيران ماضية نحو تثبيت حجم إقليمي بمواصفات دولية، يكرّسها الدولة الأولى في الشرق الأوسط وجواره المباشر.وهذه المعادلة لم تعُد بعيدة، وبقي على عرب الشرق الأوسط أن يسارعوا إلى مغادرة القطار الأميركي الأهوج قبل سقوطه من حافة الهاوية.
|