أصدر الأمين نواف حردان كتابه الذي فيه كشف عن عدد كبير من "صانعي تراثنا" ممن طمس الاعلام الغربي حقيقة إنتمائهم إلى سورية، ونسبوهم إلى شعوب أخرى.
ولعل في كلمة المؤلف في تعريفه للكتاب ما يستحق الاطلاع، ليس للمعرفة فقط، إنما للاقتداء، فيسير غيره على خطاه، منكباً على دراسة تاريخنا وعلى إكتشاف ما طمس منه، مجسداً قول سعاده "هنيئاً للأمة التي لها تاريخ.. وويل للأمة التي لا تاريخ لها"
مقدمة الكتاب للأمين الشاعر غسان مطر،
كتاب مقاومة ومحاكمة
قلت ذات ليلة- وكنت بين ثلاثة يعلّقون على كتاب نوّاف حردان (سعاده في المهجر)، الجزء الأول- قلت:
(نعم أنا أمام شهادة. شهادة صحابي عتيق، ثبته الايمان حتى الاكتفاء والامتلاء، ونذر نفسه للجهر بما امتلأت به النفس وفاضت، وللدعوة إلى الصفوف البديعة النظام، صفوف النصر الذي لا مفر منه.
هذه الشهادة هي السر وهي العلامة الفارقة.
هي السر الذي يجعل القومي الاجتماعي رسولاً بالقول وبالفعل، وهي العلامة الفارقة بين قومي إجتماعي يمتطي العقيدة للتباهي والوصول، وآخر، مثل نواف حردان، يحملها صليباً ويبتسم، ويمضي منقباً وباحثاً ومبشراً حتى الاستشهاد).
وأراني اليوم، بعدما قرأت مخطوطة نواف حردان (صانعو تراثنا الثقافي والحضاري) أكثر إصراراً على القول، وأضيف: إن أحداً قبله، إلا سعاده، لم يشغله هم الاضاءات الكبرى على تاريخنا وتراثنا كما هو يفعل، ولم يمارس مثل هذا الترهب لخدمة شعبه وأمته وحضارته.
غير أن الأمين نواف، حين كرمني بمنحي شرف كتابة هذه السطور، مقدمة لأثره الكبير، كأنما أراد أن يمتحنني، إذ ماذا أكتب بعد (كلمته) التي إختزنت كل حبه وعظمة إلتزامه؟
أبادر إلى الاعتراف بأني سأستعير منه كي أكتب عنه، ولا عجب فلطالما استعارت الانهار من ثلوج القمم كي تفرش الارض عطراً وبهاء.
وإستعارتي منه تزيدني اتساع أفق وكرامة. فنواف حردان كاشف حقائق شوهتها الأيدي المخربة والعقليات المغرضة. وهو هنا مقاوم وقاضٍ، بالقلم والبرهان، هاجسه استعادة ما لنا من دور ريادي في عمارة الإنسان.
وليس شوفينية عمياء هذا التوغل في التاريخ لتصويب مساره، بل احترام للعقل وللعلم، ورد على ادعاءات وأوهام وأساطير حوّلها الغرب بإنحياز أعمى إلى ثوابت، وبنى عليها خلاصات واستنتاجات، وعمّها على أنها هي الطريق والحقيقة.
ولعل أبلغ ما يفضح العقل الاوروبي المتصهين وإصراره على العمى، هو تجاهله للاكتشافات البالغة الدلالات، في سورية الطبيعية، والتي تفرض على كل ذي بصيرة إعادة نظر جذرية في حركة العقل وإبداعاته.
وأبعد من التجاهل، هذا التعتيم المنهجي على كل ما يتعارض مع خرافات التوراة بتأثير وضغط من غلاة المتعصبين، في محاولة يائسة لوضع الشمس تحت مكيال.
ويبقى مزروعاً في الأذهان برغم التزوير والتزييف، أن الغرب يحترم العقل، ويدافع عن الحرية! (صانعو تراثنا الثقافي والحضاري) هو إذاً كتاب مقاومة وكتاب محاكمة.
هو كتاب مقاومة لأن غايته استرجاع ما اغتصب من تاريخنا من عمالقة فكر وعلم وفن وشرائع، وقد يُسجِّل أسم نواف حردان غداً على لائحة الارهاب لأنه يقاتل دفاعاً عن حق شرعي.
وهو كتاب محاكمة لأن فيه من الاثباتات والبينات ما يقلب مجرى دعوى الاختلاس التي يحاول الصهاينة والمتصهينون كسبها عن طريق التزوير وإخفاء الحقائق.
