تجاوز الحراك الشعبي في لبنان الـ (60) يوماً، منذ اندلاع الثورة اللبنانية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، التي بدأت تدخل مرحل الحسم. ولعلني راهنت على أنّ استمرار الأيام العشرة الأولى متصلة، هي البداية الحقيقية لاختبار قدرة هذا الحراك على الاستمرار، والإصرار حتى تحقيق الأهداف.
ولعلّ الحدّ الأقصى لهذا الحراك كان متبلوراً في شعار: «كلن يعني كلن»، أيّ أنّ الهدف النهائي هو إسقاط النظام الطائفي بما يعني إسقاط رموزه من نخب سياسية، وإسقاط سياسات، وإسقاط قواعد الحكم، التي تحكّمت في تسيير هذا النظام الذي آن الأوان لإسقاطه حسب التقدير الشعبي.
وكما أشرت في مقال سابق أنّ إجبار سعد الحريري (رئيس الحكومة المستقيلة)، على الاستقالة، كان أول مكاسب الثورة، كما أنّ الحراك الشعبي تمكن من إزاحة ما حاولت القوى المضادة للثورة إلصاق التهم يميناً أو يساراً، به.
حتى أنّ قطع الطرقات كوسيلة ضغط على النخب السياسية، كما أعلن في البداية، أعلن الحراك الشعبي تبرّؤه من هذه الوسيلة، لأنّ رسالة الحراك قد وصلت، كما أنّ التابعين للقوى المضادة والتي تمثلت في مثلث الشر للبنان (جعجع وجنبلاط والحريري)، حاولوا إساءة استخدام هذه الوسيلة الرمزية لإظهار دعمهم للحراك ظاهرياً، ومحاولة إشعار الجميع بوجودهم في المشهد، ومضايقة الناس وتعطيل مصالحهم! فبعد مرور أكثر من ستين يوماً، بدأت تتكشّف الأمور، ويتمّ فرز الأطراف ومواقفهم الحقيقية. فقد سعى سعد الحريري (رئيس الوزراء المستقيل) إلى طرح أسماء عدة تمّ حرقها جميعاً ورفضها الحراك الشعبي، وتظاهروا ضدّهم، حتى باتت العودة إلى خيار سعد الحريري (رئيساً للوزراء) مرة أخرى، مطروحاً بقوة، وبالتلاعب بألفاظ ومصطلحات، حكومة تكنوقراط، وتكنو سياسية، وتكنوطائفية، ومستقلة إلخ…
واستمرّ هذا الوضع الشائك، وسط دعم مباشر وغير مباشر من قوى المقاومة التي سعت من البداية للتصرف بأقصى درجات العقلانية الخالية من العواطف أو اللعب على الأوتار، ودرءاً للتآمر الذي يستهدفها، إلى أن تمّ طرح آخر ثلاثة مرشحين، كان أبرزهم وأكثرهم تأييداً من غالبية القوى والكتل السياسية في البرلمان اللبناني، وبجهد مكثف يرعى الصالح العام وجعله الهدف والوسيلة من جانب الرئيس ميشال عون، هو الدكتور حسان دياب.
فماذا عن هذا الرجل د. حسان دياب؟
لعلّ أساس الاختيار، والغالبية التي حظي بها حتى الآن، نحو (69) من أصل (128) نائباً في البرلمان، هو أنه شخصية مستقلة، وغير محسوب على أيّ تيار سياسي في المشهد اللبناني، كما أنه لم «يُضبط» يوماً ما، أنه كان شخصية سياسية. وكلّ ما شهده تاريخه أنه تولى منصب وزير التربية والتعليم العالي في حكومة الرئيس ميقاتي بعد عام 2011، ولم تحسب عليه واقعة فساد، أو انخرط في وقائع فساد داخل وزارته أو خارجها، وهي شهادة له من جميع القوى السياسية الداعمة والمؤيدة له، أو المضادة له. كما أنه أستاذ جامعي أكاديمي في الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسبات في كلية الهندسة والعمارة، ولديه أكثر من (130) منشوراً في مجلات علمية دولية ومؤتمرات، ويبلغ من العمر ستين عاماً. وتلك هي المعلومات الأساسية حول المكلف برئاسة الحكومة اللبنانية، والمؤيد والداعم للحراك الشعبي منذ بدايته في 17 تشرين الأول/ أكتوبر.
وفي كلمته بعد أن تمّت تسميته كرئيس للحكومة من قبل الرئيس ميشال عون، قال: أتوجّه اليكم كـ «مستقل»، وداعم للحراك، وملبٍّ لمطالب الشارع والثورة.
وتلك كلمات بسيطة تعبّر عن بداية حقيقية، للاستجابة للشارع وحراكه الثوري.
وأكاد أتوقع بالقبول الشعبي لهذا الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، وهي أول حكومة بعد الحراك الشعبي. ومصدر توقعي هو ذلك الحادث في صفوف الحراك الشعبي، ما بين صمت يشير الى الموافقة، وبين مؤيد، وهما معاً.. الأغلبية، بينما هناك أقلية رافضة تطالب بالتحرك نحو مقرّ إقامته لمطالبته بالاعتذار كالعادة مع المرشحين السابقين، وهؤلاء قليلون، ولم تتمّ الاستجابة الشعبية لذلك كما حدث مع السابقين أيضاً. كما أنّ قطع الطرقات الآن يتمّ بإيحاء من ثلاثي الشر وإنْ كان بشكل غير مباشر، وكذلك بشكل محدود، وبمواجهة حاسمة من الجيش في حالة التجاوز.
وتشير الوقائع على الأرض إلى أنّ المكلف بتشكيل الحكومة د. حسان دياب، يحظى بقبول غير مسبوق، وهو أساس احتمالات نجاحه في تشكيل الحكومة بشكل متكامل يجمع بين التكنوقراط والسياسيين، وبدرجة كبيرة، مكوّناً بذلك حكومة إنقاذ حقيقية، تخرج لبنان من عثراته الحالية وسياساته الرأسمالية الفاشلة، ومحققاً عدالة اجتماعية حقيقية، تحقق مطالب الحراك الشعبي.
وستصبح الاستجابة لمطالب الشعب والثورة، هي المعيار لاحتمالات نجاح حكومة دياب بعد التشكيل ونيل الثقة.
وفي التقييم الأخير، لتجربة تشكيل أول حكومة لبنانية بعد الثورة، يتّضح أنّ المقاومة استطاعت أن تتفادى المؤامرة التي كانت تُرتب ضدّها، وتتفادى الفتنة التي سعت اليها قوى الشرّ المضادة للثورة، للوقيعة بين المقاومة وبين الحراك الشعبي. كما أنها سعت للتنسيق مع الحريري والسنة على أمل الوصول لأفضل الخيارات، إلا أنّ الحريري فشل في الانتصار للمقاومة، والدليل على ذلك عدم تأييد نواب المستقبل في البرلمان، للمرشح الذي حظي بالغالبية وهو د. حسان دياب. الأمر الذي يعكس انتصار المقاومة، وفشل القوى المضادة للحراك الشعبي وللمقاومة في آن واحد. لتنتصر الثورة ويتأكد.. بانتصارها للمقاومة، ويصبح التحالف الحقيقي هو بين الحراك الشعبي وثورته وبين قوى المقاومة اللبنانية، وفشل التدخل الأميركي والصهيوني في الشأن اللبناني، الذي تأكدت معه وحدة جميع قواه السياسية ونضجها الوطني والقومي والعروبي.
|