بهاتين الصفتين، يكمل نواف حردان بناء، إعتبره قضية حياته، منذ أن آمن والتزم. ورواياته الخالدة (حفيد النسور) و(هاني بعل رسول حضارة) و(زنوبيا العظيمة) هي عنوان لهذا البناء وهذا الايمان.
ولقد كتبت فيه يوماً ما هنا موقعه، قلت:
(يأسرني في هذا الشاب الذي قارب السبعين عشقه للمُخَّبأ العظيم من حضارة شعبه، ينكبّ عليه كما ينكب على رسائل الحبيبة، يقرأه بنبض القلب، حتى إذا ما اكتملت لديه لوحة الحقيقة، اهداها للناس تفاحة شهية تغري، لا لتقود إلى الخطيئة بل إلى الفضيلة).
وبعد،
فهذا الكتاب يثبت أنّ الأمانة جدارة وأنّ لها معايير، وأنّ أمثال نواف حردان، بما أعطوا ويعطون، هم الرسل، وأن الانتصار وقف على العقول المتفجرة لا على العقول المتحجرة.
كلمة المؤلف
لأول مرة يصدر في بلادنا كتاب من هذا النوع، يضم بين دفتيه، ما يصح تسميته تاريخ شعبنا الفكري الثقافي القديم، بكر تواريخ الأمم والشعوب الأخرى.. وسير الذين صنعوه من الرجال والنساء، عظماء الثقافة والفكر، المعروفين منهم والمجهولين منا، وكانوا الرواد الأوائل السباقين، في بناء صروح الحضارة الانسانية، والينابيع الكريمة المغداقة، التي تدفقت على العالم وسقته من نسخ إبداعها الخلاق، كل علم وكل فكر وكل فلسفة وكل فن.
لم تكن سهلة أبداً كتابة هذا الكتاب، لأنه كان عليّ أن أغوص في بطون التواريخ القديمة، الأجنبية منها بنوع خاص، وفي صفحات القواميس العديدة، باحثاً منقباً بصبر ومثابرة وجهد وعناء كبير، عن المجهولين من عظماء تاريخنا الثقافي، الذين لا يعرف شعبنا عنهم سوى القليل جداً والكثيرين منهم الذين سرقهم الأجانب وادعوا جنسيتهم، وعن شذارات قليلة نادرة شبه مفقودة من سيرهم، متفرقة ومبعثرة هنا وهناك، ضبابية وغامضة ومتناقضة أحياناً، فامحصها وادقق فيها، وانزع عنها الضباب والغموض، واستكشف الحقيقة، لتعود وتظهر أمامنا واضحة و صادقة وساطعة.
لا أزعم اني تمكنت من العثور على سير جميع أولئك العظماء .. فسير العديدين منهم لا تزال ضائعة وغارقة في أعماق التواريخ الاجنبية، لم أكتشف من بعضها سوى الضئيل، في سطور قليلة جداً، لا تسمن ولا تغني عن جوع..
ولكن هذا لم يثبط همتي أو يقنعني بوجوب التوقف.. فتابعت عملي إلى أن توصلت إلى ما توصلت إليه.. أملاً أن يأتي بعدي من يستأنف البحث.. ويعثر على الحجارة الناقصة.. لكي توضع على المدماك فتكتمل العمارة.
حرب على شعبنا وتراثه
عديدون هم الرجال والنساء السوريون العظماء، الذين قدموا لبلادهم وللانسانية خدمات كبيرة جليلة الفائدة، وقاموا بتحقيقات خالدة.. لكن آثارهم الغنية طمست، كما شوّهت سيرهم أو أتلفت أو لفّها الغموض، فلم يبق منها سوى سطور وعبارات قليلة، موزعة هنا وهناك، بسبب التعتيم المقصود الذي نشره اليونان عليها، والحرب التي شنها اليهود على تراثنا الثقافي، بقصد إلغائه، ومتابعة تلك الحرب من قبل المسيحية فيما بعد، بعنف أشد وفاعلية أقوى، بحجة (مكافحة الوثنية)، وتعصباً لتوراة اليهود وما جاء فيها من تناقض مع العلم والعقل والمنطق.
عرض تاريخي
سرق اليهود قصص وأساطير وشرائع السوريين القدماء، وعدلوا فيها ومسخوا بعضها، وأثبتوها في التوراة ونسبوها إليهم. وظلت هذه القصص والأساطير محفوظة في التوراة، كتاب الدين اليهودي، يتداولونها ويتناقلونها، بينما راحت القصص والأساطير السورية، تدخل عالم النسيان والمجهول، مع أسماء مؤلفيها، إبتداء مع وقوع سورية تحت سيطرة الفرس، وتعرضها بعد ذلك للغزو اليوناني وإحتلال الإسكندر المكدوني لها.
ولكن الثقافة السورية القديمة، لم تتراجع تراجعاً تاماً وينسها الناس، إلا بعد إنتصار المسيحية كما سيتبين.
دخلت سورية خلال الإحتلالين الفارسي واليوناني (539-320) ق.م. وغزو الثقافتين الفارسية والهيلينية لها، في طور من الدفاع عن النفس، والنقاهة من الجراح النازفة الكثيرة، ولكن ثقافتها لم تسقط كلياً.. بل ظلت صامدة ثابتة، تقاوم بشجاعة كبيرة المحاولات العديدة للقضاء عليها.
قاومت بابل غزوة كورش لها عام (539) ق.م. بقوة وبأس وتعالي.. وإستهزأت أسوار العاصمة السورية الشاهقة بجيوش الغازي الجرارة، فكاد كورش الكبير ييأس من إحتلالها، ويتراجع أمام ضخامة ومتانة أسوارها التي لا تؤخذ، لو لم يسرع اليهود المسبيون في بابل إلى نجدته، بزعامة النبي اشعيا الثاني فيغدرون بالمدينة في ظلام الليل والخيانة، ويفتحون لكورش أبوابها في غفلة من حراسها والمدافعين عنها.
وعندما دخل كورش بابل، سجد أمام آلهتها ووضع نفسه تحت حماية مردوك سيد الآلهة الأكبر، إلا أنه كافأ اليهود على خيانتهم وإسراعهم لنجدته، فسمح لهم بالعودة إلى فلسطين.
وقاومت صور الباسلة، حصار الاسكندر المكدوني لها (332) ق.م. فلم تتساقط أسوارها إلا بعد مقاومة رائعة، ووقفة عز مجيدة سجلت بطولاتها في صفحات التاريخ، وستبقى مسجلةً إلى الابد.
إستولى الفرس على سورية، ولكن سورية لم تقهر، فقامت بابل بثورات ثلاث على الفرس، أولاها كانت بقيادة نبوخذ نصر الثالث شقيق بيلشصر وابن نابونيد، كادت تؤدي إلى طردهم من البلاد، لولا خيانة الخونة وغدرهم بالثائرين، كما قامت صيدا بثورتين وقبرص بثورة أخرى.
إستولى الفاتح الفارسي على سورية، إلا أن نفسيتها لم تسقط.. وسرعان ما انتصرت على الفاتحين نفسياً وثقافياً، فصارت اللغة الآرامية السورية لغة الإمبراطورية الفارسية الرسمية، من الهند إلى مصر إلى آسيا الصغرى.
وهدم احشورش الأول قسماً من بابل، إنتقاماً منها بعد ثورتها الثالثة، إلا أن العاصمة العظيمة ظلت قائمة بهياكلها الكبيرة الفخمة وحدائقها المعلقة، رافعة الرأس مزدهرة العلم كثيرة الإشعاع، وعندما احتل الاسكندر الكبير بعد تغلبه على الفرس بابل، استولت عليه الدهشة لما رآه من فخامتها وقوتها وعمق ثقافتها. فوضع نفسه أيضاً تحت حماية مردوك، وراح يرمم ما هدمه الفرس منها.. وبالرغم من الاحتلال الهيليني، ظلت جامعتا أوروك وبورسيبا، تتألقان وتستقبلان وفود طلاب المعرفة والحكمة من أقاصي مصر وفارس واليونان.
من هاتين الجامعتين الكبيرتين، نهل علماء اليونان وفلاسفتهم الأول معارفهم، وحصلوا على كنوز الحكمة والرياضة وعلم الفلك. ولم يعد سراً لدى المدققين الباحثين بأن آباء المعرفة والحكمة الأوائل المعروفين طاليس وفيريسيد وبيتاغور وانوكسيمندر وديموقريط وغيرهم، تلقنوا في جامعة بورسيبا (مدرسة المجوس)، ما لقنوه للغرب من فلسفة وعلوم رياضية "وفلكية، وعلى هذا يعلق المؤرخ ج. ماستيرو في كتابه (التاريخ القديم لشعوب الشرق) صفحة 676 بما يلي:
"ووجد اليونان في بابل، قواعد كاملة وتعليمات مكتوبة تخولهم معرفة الروابط المتينة، التي تربط الحركات بالقبة السماوية، بالحوادث التي تقع على الارض، وتشرح مطولاً كيفية تأثير الكواكب على ظواهر الطبيعة" ثم يقول:
"وانحنت اليونان أمام تفوق بابل بعلوم الفلك والتنجيم والحكمة فاستمدت منها أصولها"
في هذه الأثناء أي بعد الاحتلال الفارسي، كان عزرا النبي اليهودي قد عاد من بابل إلى اورشليم وبدأ كفاحه الكبير لتطوير الدين اليهودي. وتلقيحه مرة أخرى بما تعلمه من حكماء بابل وكهنتها وفلاسفتها فكتب التوراة من جديد بمساعدة النبي ملاخي، وعدل الشريعة وأصلح ما كان كتبه حلقيا من قبل وأضاف إليها، وحذف منها سفري ياشر وأخنوخ، إلا أن التوراة لم تكتمل وتأخذ شكلها الأخير النهائي.. ولم يكن قد كتب سفر دانيال بعد ، وسفرا المكابيين الأول والثاني.
وظلت التوراة كتاباً دينياً يهودياً خاصاً، مجهولاً كل الجهل من الشعوب الأخرى لا شأن له ولا قيمة.
بعد موت الاسكندر (323) ق.م. واستقلال سلوقس نيكاتور بالملك في سورية (312) عادت الأمة السورية إلى تأكيد نفسها، فانتفضت على الضعف والاستسلام للغريب، وهضمت الغزاة الغرباء فذابوا فيها، حتى تميز العهد السلوقي بسوريته البارزة المتغلبة. وانتصرت في ذلك العهد المعتقدات السورية وسادت من جديد، فكان مردوك البابلي يعبد في أنطاكية عاصمة سورية الجديدة، ويحتفل كل عام بذكرى قيامة أدونيس الإله الفينيقي من الموت احتفالاً كبيراً جداً، كما كان الملوك السوريون يرسلون كل عام عطاياهم ونذورهم إلى هيكل الإله ملقرت في صور، الذي كان يحتفل بعيده في أول الربيع.
لم تتهلين سورية كما يتوهم البعض في العهد السلوقي، بل تسورن السلوقيون كلياً، وطبعتهم سورية بطابعها الخاص المميز، ولنا إلى هذا الموضوع عودات في مقالات وابحاث أخرى.
وفي العهد السلوقي، كتب المؤرخ والكاهن والفلكي البابلي الكبير برعوشا (247) قبل الميلاد، باليونانية، كتابه الخالد "تاريخ بابل وآشورية (التوراة البابلية)" وضمنه تاريخ آشورية أو سورية منذ أقدم العصور، وأصول شعوبها ومعتقداتهم وشرائعهم الراقية وأساطيرهم وعلومهم.
ومما لا شك فيه.. أن برعوشا فعل ذلك، بدافع وطني قومي، رداً على ترجمة التوراة إلى اليونانية (250) ق.م. بناءً على رغبة بطليموس الثاني ملك مصر.
علم بطليموس بوجود التوراة اليهودية من بعض اليهود المقيمين في الاسكندرية، وكان محباً للعلوم والآداب والتاريخ، فأمر بترجمتها لليونانية فترجمت، وبدأت الترجمة تنتشر في مصر وسورية واليونان. وكان برعوشا عندئذ يقوم بوظيفته كأستاذ لعلم الفلك في جزيرة كوس.
اطلع برعوشا على التوراة اليهودية فهاله ما قرأ فيها. وكانت دهشته واستنكاره لما رآه ولمسه من سرقة وتزوير كبيرين جداً. فأسرع إلى كتابة تاريخ بابل وآشورية، الذي ضمنه جميع الشرائع والاساطير السورية القديمة، قاصداً من ذلك فضح الخديعة اليهودية وكشف الحقيقة، وإقناع العالم بأن الشرائع والاساطير التوراتية، إنما هي شرائع وأساطير مزورة ومسروقة، وكانت موجودة ومعروفة من قبل سورية.
ورمى المؤرخ السوري الخارق الذكاء البعيد النظر، من وضع ذلك الكتاب القيم الجليل الفائدة، إلى غرض آخر أيضاً، هو لفت نظر الملك الحاكم في سورية يومئذ، انطيوخوس الثاني، إلى الخطر الذي سيشكله اليهود على سورية في المستقبل.
ولم يمر كبير وقت - ثمانين عاماً فقط – على كتابة تاريخ برعوشا، حتى صح ما توقعه وحذر منه، فقام اليهود في فلسطين بزعامة المكابيين، بالثورة على الملك السوري انطيوخوس الرابع (168) ق.م. وراحوا يطالبون بالانفصال عن جسم الامة السورية وينادون بالاستقلال الذاتي، تشجعهم رومة، اميركانية ذلك العصر، على ذلك.
وسقط العهد السلوقي بعد مئتي عام تقريباً، واكتسحت رومة سورية الغربية بما فيها فلسطين (65) ق.م. فتراجعت التوراة اليهودية أمام سخرية الرومانيين واضطهادهم لها، ثم جاءت المسيحية فانتصرت بعد كفاح طويل
|